تصور انك تبني مدينة تتسع لمئة مليون انسان مقامة علي شكل أبراج سكنية بارتفاع عشرين دورا للبرج الواحد وشوارعها لا يزيد عرضها عن أربعة أمتار وبلا شبكة للصرف الصحي ولا خطوط لمياه الشرب ولا خطوط كهرباء ولا طرق ممهدة ولا شبكة إتصالات … تصور كيف ستكون حياتك في هذه المدينة ! بل هل سيكون هناك حياة أصلا !! أحتفظ بهذا الصورة الذهنية للحظات من فضلك.
تعمل وزارة التربية والتعليم علي تطوير منظومة التعليم المصرى وتسعى إلي تحسين نوعية التعليم فالمؤشرات الدولية تقول أن مصر تحتل مركزا متأخرا في التصنيف الدولي من حيث جودة التعليم لا يليق بها وتاريخها الحضاري. تبنت الوزارة مشروع استخدام التابلت في المدارس والإلغاء التدريجي للكتب المدرسية وتغيير الانماط التقليدية من التدريس. لكن التجربة تواجه تعثر وتحديات هيكيلية، فمن أهم أسبابها ضعف البنية التحتية التكنولوجيه مثل الانترنت فائق السرعة، وقلة عدد الكوادر المهنية المدربة علي التدخل السريع في حال وجود مشكلات تقنية، بالإضافة إلي ضعف خبرات ومهارات المعلمين من حيث إجادة استخدام التعامل مع الكمبيوتر وتطبيقاته المتسارعة.
في مشهد أخر تريد الدولة تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة التعاملات البنكية والتحول التدريجي للتعاملات الرقمية بديلا عن التعاملات النقدية المباشرة مع زيادة حجم الاقتصاد الرسمي في مقابل الاشكال غير الرسمية للاقتصاد غير الرسمي التي تتسبب في خسارة الدولة لموارد هائلة يمكن لها أن تغذي موازنتها العامة نتيجة التهرب الضريبي حيث تقدر بعض البيانات أن 60 % من حجم الاقتصاد الكلي هو اقتصاد غير رسمي. من ضمن المبادرات المتبعة لتحقيق أهداف الدولة هو الشمول المالي كأحد المبادرات التي تستهدف الوصول إلي مضاعفة أعداد السكان ممن لديهم تعاملات بنكية. التجربة تواجه تحديات كبيرة وتعثر واضح نتيجة لغياب البنية التحتية لهذا التحول مثل توافر بنوك تكفي نمو الأعداد المطلوب تحقيقها، قلة الوعي والمعرفة للمواطنين بكيفية استخدام أدوات الدفع الالكتروني والتعاملات البنكية، الخوف الكامن والمستوطن في أعماق الانسان المصري من الافصاح عن مدخراته وارصدته المالية ومصادرها، ضعف التكنولوجيا المعلوماتية وضعف سرعة النت. ومن الأمثلة التي تلخص ما سبق إنتشار صور – علي وسائل التواصل الاجتماعي – لتجمعات بشرية حول ماكينات الصراف الآلي وكلهم يتشاركون النظر للارقام السرية لبطاقات الائتمان وتظهر عبارة “حافظ علي رقمك السري وبطاقتك الإئتمانية” كسخرية للوضع!
المشاهد الثلاث السابقة تقودنا إلي نتيجة أنه لا يمكن العيش في مدينة مكتظة بالسكان بلا بنية تحتية تتمثل في توافر الطرق المعبدة والمواصلات وأنظمة الصرف الصحي والكهراباء ومياه شرب. كما أنك لن تنجح في تطوير التعليم أو التوجه نحو الاقتصاد المميكن دون وجود بنية تحتية تمتد من البنايات المجهزة إلي الموارد البشرية التي تتمتع بمهارات عالية إلي شبكات الانترنت فائق السرعة. إذا لا تطوير ولا تقدم بدون بنية تحتية قوية.
لحقوق الانسان والديمقراطية في اي مجتمع بشري شروط وقواعد يجب توافرها لكي تنمو وتزدهر ويتم ممارستها واحترامها لتحقيق الغايات الأسمي منها وهي العيش بكرامة في مجتمع صحي والإستمتاع بالسعادة الإنسانية. فالبناء الديمقراطي والحقوقي يحتاج إلي بنية تحتية تُمثل مجموعة القواعد والشروط التي يجب توافرها في أي مجتمع يمكن وصفه بأنه مجتمع ديمقراطي.
ولكي نحدد البنية التحتية التي تقوم عليها حقوق الانسان والديمقراطية، علينا التعرف أولا علي المبادئ الاسياسية للديمقراطية والحقوق الأساسية التي أقرتها المواثيق الدولية!
الأسس السياسية التي تقوم عليها الديمقراطية – في حدودها الدنيا – تتمثل في ثلاث مبادئ رئيسية: (1) سيادة الشعب في إطار دولة القانون واحترام إرادته وحقه في اختيار ممثليه، ومراقبة عملهم بما يضمن السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والمساواة؛ (2) التعددية السياسية والثقافية وممارسة واحترام الحريات الفردية والجماعية؛ (3) الفصل الحقيقي للسلطات كمبدأ ديمقراطي لا رجعة فيه.
أما حقوق الانسان فتصنفها المواثيق الدولية إلي مجموعتين رئيسيتين منها المجموعة الأولي وهي الحقوق المدنية والسياسية وتشمل الحق في التجمع السلمي والحق في مباشرة الحقوق السياسية دون اقصاء أو خوف والحق في محاكمات عادلة، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التنظيم السياسي والأهلي والنقابي. والمجموعة الثانية يلخصها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي يدعم حق الانسان في التنمية، والسكن الملائم، والعمل اللائق، ومياه شرب نظيفه، وبيئة معيشية ملائمة وغيرها.

من تحليل أوضاع الدول التي نصفها بالديمقراطية والتي تحترم حقوق الانسان وبين الدول التي تعاني من غياب الممارسات الديمقراطية وإنتهاك لحالة حقوق الانسان، يمكن إستنتاج البنية التحتية التي نحتاج إليها: (1) التعليم والمعرفة: فالمجتمعات التي تنتشر فيها الأمية والجهل هي مجتمعات تنحاز للأنظمة السلطوية وتنتفي عنها لغة الإستنارة والمطالبة بالحقوق والمشاركة في إدارة الحكم؛ (2) وجود بيئة داعمة وحاضنة للجميع inclusive and enabling environment يمكن من خلالها التنافس بين مجموعات تتمتع بذات الفرص المتساوية لتصل إلي الحكم بغية خدمة المجتمع وفق برنامجها السياسي؛ (3) توافق المؤسسات الدينية في بناء انسان قابل للنقد وانسان مفكر ولا يخشي من سيف التفسيرات البشرية للنصوص الدينية ويكون الاجتهاد آمرا مقبولا والإقرار بأن إدارة الحكم البشري مختلف عن الإدارة الإلهية لمصير الانسان؛ (4) إيجاد نمط قيادي متسامح مع ذاته وقادر علي قبول عملية تداول السلطة في حيز سلطاته مثل الاحزاب السياسية، النقابات المهنية والعمالية والمنظمات الأهلية فيعم النموذج ويكون مقبولا في مختلف طبقات الحكم وإدارة شئون البلاد؛ (5) التمتع بقدر مناسب من القدرات الاقتصادية والتكنولوجية للمجتمع والفرد فبدون تلك القدرات الاقتصادية تعاني المجتمعات من الفقر وعشوائية التخطيط والرضوخ للاستعمار بكافة أشكاله وبدونها يعاني الأفراد من التهميش والهشاشة المجتمعية ويرضخ في النهاية للإستغلال المجتمعي والديني وغيره من أشكال الاستبداد البشري.
الدفاع عن النظام الديمقراطي وضرورة إحترام وممارسة حقوق الإنسان هو الدفاع عن الحق في حياة كريمة “إن ما يرضي البشر حقا ليس الوضع المادي بقدر ما يرضيهم الإعتراف بوضعهم وكرامتهم” كما يؤكد استاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما صاحب كتابة “نهاية التاريخ والانسان الاخير”، كما أنها ضمان لفرص متساوية والتمتع بالسعادة الإنسانية ، وهو الدافع الذي ينبغي أن تعمل عليه الانظمة الحاكمة ومؤسسات المجتمع المدني.
وعليه يمكن القول بأن ركن أساسي من أركان تأزم المشهد الحقوقي والسياسي في مجتمعاتنا أن البعض يريد قطف ثمار الديمقراطية الناضجة في الغرب مع علمهم بضعف بنيتها التحتية في مقابل تأكيد البعض الأخر أن الأولوية هي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويجب العمل علي سد احتياجات المجتمع الأساسية من ماكل ومشرب ومسكن. وفي زاوية أخرى نتناسى الاجابة علي سؤال ما هي أولويات المجتمع نفسه في سد احتياجاته وهل ما نتعارك عليه هو ذاته ما يطالب به المجتمع! يتبعثر المشهد ونحتاج لتفكير عميق في الإجابة علي السؤال الجوهرى كيف نضع خريطة طريق لبناء البنية التحتية لمجتمع ديمقراطي حقيقي في منطقتنا العربية؟!
