مارك مجدي
باحث في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية
جغرافياً، تقع فرنسا في نقطة قريبة جداً من أفريقيا والشرق الأوسط، وهذا يعني أنها تتأثر مباشرة بالتطورات التي تحدث في تلك المناطق، فأي شيء يحدث في الشرق الأوسط وأفريقيا هو مسألة ذات أهمية وطنية لفرنسا، وهو واقع لن يتغير”. يقول دينيس بوشارد مستشار الشرق الأوسط بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية, و هي عبارة مختصرة تلخص علاقة فرنسا بالشرق الأوسط و شمال أفريقيا, حيث ترتبط المصالح الجيو السياسية الفرنسية ارتباط وثيق باستقرار المنطقة. و العلاقة مع الدول العربية بالنسبة لفرنسا هي علاقة متعددة الأبعاد, من الاقتصاد حيث الصادرات الفرنسية إلى الدول العربية تصل إلى نصف تريليون دولار, و تستحوذ دول الشرق الأوسط و شمال أفريقيا علي 50% من إجمالي مبيعات السلاح الفرنسي حول العالم, إلى البٌعد الأمني حيث تقع قضية مكافحة الإرهاب و قضية الهجرة من الدول العربية في صلب اهتمام فرنسا, و التي يقدر عدد المسلمين فيها بنحو 7 مليون نسمة أغلبهم من العرب.
الأوضاع الجيو سياسية تفرض علي فرنسا أن تلعب دوراً هاماً في المنطقة العربية منذ أن نشأت الدولة الفرنسية الحديثة, خصوصاً بعد أن أتضح أن المنطقة العربية لم تعد علي قائمة أولويات الولايات المتحدة كما كان الوضع سابقاً, فبينما تجري الأن النقاشات حول فعاليات الانسحاب الأمريكي الكبير من الشرق الأوسط, علي ضوء تاريخ من التدخلات العسكرية و السياسية التي مثلت بالنسبة لكثيرين فشلاً كبيراً, لا تملك الدولة الفرنسية رفاهية التغاضي عن التفاعل في المنطقة العربية التي تمثل محيط جيو استراتيجي في منتهى الأهمية بالنسبة لكل من أوروبا و فرنسا بالتحديد. فلقد اتضح للدول الأوروبية أنها لا تستطيع الاعتماد علي أي طرف خارجي في تأمين مصالحها في الشرق الأوسط, بعد أن خيبت الولايات المتحدة أمال الأوروبيين مرات عديدة, أخرها كان الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان. رغم ذلك, لا يمكننا الحديث عن رؤية استراتيجية فرنسية واضحة المعالم تخص المنطقة العربية مقارنة بالاستراتيجية الأمريكية أو البريطانية علي سبيل المثال, فلقد كان التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا عام 2011 هو قراراً محملاً بترتيبات عالمية تديرها و تنظمها الولايات المتحدة الأمريكية, تلك الأخيرة التي تبنت مشروعاً استراتيجياً مستند علي إعادة صياغة أنظمة الحكم في الدول العربية ,ارتباطاً بما سمى بأحداث “الربيع العربي”. و قد عبر الرئيس الفرنسي ماكرون عن ذلك في مناسبات عديدة, متحدثاً عن الإشكاليات التي نجمت عن التدخل الدولي في ليبيا و التي أثرت بالسلب علي كل من المنطقة في المجمل و علي فرنسا بشكل خاص. و المستقر في المنظومة الفرنسية هو أن السياسة الخارجية و السياسة الدفاعية هي مجالات يختص بها الرئيس بصلاحيات شبه مطلقة, هذه السلطة أنشأها مؤسس الجمهورية الخامسة، شارل ديغول، واستغلّها الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، على الرغم من أن رؤساء آخرين كانوا أقل اندفاعاً لممارستها على أكمل وجه, بينما لم يفوت ماكرون أي فرصة للتدخل بحماس في الشرق الأوسط بالشكل الذي يخدم بلاده. وقد عبر ماكرون طوال فترة رئاسته عن الاتجاه الواقعي في السياسة الخارجية الفرنسية, و هو الاتجاه الذي يقر بضرورة التعامل مع الأنظمة العربية القائمة عوضاً عن محاولة فرض “الديمقراطية” علي المجتمعات العربية , ففي نهاية المطاف أدت أحداث الربيع العربي إلى موجة اضطراب في المنطقة العربية و المحيط الأورورمتوسطي الأوسع.
ورغم أن الشرق الأوسط هو بمثابة مقبرة لكثير من المبادرات الدبلوماسية عبر التاريخ, إلا أن الرئيس ماكرون قد سعى لاثبات الزعامة الفرنسية من خلال طرحه حلولاً لمعالجة ملفات المنطقة, وتمثلت العودة الفرنسية إلى الشرق الأوسط وشمال أفريفيا في المبادرة الفرنسية تجاه لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت, حيث زار ماكرون لبنان مرتين وطرح مبادرة لحل الأزمة عبر محاولته لحشد الجهود الدولية لإغاثة لبنان, كما زار العراق مرتين ليؤكد بقاء القوات الفرنسية في الداخل العراقي لمساعدة القوات العراقية علي

بقاء القوات الفرنسية في الداخل العراقي لمساعدة القوات العراقية علي تأمين العراق حتي في حالة الانسحاب الأمريكي التام, كما عزز ماكرون الوجود العسكري في منطقة شرق البحر المتوسط من خلال نشر وحدات عسكرية فرنسية بهدف دعم قبرص و اليونان في نزاعهما مع تركيا, و كذلك من أجل جماية الشركات الفرنسية للتنقيب عن الغاز قباله شواطيء قبرص, و هو السبب نفسه الذي دفع فرنسا لاثبات حضورها في الملف الليبي من خلال تقديم مبادرات لحل الأزمة في سبيل حماية مصالح شركة توتال التي تعمل في ليبيا منذ 70 عاماً. بالإضافة للوساطة الفرنسية في الملف النووي الإيراني بين واشنطن و طهران, التي سعي ماكرون للترويج لها ليضمن نصيباً لفرنسا في المستقبل من مكاسب عقود البنية التحتية و الصناعية في إيران.
و قد حدد معهد مونتين الفرنسي institute montagne و هو مؤسسة بحثية فرنسية مرموقة, بعض المحددات التي تؤشر لتصاعد الدور الفرنسي في الشرق الأوسط كالتالي : 1- مواجهة النفوذ الروسي المتصاعد في المنطقة 2- فك الارتباط بالسياسة الأمريكية 3- الطموح الفرنسي بالإمساك بزمام القيادة الأوروبية 4- تصدير فرنسا لنحو نصف صادرتها من السلاح إلى المنطقة 5- مواجهة خطر انتشار الإرهاب علي فرنسا بشكل مباشر و قد تكون النقطة الأخيرة هي الركيزة التي تنطلق منها فرنسا في سياستها المُعدلة نحو الشرق الأوسط. فقد توالت الأحداث الإرهابية في الداخل الفرنسي في العقد الأخير بالأخص علي يد مهاجرين في فرنسا من خلفية دينية إسلامية, دفعت الدوائر الفكرية و السياسية الفرنسية نحو معالجة التنازع الدائر بين القيم العلمانية الفرنسية و القيم الدينية التي يحملها المهاجرون العرب إلى فرنسا, ليس باعتبارها مجرد قضية راجعة للاختلاف الثقافي بين الشرق و الغرب كما كان يٌنظر إلى الأمر سابقاً (حيث كانت تنظر النخب الفرنسية المتأثرة بالنزعات الاستشراقية إلى التطرف الإسلامي بصفته صفه طبيعية تلازم كل فرد عربي و مسلم), بل أصبح ينظر لظاهرة التطرف الديني باعتبارها نتيجة توغل و انتشار التنظيمات الإسلامية المتطرفة في المجتمعات الإسلامية, ارتباطاً بمشروع الصحوة الإسلامية الذي انطلق في السبعينيات, أي أنها ظاهرة وقتية ممكن إزالة أثارها في حالة تم إعادة صياغة الفكر الديني الإسلامي علي أسس حداثية. و هو متغير جوهري و رئيسي في النظرة الفرنسية العامة للشرق الأوسط و قضية علاقة الثقافة الحداثية الفرنسية بالثقافات المحيطة, التي لطالما تعامل معاها الفرنسيون بصفتها ثقافات راسخة غير قابله للتغيير لدي شعوب المنطقة, فمع صعود هذه الرؤية الجديدة أصبح لدى الرئيس الفرنسي و بعض النخب الفرنسية مقدمات لرؤية ثقافية للتعامل مع الشرق الأوسط و قضية التطرف و الإرهاب الديني تتجاوز المصالح اليومية الضيقة نحو رؤية استراتيجية بعيدة المدى, و هو ما تتميز به فرنسا من بين كافة الدول الغربية التي تتعامل مع قضايا الشرق الأوسط و شمال أفريقيا.
وقد عبر الرئيس الفرنسي عن ذلك في مناسبات مختلفة في حديثة عن ضرورة التمييز بين النسخ المتطرفة من “الإنفصالية” الإسلامية بتعبيره, و بين الإيمان الإسلامي التقليدي, بعد صدور قانون مكافحة الانفصالية الإسلامية في العام الماضي, الذي” يسعي إلى تغيير الظروف التي تسمح لأولئك الذين يروجون للنسخة الإسلامية المتطرفة باالهيمنة، لا سيما من خلال الجمعيات أو المدارس القرآنية التي تعتبر أدوات لتجنيد أعضائها و المرتادين عليها نحو التطرف”, بتعبير ماكرون في خطابه بمدينة “لي مورو” في أكتوبر العام الماضي. فبينما كانت تنظر النخب السياسية و بعض المراكز البحثية الأمريكية للتنظيمات الإسلامية الدينية باعتبارها بديلاً قوياً و ملائماً عن النظم “الاستبدادية ” في الدول الإسلامية, تشترك فرنسا مع كل من مصر و السعودية و الإمارات في الرؤية التي تعتبر هذه التنظيمات هي منظمات إرهابية و ليست بديلاً ديمقراطياً مطروح علي المجتمعات العربية. و هكذا تقاربت رؤى ماكرون للمنطقة مع خطاب الأنظمة العربية غير “الديمقراطية”, حيث لم تعد قضايا تطبيق الديمقراطية و الحوكمة هي العنصر الحاسم في تحديد علاقة فرنسا مع الدول العربية, بل أصبحت قضايا الاستقرار و مكافحة الأرهاب لها الأولوية. و بناء علي ذلك, وضع قانون مكافحة الانفصالية الإسلامية, الذي افترحة ماكرون, مفهوم “الإسلام الأنواري” الذي يتوافق مع الثقافة الفرنسية و مفاهيمها, أي إلى تجديد الفكر و الخطاب الإسلامي ليصبح متوافقاً مع القيم الحداثية العصرية التي تقر بحقوق الإنسان المختلفة. و ربما يكون هذا البُعد الثقافي هو الجديد الذي أضافه ماكرون علي الرؤية الفرنسية لقضايا الشرق الأوسط و شمال أفريقيا, غير ذلك, فلقد أتي ماكرون للسلطة في ظل توجه خارجي مستقر بالفعل للدولة الفرنسية يعتمد بشكل رئيسي علي “طمأنة” الأنظمة العربية بتعبير لي فوتار المحلل و الكاتب الفرنسي, و توطيد العلاقة الفرنسية معها بعد أن شهدت المنطقة تغيرات راديكالية أدت إلى فوضي و صراعات أثرت بالسلب علي المصالح الفرنسية
فبعد أن دعمت فرنسا الثورة السورية و اسقاط حكم القذافي في ليبيا و الثورة في التونس, رغم كونها حظت بعلاقات جيدة نسبياً مع النظام التونسي و الليبي, أدركت فرنسا أنها ارتكبت أخطاء جسيمة أضرت بمصالحها في المنطقة, مدفوعة بذلك بالضغط الأمريكي, و سرعان ما تداركت الموقف و شرعت في تثبيت و دعم علاقاتها بأنظمة عربية مثل المغرب و السعودية و مصر لاحقاً, رغم أنها شنت هجوماً علي هذه الدول عام 2011 عندما صرح آلان جوبي, في خطاب بعد بدأ ولايته الثانية كوزير للخارجية، أن فرنسا كانت قد استسلمت في السابق إلى “الرضا” عن العمل مع الأنظمة الاستبدادية, وتحتاج إلى بذل المزيد لدعم التطلعات الديمقراطية والاقتصادية في المنطقة”. لكن تخلت فرنسا عن هذا التوجه سريعاً, بل و تخلت عن جوبي نفسه كوزيراً للخارجية. و عادت مرة أخرى لتؤسس لعلاقات قوية مع الأنظمة العربية لصالح استقرار المنطقة و توزانها, متناسيه الخطاب الضاغط علي هذه الأنظمة من أجل الديمقراطية و حقوق الإنسان. ترتكز السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط إذاً علي دعم الاستقرار الشامل (السياسي و الأمني ) و ترسيخ التعاون مع الأنظمة الحاكمة في هذه الدول, متغاضية عن المعايير الخاصة بال”ديمقراطية ” و حقوق الإنسان, التي لطالما حالت دون التوافق الكامل بين الدول الغربية و الأنظمة العربية بمختلف توجهاتها, نحو مزيد من التعاون في ملفات مكافحة الإرهاب و التطرف, و التعاون مع كل من مصر و السعودية و الإمارات في مواجهة الطموح التركي في المنطقة, بالإضافة لمحاولة إزاحة النفوذ الروسي الجديد و المتصاعد, و سد الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة (التي لطالما اختلفت معها فرنسا في رؤيتها لقضايا الشرق الأوسط أهمها رفض فرنسا لغزو العراق) مع تركيزها علي الصراع مع الصين في منطقة جنوب شرق أسيا أو منطقة الإندو باسيفيك بتعبير البنتاغون الأمريكي.