في الفترة من 8 إلى 9 نوفمبر الحالي تنطلق جولة جديدة من الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة الامريكية بعد توقف دام لأكثر من 12 عاما. الجولة الحالية من الحوار الاستراتيجي تم الاتفاق عليها أثناء اجتماع وزير الخارجية المصري السيد سامح شكري بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن علي هامش اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي. ويتوقع أن يشارك في الحوار فريق من وزارة الخارجية المصرية برئاسة السيد سامح شكري معني بكافة الملفات الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية التي ستشكل محور أجندة النقاش بين الطرفين في مقابل مشاركة واسعة من وزارة الخارجية الأمريكية وقيادات من وزارة الدفاع البنتاجون والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID.
بدايات الحوار الاستراتيجي:
يعود تاريخ الحوار الاستراتيجي بمفهومه وأهدافه الحالية إلي العام 1989 بلقاءات مكثفة بين السفير عبد الرؤوف الريدي سفير مصر بواشنطن ونظيره الأمريكي السفير فرانك وينرنز سفير الولايات المتحدة الأمريكية بالقاهرة. أستمر الحوار الثنائي ثلاث أيام متواصلة وتأسس له إطارا تنظيميا يمكن له أن يكون حوار مستدام بين الدولتين. كانت العلاقات قبل هذا الحوار تتم من خلال الاجتماعات الثنائية ذات الأهداف قصيرة ومتوسطة المدي التي تفرضها الأجندة السياسية بين البلدين. وقتها انتبهت الدولتين لأهمية إيجاد آلية تعزز من التفاهم بينهم فيما يخص القضايا الاقليمية والتعاون الثنائي.
في ولاية الرئيس بل كلينتون استمر الحوار الاستراتيجي من خلال لقاءات مساعدي وزيري الخارجية المصري والامريكي في العام 1998 وشهد وقتها اهتماما بأهمية التعاون في المجال الاقتصادي ودعم مصر في برنامجها للخصخصة والإصلاح الهيكلي لمؤسساتها.
بقلم: هاني إبراهيم
مدير مركز جسور للدراسات الإستراتيجية
القاهرة في 7 نوفمبر 2021
لم تحظى العلاقات المصرية الامريكية بالدفيء اللازم للاستمرار في حوراهما الاستراتيجي أثناء حكم الرئيس جورج بوش الابن. فالإدارة الأمريكية وقتها انشغلت بشن الحروب في كل من أفغانستان والعراق ومهاجمة دول الشرق الأوسط واتهام العالم الاسلامي بالإرهاب وهكذا توقف الحوار وتأزم المشهد بين الدولتين خاصة مع معارضة مصر للضربات الامريكية ضد العراق ورفضها لمشهد الاحتلال الأمريكي لهذا البلد العربي.
عاد الحوار من جديد في بداية حكم الرئيس باراك أوباما في العام 2009 وقاد جلساته الاولي من الجانب الامريكي وليام بيرنز الذي كان يشغل مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط ومن الجانب المصري السفير وفاء نسيم مساعد وزير الخارجية المصري أنذاك السفير أحمد أبو الغيط. ومن الجدير بالذكر أن السيد وليام بيرنز يشغل حاليا مدير المخابرات الأمريكية في إدارة الرئيس جو بايدن.
المشهد الاقليمي وتعقيدات الوضع الجيوسياسي:
يعود الحوار في ظل تعقيدات الوضع في بلدان الشرق الأوسط وتنامي التهديدات الأمنية وتأزم الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة الأكثر إلتهابا في العالم. كانت الإدارة الأمريكية أعلنت في بدايتها خفض اهتماماتها بمشاكل منطقة الشرق الأوسط ووضعت الملف النووي الايراني في صدارة اهتماماتها مع التأكيد علي موقفها الداعم لأمن إسرائيل. خلاف ذلك رغبت الإدارة الأمريكية في خفض وجودها بالشرق الأوسط وحصر اشتباكها مع القضايا الأمنية والاقتصادية للحد الأدنى مقابل توجيه اهتمامها بالتهديدات المتنامية لمصالحها في جنوب شرق أسيا مع تنامي القوة الصينية.
لكن ما لبثت أن انفجرت الأوضاع في بلدان الشرق الأوسط وتعقدت المواقف وتنامت التهديدات الجيوسياسية التي استدعت انخراطا أمريكيا لتهدئة الأوضاع وعدم ترك الساحة للقوي المنافسة خاصة روسيا والصين. وفي وسط الشرق الأوسط الملتهب أثبتت الإدارة المصرية قدرتها علي التعاطي بحكمة وصبر وقوة في ملفات متعددة وعلي نطاق واسع مما دفع الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في موقفها من القيادة المصرية وأهمية مساندة حليفها الاستراتيجي في المنطقة للقيام بدور اقليمي يساعد في تهدئة الأوضاع وتحقيق أجندة المصالح المشتركة.
وعند النظر لخريطة المنطقة نجد الاوضاع في العراق ملتهبة والنزاع علي السلطة اتخذ توجها عنيفا بعد رفض نتائج الانتخابات. تعاني العراق من أزمات داخلية واقليمية منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003. فالعراق محاصر بين أطماع ايرانية من الشرق وتدخلات تركية في الشمال. أزمات المياه تزداد بعد بناء السدود في كل من ايران وتركيا. تحاول مصر التواصل مع العراق ومساندته في بناء دولته الوطنية. ومن خلال مشروع الشام الجديد استطاعت مصر تأصيل تواجدها في الاقليم الشمالي الشرقي من الشرق الأوسط بالشراكة مع الاردن والعراق. وفي ذات الإقليم تعاني سوريا من الانقسام الداخلي والاقصاء الاقليمي والدولي. ترغب مصر في عودة سوريا الي محيطها العربي وإعادة بناء الدولة السورية وترفض التدخلات التركية في الشمال السوري.
وعلي الجانب الغربي تستعد ليبيا للانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2021 والانتخابات البرلمانية في يناير 2022. إلا أن الانقسام بين الشرق الليبي وغربه لا يزال يمثل تحديا للجميع. تعاني ليبيا من وجود ميلشيات إرهابية وقوات أجنبيه علي أراضيه تمثل تهديدا لليبيين وتهديدا لعمق الأمن المصري. التدخلات الاقليمية والدولية في الازمة الليبية هي من تسببت في إطالة الأزمة وتعقيد الأوضاع الداخلية.
في الجنوب تفجرت الأوضاع في السودان فالمكون العسكري أطاح بالمكون المدني ووضع البلاد في مأزق جديد. الأزمة السودانية متفاقمة بسبب صراعات السلطة والمصالح وأيضا الأزمات القبلية والجماعات الإثنية. الوضع أكثر تعقيدا مما يمكن تلخيصه في انه خلاف علي أولويات الانتقال الديمقراطي. فوجود لاعبين إقليميين ومصالح دولية وعدم توافق داخلي يمثل تهديدا للإقليم وينسف الدعم الأمريكي في وجود نموذج ديموقراطي بصيغة غربية تضغط الولايات المتحدة لإيجادها.
يظل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو الأهم للإدارة الأمريكية. تعتقد إدارة الرئيس جو بايدن أنه يمكنها إعادة طرح حل الدولتين وبدء حوار بناء ينتهي بوجود صيغة تعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكن تفجر الأوضاع بين قطاع غزة وإسرائيل من وقت للثاني والتدخل المصري للتهدئة وإعادة البناء هو ما أعاد لهذا الملف زخمه. تطورات الموقف جاءت لصالح القيادة المصرية. إستضافت مصر حوارا فلسطينيا فلسطينيا. دعمت حركة حماس لبناء داخلها السياسي وعززت من الحوار بين القيادة الفلسطينية ونظيرتها الأردنية. إستطاعت الشركات المصرية الدخول لقطاع غزة وإذالة أثار العدوان الإسرائيلي وبدأت البناء من جديد.
تحليل الوضع الجيوسياسي يقودنا إلي التهديدات المتنامية لمنطقة شرق المتوسط. في العام 2020 أعلنت مصر تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط كمنظمة حكومية مقرها القاهرة وتضم كل من مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وفلسطين وإيطاليا. لكن الصراع بين اليونان وتركيا من جانب والأزمات بين مصر وتركيا من جانب أخر ألقت بظلالها علي منطقة شرق المتوسط. مصر تجد في الجانب التركي تهديدا طالما ظلت الأخيرة داعمة لتنظيم الاخوان المسلمين المصنف تنظيما ارهابيا وفق القانون المصري. كما ترى القاهرة أن دعم تركيا لحكومة آبي أحمد في أديس أبابا وتزويدها بطائرات عسكرية بدون طيار يمثل إعاقة لمصر في حوارها مع الجانب الاثيوبي حول سد النهضة. بالإضافة إلي التواجد العسكري التركي في الغرب الليبي وهو ما ترفضه مصر رفضا تاما. أزمة العلاقات الجيوسياسية لدول شرق المتوسط تجد طريقها لأجندة الحوار المصري الأمريكي فالمصالح متشابكة وأهمية قضايا الغاز والحدود والعلاقات الاقليمية تضغط علي الجانبين لإيجاد توافق في كيفية حلحلة المواقف العدائية بين دول الإقليم.
في ظل التشابك والتعقيد للملفات الإقليمية ينطلق الحوار وقد يكون هو الأساس الذي استدعي العلاقات الاستراتيجية إلي جانب قضايا أخرى تهم الجانبين.
المصالح المصرية مقابل الأجندة الأمريكية:
يحلو للبعض اختصار العلاقات المصرية الأمريكية في ملفي العلاقات العسكرية وملف حقوق الانسان. لكن التعمق قليلا داخل خريطة الفرص والتهديدات للبلدين يقودنا إلي قائمة كبيرة من المصالح والملفات تستدعي رسوخا في العلاقة وصلابة في الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين.
بالنسبة للجانب الأمريكي فالأجندة تتسع للملفات الإقليمية والاهتمام بملفات مصر الداخلية:
- تراقب الإدارة الأمريكية نمو الدور الصيني في مصر خاصة داخل قطاعات الإنشاءات والتكنولوجيا والاتصالات. تحاول الإدارة الأمريكية محاصرة الصين ومصالحها. وبالتأكيد سيكون ملف التعاون المصري الصيني ضمن أجندة النقاش.
- تعارض الولايات المتحدة التنامي في العلاقات العسكرية المصرية الروسية. تحدثت كثيرا عن رفضها لصفقة شراء مصر للطائرات الحربية الروسية من طراز السوخوي 35 والتي تعاقدت عليها مصر في العام 2018 ولم تستلمها حتى اليوم. لا تريد الإدارة الأمريكية أن تفرض عقوبات علي مصر لهذا الموضوع وتطالب بتجنيبها هذا الموقف.
- في الملف الليبي تريد الإدارة الأمريكية دورا مصريا داعما لملف الانتخابات الرئاسية وتخفيف الدعم المقدم للشرق الليبي والدفع لمصالحة ليبية.
- وبالنسبة للسودان تعلم الإدارة الأمريكية وجود تأثير مصري علي أطراف الصراع وتطالب بالضغط علي المكون العسكري بقبول المقترحات الأمريكية الخاصة بعودة الحكومة المدنية ودعم المسار الديمقراطي السوداني.
- تشكل قضايا حماية الملكية الفكرية وتعزيز الشركات الناشئة خاصة الصغيرة والمتوسطة أولوية اقتصادية أمريكية ومن المرجح أن تكون علي أجندة الأطراف الأمريكية.
في ملف حقوق الانسان سيطالب الشركاء الأمريكيين بمزيد من الإصلاحات المؤسسية وإطلاق مزيد من السجناء خاصة من تصفهم بالمعارضة المدنية. كما ستطالب بدور أكبر لمنظمات المجتمع المدني ومنح مساحة أكبر للجهات المانحة في ضخ تمويلات لبرامج حقوق الانسان والديمقراطية بعيدا عن التمويلات الموجه للجانب الحكومي. ويمكن أن تطرح الإدارة الأمريكية أهمية إعطاء مساحة أكبر لإعلام معارض ينتقد الحكومة المصرية دون قيود عليه. وقد يمتد ذلك إلي الطلب بمنح بعض المؤسسات الأمريكية ترخيصا بالعمل علي بناء قدرات الإعلاميين المصريين من خلال التدريب داخل مصر أو خارجها.
بالنسبة للجانب المصري يمكن رصد مجموعة من المصالح التي يسعى إلي تحقيقها من الحوار:
- دعم الإدارة الأمريكية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري من خلال تيسير الحصول علي الدعم المالي والفني من مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكلاهما يهيمن علي قراراتهما الإدارة الأمريكية.
- ضمان استمرار الدعم المالي والفني للقوات المسلحة المصرية من خلال برنامج الدعم العسكري والذي يتضمن تدريبات عسكرية مشتركة وتبادل استخباراتي عالي المستوي وتوفير قطع الغيار للمعدات العسكرية الأمريكية التي يمتلكها الجيش المصري وتيسير حصول مصر علي الموديلات الأحدث من الطائرات والصواريخ والآليات العسكرية الأمريكية.
- يمثل سد النهضة تحديا وجوديا لمصر. ترغب القيادة المصرية في التوصل لاتفاق قانوني وملزم مع الجانب الإثيوبي يضمن لها استمرار تدفق المياه من الهضبة الأثيوبية إلي الأراضي المصرية. تطلع مصر لدور أمريكي حاسم للضغط علي الجانب الأثيوبي للقبول بحل توافقي بعيدا عن الموقف المتعنت الذي يهدد أمن المنطقة في حال استمراره. كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب أكثر نشاطا في هذا الملف وهو ما تريده الحكومية المصرية من إدارة الرئيس جو بايدن.
- مساندة الدور المصري في إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية من خلال الضغط علي الجانب الاسرائيلي ببدء حوار مع الجانب الفلسطيني وحلحلة المواقف المتعنتة. كما ترغب مصر في مزيد من الدور في إعادة بناء غزة وتحسين نوعية الحياة للفلسطينيين واحتواء حماس وهو ما يتطلب دعما أمريكيا لهذا الملف.
- بالنسبة لملف حقوق الانسان ترتكز القناعات المصرية بأن الحوار خلف الغرف المغلقة هو السبيل الأفضل في تفاهماتها. وعليه ستطرح مصر رؤيتها في كيفية تحسين أوضاع حقوق الانسان وتعزيز مشاركة مواطنيها في الشأن العام ولكن وفق أولوياتها التنموية وتحليلها لعناصر التهديد لمصالحها. تريد الإدارة المصرية أن تتفهم القيادات الأمريكية في كل من البيت الأبيض والكونجرس وحتي مراكز التفكير أن مصر عازمة علي المضي قدما في الإجراءات التي تعزز من حالة حقوق الانسان. فقد شهدت الأسابيع الأخيرة إلغاء قانون حالة الطوارئ، وبناء مجمع سجون بمعايير دولية وتغيير في المفهوم من مجمع سجون إلي مجمع الإصلاح والتأهيل. كما أطلقت سراح العشرات من السجناء أو المحتجزين. كل هذه الخطوات تراها مهمة وعلامات قوية في طريق طويل تراه مهما ولكن يحتاج أن يتم وفق أجندة التنمية المصرية وليس وفق الضغوط الدولية.

بقلم: هاني إبراهيم
مدير مركز جسور للدراسات الإستراتيجية