في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كانت القضية الأكبر على مائدة التثقيف والتوعية العمالية هي قضية “العولمة” وتداعياتها على مصالح العمال والتحديات التي تفرضها أمام النقابات العمالية. وكان هدف أغلب برامج التثقيف العمالي أن ينمو لدى المشاركين من النقابيين والعمال وعياً أكبر بالبعد العالمي لواقعهم، وقراءة أكثر عمقاً واتساعاً للأحداث، تساعدهم على القيام بمهامهم في حماية مصالحهم، كان التحدي الأكبر أمام كل مهموم بقضية تثقيف وتوعية العمال في تلك المرحلة، أن يُخرج ذلك المواطن الذي يستهدفه من محليته ويحرره من ضيق أفقه، ويلقي به فى بحر الحراك العالمي المتلاطم، ليعيد تشكيل وعيه بذاته وبما حوله وبحجم التحديات التي عليه مواجهتها ليحافظ على بقاءه. فكان لزاماً أن يفهم ذلك المواطن المنتمي للطبقة العاملة أن مصالحه المباشرة ومشاكل حياته اليومية لم تعد بمنأي عن التأثر والتفاعل مع أي حدث يجري على وجه الأرض أياً كان موقعه، وأن القرارات التي قد يتخذها رئيس حكومة أو مدير شركة يبعد عنه آلاف الأميال ليس من المستبعد أبداً أن يمتد أثرها إلى عقر داره – وهو أمر لم يكن وقتها بهذا الوضوح الذي هو عليه الآن.
تلك التوعية كان من شأنها أن تلفت نظر العمال وممثليهم لرؤية ما بينهم وبين بقية عمال العالم من قواسم مشتركة ومعاناة واحدة وأزمات متشابهة ومن ثَم حاجة أكبر للتضامن وتوحيد الجهود، وأن يقتنعوا – من ثَم – أن التفكير والتخطيط بشكل استراتيجي لم يعد من قبيل الرفاهية بل إنه واجب الوقت، وأن يفهموا جيداً أن الحلول القديمة لم تعد مجدية فى التعامل مع الأزمات الجديدة المتلاحقة بل إن الأمر يحتاج لرؤى إبداعية خارج الصندوق.
ومع مرور الوقت، أصبح المستقبل الذي كان يبشر به الإعلام والبرامج التنموية ويتنبأ بتداعياته في منتصف التسعينات واقعاً ملموساً مستمر التغير كلما سرنا قدماً في الألفية الجديدة ، وأصبح جلياً في وعي المواطن أن “المسئول” – الذي كان يظن من قبل أن الحلول كلها ملك يديه – ليس أحسن حالاً منه في التعرض لتحديات العولمة وضغوطها، وهو ما جعل هذا المسئول أقل استعداداً لتقديم مجاملات أو موائمات سياسية مجانية إلا إذا كان أصحابها جديرين بذلك أو قادرين على دفع الثمن. و من ثم أصبحت الأرض ممهدة أمام الحركة الحقوقية لتعيد صياغة العلاقة بين المواطنين والمسئولين بصفة عامة استناداً إلى المدخل الحقوقي.
وعلى مستوى الواقع العمالي، فقد اكتسب تيار الحقوق والحريات النقابية أرضا جديدة كل يوم، وأصبحت مهمة التثقيف العمالي مكثفة في اتجاه تثبيت أقدام أبناء الحركة العمالية ودعم تحركهم في إصلاح تنظيماتهم النقابية، من خلال توعيتهم بحقوقهم في الدستور المحلي والمواثيق الدولية واكسابهم الآليات والمهارات اللازمة للمطالبة بهذه الحقوق من خلال المسارات القانونية المتاحة، وذلك من أجل تأهيل هذه التنظيمات للقيام بأدوار أكثر فاعلية فى الحوار الاجتماعي.
وجاء الحراك الثوري مع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، ليعطي زخماً أكبر وقوة دفع هائلة لتيار الحقوق والحريات، وأصبح هَم المعنيين بالتثقيف العمالي نقل الحراك العمالى الثوري من الشارع إلى القاعات والغرف المغلقة من أجل استثماره لإحداث تغيير وإصلاح حقيقي فى مسيرة التنظيمات العمالية يؤهلها لمواكبة موجات التغيير والتحول العالمي، وتجنيب هذا الحراك العمالى النقي أن يصير وقوداً للفوضى، وشوكة فى حلق جهود التنمية، وتجنيبه كذلك مصير مظلم من الردة والنقوص وضياع المكتسبات.
وكان من تداعيات تلك المرحلة احتدام الصراع بين تيارين رئيسيين في الحركة النقابية المصرية، تيار ينتمي إلى التنظيم النقابي الرسمي الذي شكلته ثورة يوليو 52 ووحدت به الكيانات النقابية المتشرذمة فيما قبل الثورة في بنيان نقابي واحد يمثل أحد أضلاع دولة يوليو وتركيبتها السياسية، وتيار آخر يستند في وجوده إلى ما تمنحه معايير العمل الدولية للعمال من حريات وحقوق ويدعو إلى التعددية النقابية كمخرج من تبعات المركزية الشديدة للتنظيم النقابي الرسمي وتبعيته الشديدة للدولة وتحكم أوليجاركية القيادات القديمة في توجهاته وانحيازاته.
وقد يظهر للباحث في الحركة النقابية المصرية – لحظة كتابة هذا المقال – أن ذلك الصراع قد حُسم بشكل كبير لصالح التيار النقابي القديم ، وأن تيار التعددية النقابية قد تراجع بشدة بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها فى أعقاب ثورة يناير 2011، إلا أن المتأمل ربما يرى أن الحركة النقابية المصرية في مجملها تمر الآن بأضعف لحظاتها، فهي فيما يبدو لم تستطع اكتساب ثقة القيادة السياسية ولا المؤسسات الدولية ولا التنظيمات السياسية الأخرى بل ولا ثقة العمال أنفسهم، ولم تعد قادرة تنظيمياً أوعملياً على الحفاظ على موقعها فى التركيبة السياسية المصرية، ودب الشك لدى الجميع في إمكانية إصلاحها وجدوى وجودها، بحيث يمكن وصفها بلا مبالغة أنها أصبحت خارج التاريخ.
وفي النهاية يمكننا أن نلخص تساؤلاتنا حول التنظيمات النقابية العمالية داخل بلادنا في اللحظة الحالية فيما يلي :
ـ هل صارت تلك التنظيمات – بعد كل تلك الخبرات والمسارات والجهود الإصلاحية – مؤهلة للتعامل بكفاءة مع الحاضر والمستقبل، ومستعدة لمواجهة التحديات الجسيمة التى تواجه الطبقة العاملة ؟! أم أن وجودها صار عبئا على أعضاءها وعلى المجتمع وعلى الحياة الاقتصادية والسياسية ؟!!
ـ هل لازلت هي ذات التنظيمات التي تمثل أعضاءها وتعبر عنهم وتخدمهم بالجهد والفكر والقدرة على الحشد، وهل لازالت هي ذات التنظيمات التي تسعى إليها الحكومات والكيانات المحلية والدولية التي تريد أن تخاطب الطبقة العاملة وتؤثر فيها؟! أم أنها صارت كيانات كرتونية لا تمثل إلا نفسها ولا تخدم إلا مصالح قادتها ؟!
ـ ما هي السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الحركة النقابية في بلادنا، وكيف يستعد قادة العمال لهذه السيناريوهات ؟!
ـ هل هؤلاء القادة لديهم من الفكر ما يجعلهم قادرين على تمثيل الطبقة العاملة بجدية وفاعلية فى أي حوار اجتماعي حول تعديلات التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها المتغيرات المحلية والعالمية المتسارعة ؟! أم أن وجودهم فى هذا الحوار – إن حدث – سيظل وجوداً صورياً بلا فاعلية ؟!
ـ هل يدرك قادة التنظيمات النقابية حجم التغير الذي حدث بأسواق العمل، وما هي أشكال علاقات العمل الجديدة التي فرضتها ثورة الاتصالات وتطبيقاتها اللانهائية ؟! وهل لديهم رؤية وحلولاً للتعامل مع هذا الواقع الجديد ؟! وهل لديهم استعداد للتعامل مع حلول جذرية راديكالية ربما تشمل تفكيك البنيان النقابي بشكله التقليدي، وإعادة اختراعه من جديد ؟!
ـ هل من يعنيهم أمر استقرار علاقات العمل على علم بإلى أي مدى هم في حاجة حقيقية لوجود بدائل نقابية عمالية أكثر فاعلية وكفاءة فى التعامل مع الواقع المتغير ؟!
وربما نحتاج لأن نطرح السؤال الأكثر جرأة : هل يستحق أمر إصلاح وتطوير هذه التنظيمات العناء حقاً ؟! ومن الذي قد يعنيه الأمر ؟! هل تنتمي التنظيمات النقابية كما نعرفها – والتي نشأت مع بداية عصر الصناعة – إلى العالم الجديد الذي تظهر ملامحه بقوة هذه الأيام وبصفة خاصة بعد ما اسفرت عنه أزمة كورونا من تحولات كبرى؟! وما الخسارة التي يمكن أن يتحملها أي طرف فى حال غياب تلك التنظيمات، وما البديل الذي يمكن أن يملأ هذا الفراغ ويقوم بالأدوارالتي كان من المفترض أن تقوم بها النقابات؟!
لعل تلك الأسئلة وغيرها تكون مطروحة في الفترة القادمة على مائدة “مراكز التفكير Think Tanks“– وعلى رأسها مركز جسور الذي نحتفل هذه الأيام بتأسيسه ، حيث أن من أهم أدوار تلك المراكز أن تطرح الأفكار التي يظن البعض أنه لم يحن أوان طرحها بعد، أو أنه قد فات أوان طرحها، وتبرزها وتضعها في دائرة الضوء وتتيحها لمن يحتاجها ويقدر قيمتها.
ولدي أمل أن تكون مجالس إدارات النقابات العمالية ذاتها وكافة النشطاء النقابيين على رأس من يهتم بتلك الجهود الفكرية، كي تبقى الحركة النقابية المصرية رقماً صعباً في المعادلة الاقتصادية والسياسية. فالوقت الذي تتنبه فيه الكيانات والمؤسسات لكونها فى حاجة للاستعانة بخبرات وأفكار جديدة بخلاف المتداولة والمعتادة هو وقت يقظة ورشد وبناء للمستقبل.