إعداد / د. محمود حمدي أبو القاسم
تحرير ومراجعة / د. أكرم حسام
مستشار مركز جسور للدراسات الاستراتيجية
بينما تنخرط إيران في مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة حول إحياء الاتفاق النووي في فيينا منذ 29 نوفمبر 2021م، ورغم نبرات التفاؤل غير ان هناك شكوكا وأجواء من عدم الثقة تسود الأجواء، فضلا عن غموض بشأن نوايا الأطراف واستعداداتها لبناء تفاهم قابل للاستمرارية وتبديد المخاوف المتبادلة على المدى الطويل، لا سيما أن سجل حافل من انعدام الثقة وسياسة خارجية عدائية ممتدة تسيطر على علاقة البلدين منذ عام 1979م وربما قبله، فضلا عن الإخفاق في تبديد المعايير المتأصلة بعد توقيع الاتفاق النووي في عام 2015م. يعتقد انه ما تزال يعتقد الهوية الإيرانية تعد أحد العوامل الرئيسية المؤثرة على سياسة إيران الخارجية، وما يزال يعتقد أن عملية صنع القرار الخارجي شديدة التأثر بمكونات هذه الهوية التي ترسخت على مدى تاريخ ممتد وأخذت طابعا مؤسسيا منذ تدشين الجمهورية الإيرانية بعد ثورة عام 1979م، وتمثل خيارات إيران وسياساتها تجاه الملف النووي واحدة من القضايا التي يتجلى فيها ذلك التأثير. ومن ثم ستحاول هذه الورقة أن تستكشف حدود تأثير هذه الهوية على اتجاهات وخيارات حكومة رئيسي تجاه القضية النووية وتحديدا قضايا الخلاف الرئيسية في المحادثات المتعلقة بإحياء الاتفاق النووي، وهي القضية المطروحة بقوة منذ تغيير مسار السياسة الأمريكية تجاه إيران على يد الإدارة الجديدة بقيادة جو بايدن، وإعادة الاعتبار للدبلوماسية بدلا عن المواجهة مع إيران.
تجادل هذه الورقة بأن هناك واقع وضرورات تفرض علي إيران العودة للانخراط في المسار الدبلوماسي من أجل إحياء الاتفاق النووي، غير أن الهوية والاعتبارات الأيديولوجية ما تزال بمثابة قيد على سياسة إيران تجاه القضية النووية بما فيها الخلافات حول إحياء الاتفاق النووي، لهذا يكيف النظام سياساته من خلال عملية موائمة بين قيود الواقع واعتبارات الهوية، لأجل الحفاظ على النظام كأولوية أساسية، بجانب مراكمة عدد من أوراق الضغط بحيث يصبح لديه فرصة أكبر لتحييد بعض المطالب الأمريكية التي يرى أنها تستهدف بالأساس بقاء النظام.
ويمكن معالجة هذه الإشكالية من خلال عدد من العناصر الأساسية هي: أولا: مفهوم الهوية ومحددات الموقف الإيراني من القضية النووية، ثانيا: إملاءات الهوية واستعدادات إيران للمفاوضات النووية، ثالثا: البقاء وضرورات عودة حكومة رئيسي للمفاوضات،
رابعا: النتائج وتأثيرات الهوية على القضايا الخلافية حول إحياء الاتفاق النووي.
أولا: مفهوم الهوية ومحددات الموقف الإيراني من القضية النووية
للهوية تأثير على السياسة الخارجية للدول، ليس فقط لأنها تساعد على تحديد المصلحة الوطنية للفاعلين، ولكن لأنها مهمة كذلك في صناعة السياسة العامة للدولة، فالبنائيون يفترضون أن الهوية تحدد دور الفاعلين في العلاقات الدولية، ويتصرف الفاعل دوما بما يراه ملائما لهذا الدور([1])، ولا شك تعتبر العلاقة بين الهوية والسياسة الخارجية مدخل مهم لدراسة خصائص السياسة الخارجية الإيرانية، وذلك بالنظر إلى دور القيم الثقافية في تحديد المصالح القومية للفاعلين الدوليين، فهوية الدولة تحدد مصالحها ومبادئها الأمنية واحتياجاتها على الصعيد العالمي.
ويشير مصطلح “هوية الدولة” إلى تصور الدولة للدور الذي ينبغي أن تلعبه والمكانة التي يجب أن تتمتع بها بين الدول الأخرى، ويقوم الجهاز السياسي المحلي لكل دولة -قادتها بشكل أساسي- ببناء دورًا للدولة ضمن القيود التي تفرضها العوامل المحلية بما في ذلك الاقتصاد والقدرات العسكرية والرأي العام، من بين أمور أخرى ستكون هناك أيضًا قيود يفرضها النظام الدولي من خلال القوة النسبية للدول الأخرى والتغييرات المقابلة في هويات دولها، كما تشير هوية الدولة إلى مجموعة من العلاقات تبني فيها الدول هويتها المختارة على اعترافها بالدول الأخرى كأصدقاء أو أعداء أو منافسين، بعبارة أخرى، تلعب هوية الدولة دورًا في تحديد العلاقات بين الدول. والهوية السياسية لإيران هنا يقصد بها الطريقة التي تعرف بها إيران نفسها، والطريقة التي يعيد بها الفاعلون إنتاج هذه الهوية وتفعيلها، وبالتالي المجال هنا لا يتطرق إلى الهوية من وجهة نظر الأمة، وقد تأثر الإيرانيون برافدين أساسيين للهوية هما الانتماء للحضارة الفارسية والاعتزاز بإسهامهم في الحضارة الإسلامية، وقد انعكست ذلك على السياسة الخارجية بعد الثورة في التأكيد على الهوية الفارسية في إطارها الإسلامي، وفقا لذلك يرى الإيرانيون أنفسهم خليطا من هويتين أحدهما فارسية ذات طابع امبراطوري توسعي، يفخر الإيرانيون بالانتماء لها، ويعتزون بلغتها والثقافة المنبثقة عنها، والهوية الأخرى إسلامية ذات طابع مذهبي ثوري، وقد انعكس ذلك في سياسة إيران الخارجية في محاولة نشر مذهبها واعتباره أحد الأولويات على الصعيد الخارجي تحت ما يعرف بمبدأ الأممية الإسلامية المنبثق عن أيديولوجيا ولاية الفقيه التي يعتنقها النظام، والتي تتطلع إيران من خلالها إلى الزعامة الدينية الشيعية وصولا إلى القيادة العالمية تحت قيادة الإمام الغائب، فضلا عن الشعور بالفخر والاعتزاز بالذات ورفض الهيمنة والسعي للاستقلال والاكتفاء الذاتي ورفض التبعية، مع رفض أي ازدراء أو تعالي من القوى الدولية المؤثرة والبحث عن العدالة كمحددات أساسية لسياسة إيران الخارجية. على ضوء ذلك، يمكن توضيح كيفية تأثير الهوية الإيرانية الخارجية على موقف إيران من المسألة النووية على النحو الآتي:
اعتبارات الهوية وأهمية امتلاك إيران للمعرفة النووية
إن تأثر الهوية الجماعية لإيران، بالتقاليد الفارسية الراسخة والاعتزاز بالذات والإحساس بالعظمة الذي غذته تجربة إمبراطورية تاريخية ممتدة، جعل إيران تنظر لذاتها كقوة دولية مؤثرة وبلورتتصورهاوتطلعها إلى الريادة الإقليمية مع ما يتطلبه ذلك من امتلاك لأدوات القوة التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك امتلاك القوة النووية، لهذا رغم فتوى خامنئي بتحريم الأسلحة النووية طورت إيران برنامج سري تحت الأرض لتطوير السلاح النووي، ومع أن هذا كان سببا في تعرضها لضغوط وعقوبات دولية كبيرة تحمَّل عبئها عموم الإيرانيين، لكن يُعتقد أن الرأي العام الداخلي ما يزال ينظر للبرنامج النووي المبني بقدرات ذاتية على أنه مصدر فخر وطني، حيث أظهرت العديد من الاستطلاعات في السابق وجود تأييد شعبي واسع لامتلاك إيران برنامج نووي عسكري ونظرا لتجربة تاريخية مع الاحتلال والتدخل الخارجي، فقد باتتالمعرفة النووية بمثابة رمز للاستقلالية والحرية كأحد أهم عناصر الهوية الإيرانية التي ترسخت خلال القرن العشرين وصولا إلى ثورة عام 1979م، وهنا يجادل خامنئي بأن الغرب والولايات المتحدة لا تعارض البرنامج النووي الإيراني من أجل الحد من الانتشار النووي، ولكن بسبب الاستقلال المحتمل والنفوذ الاقتصادي الذي يمكن أن تستمده إيران منه، لهذا يؤكد قادة إيران بما فيهم خامنئي أن خيار الاستقلالية مكلف لكنه استقلال يستحق دفع تكلفته، فمن أجل الحصول على الاستقلال وتحقيق السيادة والشرف الوطني، يجب على أي دولة دفع ثمن معين، كذلك يرى خامنئي البرنامج النووي الإيراني رمز “للاكتفاء الذاتي” و”التطور التكنولوجي”، ومن ثم هو يعتبره “حقًا غير قابل للتصرف” للأمة الإيرانية، ليس هذا وحسب بل يُنظر إلى امتلاك المعرفة النووية إلى أنه رمز للبراعة التقنية والحداثة والمكانة، ويؤكد الخطاب الرسمي على هذه الحقيقة . وتناور إيران لإيجاد مبررات لبرنامجها النووي حيث تشير إلى أن النظام الدولي يتسم بازدواجية في المعايير حيث يتجاهل الترسانة النووية الإسرائيلية، بينما يضغط على إيران لمنعها من استخدام التكنولوجيا للأغراض السلمية، كما ترى إيران أن الولايات المتحدة وخلفها الغرب يعارضون برنامج إيران النووي من منطلق نزعة هيمنةتستهدف سيادتها واستقلالها وتستهدف أي مشروع وطني ناشئ على أراضيها فلطالما صدر النظام وجهة النظر بأن طموحها النووي ضحية للولايات المتحدة والحقيقة أن برنامج إيراني الذي بدأ في عهد الشاه كان لديه شرعية كونه بدأ في الخمسينيات تحت رعاية أمريكية في إطار برنامج الذرة مقابل السلام، لكنه توقف بعد الثورة، وعاد بصورة سرية خلال الحرب ضد العراق، وكشفت التطورات فيما بعد أنه غير سلمي، وهذا بطبيعة الحال يتوافق مع هوية النظام الجديد وعدائيته ونظرته للعالم من منطلق أيديولوجي، وما يروجه النظام من مبررات في هذا السياق تبدو ضمن عملية أكثر ارتباطا بكسب الشرعية في الداخل والحاجة لوجود عدو من أجل البقاء والاستمرارية.
النفعية والموائمة من أجل البقاء والحفاظ على النظام
ضمن الهوية النظامية وفي إطار الحفاظ على الهوية الدينية والتطلعات الأيديولوجية للدولة يرفع النظام مبدأ النفعية (بقاء الجمهورية الإسلامية) إلى قيمة دينية عليا، وهذا يعني أنه عند ظهور عدم توافق، فإن الاعتبارات السياسية (بقاء الجمهورية الإسلامية) لها الأسبقية على اعتبارات الهوية والإملاءات الايديولوجية، وهذا يفسر دخول إيران في مفاوضات مع الغرب بشأن الملف النووي، سواء في السابق أو خلال المرحلة الحالية، فالنظام عندما يتعرض لضغوط تهدد بقائه فإنه ومن منطلق الموائمة أو ما يسميه المرشد/النظام المرونة البطولية فإنه يضطر إلى الانخراط في محادثات ومفاوضات حتى لا تتعرض مصلحة بقاء ولاية الفقيه للخطر.
يعبر عن هذا الواقع بدقه ما سبق وقاله الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني بأنه: “يمكننا حل أي مشكلة خارجية تهددنا من وجهة نظر الإسلام.. أيديولوجيتنا مرنة، يمكننا أن نختار منفعتنا على أساس الإسلام، ومع ذلك، فإن تعريض البلاد للخطر على أساس أننا نتصرف على أساس إسلامي ليس إسلاميًا على الإطلاق.” لهذا يتضح أن إيران منذ الثورة الإسلامية، تجنبت في الأغلب الدخول بجدية في النزاعات والصراعات الدولية من أجل الحفاظ على بقائها ومصالحها الحيوية كهدف خارجي أساسي، بمعنى أن النظام يحتاج إلى حل وسط في بعض الأحيان من أجل تجنب الشلل، ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى الحفاظ على بقاء النظام وهذا ما تجلى في قبول إيران بفرض قيود على برنامجها النووي بعد تعرضها لضغوط قاسية تهدد النظام وبقائه. ومن أجل الحفاظ على النظام فقد تم تصميم النظام السياسي الإيراني لمنع أي فرد أو مؤسسة أو فصيل من السيطرة على النظام، وعزل النظام ضد التهديدات الداخلية والخارجية، فمهمة الحفاظ على النظام هي سبب وجود المرشد الأعلى، والحرس الثوري الإيراني، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، حيث تخلق قوة المرشد الأعلى وتأثير هذه المؤسسات على صنع القرار نظامًا متطورًا من الضوابط والتوازنات، والذي يسعى إلى ضمان بقاء النظام والحفاظ على الوضع الراهن وكثيرا ما يصوغ المرشد الأعلى الخطوط الحمراء للنظام في القضايا الأساسية، التي تعتبر من وجهة نظر النظام تنطوي على تهديد لبقاء النظام والأمن القومي إذا تراجعت طهران عنها ومن بينها ما يتعلق بالملف النووي.
تأثر إيران بالموقف الأمريكي من البرنامج النووي
شكلت وجهة النظر الأمريكية لإيران كدولة مارقة ومنبوذة رؤيتها تجاه طبيعة البرنامج النووي الإيراني على أنه غير سلمي، وهذا هو سبب نزعة الشك التي تنتاب الولايات المتحدة بشأن هذه المسألة، لهذا وعلى الرغم من أن إيران تعد من الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية اعتبارًا من عام 1968م،وأنها زعمت مرات عديدة أن برنامجها مخصص للأغراض السلمية البحتة، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال تجادل بأن إيران لديها القدرة على صنع أسلحة نووية والرغبة في استخدامها، هذه الهوية العدائية المتشككة في نوايا إيران تتجلى بالنظر للموقف الأمريكي من امتلاك بعض الدول لسلاح نووي كإسرائيل أو الهند، رغم أنهما ليسا موقعين على معاهدة حظر الانتشار النووي وغير ملزمتين بالإعلان عن أسلحتهما أو تفتيش منشآتهما، يفسر ذلك مخاوف الولايات المتحدة من امتلاك أي أنظمة أيديولوجية/دينية غير راضية ولديها رؤية تعديلية للنظام الدولي لأسلحة نووية، بعكس امتلاك أنظمة راضية كالهند أو إسرائيل عن النظام الدولي القائم، لهذا واصلت الولايات المتحدة اتباع استراتيجية احتواء برنامج إيران النووي، من خلال العقوبات الدولية ضد إيران مع تطبيق عقوبات خاصة بها، وبالطبع تأثرت إيران بهذه النظرة الامريكية باعتبارها نظرة عدائية، ومع ارتباط البرنامج النووي باستراتيجيات ردع وضغوط قاسية، ترسخ العداء وترسخ الاعتقاد لدي النظام والإيرانيين بأن هدف الولايات المتحدة في الأخير تغيير النظام وليس السيطرة على برنامجها النووي.
ثانيا: إملاءات الهوية واستعدادات إيران للمفاوضات النووية
فرضت الموائمة بين إملاءات الهوية والتهديدات الحيوية نفسها على خيارات إيران تجاه القضية النووية والمفاوضات مع الغرب بشأن إحياء الاتفاق النووي، وتأرجحت خيارات النظام الإيراني بشأن المفاوضات النووية المرتقبة بين سياستين او خطابين شرع النظام في اختبارهما لمعالجة المأزق الراهن الذي يعيشه النظام، وهما:
التمسك بخطاب التشدد بشأن المفاوضات
لا تتحدد سياسة إيران بشأن الملف النووي بناء على وجود “الإصلاحيين” أو “المتشددين” في السلطة، لقد ظهر ذلك جليا أثناء ولاية الرئيس السابق حسن روحاني، حيث قوض المرشد الصفقة النووية وتابعت بعض المؤسسات سياساتها في تدمير الاتفاق النووي كالحرس الثوري، الذي تابع تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وتابع سياسة مد نفوذ إيران الخارجي إلى دول الجوار، فيما اعتبر تناقضا صارخا لروح الاتفاق من وجهة نظر الولايات المتحدة والغرب والقوى الإقليمية.
وقوض المرشد كذلك جهود حكومة روحاني التي كانت تشرع في العودة للاتفاق خلال مفاوضات فيينا التي جرت بين أبريل ويونيو 2021م، إذ بينما كان يروج روحاني للتفاعل البناء والدبلوماسية مع الغرب على أنه الطريق الأكثر فاعلية لتحقيق مصالح إيران، قطع المرشد الطريق عليه بقوله “أينما ربطتم الأعمال بالغرب والتفاوض معه ومع الولايات المتحدة، فشلتم، وحيثما تحركتم دون أن تثقوا في الغرب وتخليتم عنه، فقد نجحتم ومضيتم قدما”.
بهذا تم النظر إلي المفاوضات النووية التي كان يجريها روحاني من جانب المتشددين على أنها ضد ثوابت الجمهورية التي أرسى دعائمها الخميني، فالدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة والغرب من وجهة نظر المرشد والعناصر المتشددة ينتقص من استقلالية إيران، ويقوض من قدراتها الذاتية في الحصول على التكنولوجيا النووية، كما إنه يهدد الهوية الثقافية لإيران ويفتح الباب على مصراعيه للتأثير والنفوذ الغربي، ناهيك عن أن هناك قناعة بأن الغرب والولايات المتحدة يستهدفون من وراء الاتفاق حرف إيران عن مسار ثورتها، وتغيير طبيعة نظامها وغزوها ثقافيا.
ولا شك أن التغيير الذي طرأ على النظام من خلال هندسة الانتخابات التشريعية والرئاسية والذي أسفر عن تغييرات هيكلية على مؤسسات الحكم سواء البرلمان او الرئاسة، تمخض عنه تسكين العناصر المتشددة في السلطتين التشريعية ثم رئاسة السلطة التنفيذية وبالتالي وجود بنية فكرية موحدة للنظام ككل تعمل تحت قيادة المرشد، فالبرلمان الذي يغلب على عناصره التشدد بقيادة محمد باقر قاليباف ثم انتخاب إبراهيم رئيسي جاء ضمن عملية تهدف إلى استعادة روح وزخم الثورة، والتأكيد على خطابها الأساسي ومبادئها الراسخة، ومشروع إيران العابر للحدود، كما تشير كثير من التقديرات إنه جاء في إطار التجهيز لعملية أكثر حساسية تتعلق بتأمين عملية انتقال آمن لمنصب القيادة في مرحلة ما بعد خامنئي تضمن استمرارية ولاية الفقيه كمرجعية للحكم في إيران، وهذا لا شك يجعل سياسة إيران تجاه الملف النووي أكثر ارتباطا بمبادئها وخطابها الهوياتي ذو الطبيعة الثورية.
اتضح هذا التأثير في تحديد المسؤوليات الخاصة بالمفاوضات النووية المرتقبة من جانب الحكومة الجديدة، إذ أصبحلمجلس الأمن القومي الإيراني سلطة إشرافية على وضع السياسة الخاصة بعملية التفاوض ومتابعتها، بينما ستعمل وزارة الخارجية تحت هذه السلطة حيث ستتولى عملية التفاوض نفسها من خلال فريق المفاوضات المنتظر الإعلان عنه، أي ستكون مهمتها تنفيذية بالأساس وذلك وفق توجهات المؤسسات العليا للنظام بحسب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان وبرغم أن مجلس الامن القومى يرأسه رئيس الجمهورية لكن لا تعتمد قراراته بدون موافقة المرشد.
كما تم تعيين المتشدد محمد باقري كبيرا للمفاوضين بدلا عن عباس عراقجي، وتعني هذه التغييرات مزيد من التعقيدات البيروقراطية والفكرية على العملية التفاوضية، وتزايد تأثير الإملاءات والمبادئ المتعلقة بالهوية التي جاء النظام لاستعادة ألقها وتوهجها، حيث يسود الاعتقاد بين المتشددين بأن الاتفاق محض فخ أمريكي من أجل حرف إيران عن مسار ثورتها، وسلبها استقلاليتها وغزو المجتمع فكريا وثقافيا.
أولوية رفع العقوبات والرغبة في العودة للصفقة القديمة دون تغييرات
طلب خامنئي من حكومة رئيسي التعلم من تجربة روحاني وعدم وضع ثقتهم في الدول الغربية، مبررا ذلك بأنها لا تتردد في خرق التزاماتها، بناء على ذلك أجرت حكومة رئيسيعملية مراجعة وتقييم داخلي للمحادثات السابقة لمعرفة أسباب عدم وصولها إلى النتيجة المرجوة، ومن ثم تحديد أجندة المفاوضات القادمة وأهداف إيران في الجولات القادمة وقد بدت ملامح التغير في الموقف الإيراني من المفاوضات في استهلاك النظام الإيراني وقتا طويلا للتجاوب مع الجهود الأوروبية التي بدأت مع أول يوم لرئيسي في السلطة، وبعد قرابة ثلاثة أشهر من تولى رئيسي اتضح أن إيران تحاول كسب الوقت وتركز على أولوية رفع العقوبات كقضية أساسية وجوهرية ونقطة انطلاق لنجاح المفاوضات.
من وجهة نظر رئيسي، يجب أن تسفر المفاوضات عن رفع العقوبات، ولا يجب التفاوض على اتفاق نووي جديد، ويجب أن يكون هناك ضمانات حيث اتضح أن إيران تتطلع إلى إعادة إحياء الاتفاق القديم دون تعديلات جوهرية، بما في ذلك غروب أول بنود الاتفاق والخاص بإلغاء حظر السلاح المفروض عليها، الأمر الذي يسمح لها بتعزيز ترسانتها العسكرية بالأسلحة الحديثة، ويمنحها فرصة مد ميليشياتها وحلفائها بالأسلحة والمعدات العسكرية، مع رفع كافة العقوبات التي فرضها ترامب منذ الانسحاب من الاتفاق النووي لمعالجة الازمة الداخلية المتفاقمة، هذا بجانب الاحتفاظ بمكتسبات برنامجها النووي من مستويات تخصيب وأجهزة طرد متطورة، وعدم التفاوض حول ملفات أخرى بما فيها نفوذ إيران الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية، ولا شك أن هذا سقف مرتفع للغاية ربما يدرك الجميع أنه غير واقعي، ولكن مقصود واستنزافي، يهدف إلى تحسبن شروط التفاوض والحد من التنازلات وتحقيق أقصى مكسب ممكن، مع حصر المفاوضات في القضية النووية، وتحييد القضايا الأخرى محل الخلاف، وهو ما يعني بالمجمل عودة بالمفاوضات لنقطة البداية.
اختبار القدرة على تجاوز الضغوط قبل الانخراط في المحادثات
بينما أجلت إيران خيار المفاوضات بحجة تشكيل الحكومة الجديدة، وتشكيل فريق التفاوض الجديد ودراسة نتائج الجولات السابقة، فإنها اتجهت نحو استكشاف قدرتها على مواجهة الضغوط وإيجاد بدائل يمكن من خلالها التغلب على العقوبات، وذلك استنادا إلى الاعتقاد بوجود تحولات جوهرية على الصعيدين الإقليمي والدولي وداخل الولايات المتحدة، بما في ذلك الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والفجوة بين جانبي الأطلسي، وهي عوامل تحول بدورها دون أي تصعيد أو عمل عدائي ضد إيران، ناهيك عن الاعتقاد بأن خيار المفاوضات الذي تطرحه الولايات المتحدة ليس له بديل يهدد إيران حتى الآن، في وقت تتحرر فيه إيران وعدد من الدول من بعض الضغوط والعقوبات بما يسمح بإمكانية تجاوز العقوبات الثانوية التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران بصورة أحادية إذ وفق تقدير الإيرانيين فإن الكفة خلال المرحلة الراهنة تميل في صالحهم وللحقيقة هذا المنهج أرسى النظام قواعده أثناء فترة الرئيس السابق حسن روحاني، ردا على انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
بداية تتبني حكومة رئيسي خلافا لحكومة روحاني سياسة أكثر تشددا تجاه الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، حيث أعيد التأكيد على مبادئ السياسة الخارجية الراسخة التي تستند إلى عدم الثقة في الغرب عموما، ومن ثم بدأ الحديث يتواتر على لسان قيادات النظام حول سياسة خارجية تعتمد على: مقاومة الضغوط وعدم التعويل على الخارج في حل الأزمات، والعمل على إفشال العقوبات بالتأكيدعلى الدبلوماسيةالاقتصادية، والاعتماد على القدرات الداخلية،وتعزيزالتوجه ش والتركيزبشكلخاصعلىآسياودولجوارإيران، ومقاومةنظامالهيمنة،وتوسيعتعاونإيرانمعالبلدانالإسلامية، فضلا عن تقديمالدعمللمليشياتالتابعةلإيرانفيدولالجوار، وتعزيزالدبلوماسيةالثقافية،بمعنىاستعادةالقوةالناعمةالإيرانيةالتيفقدتكثيرامنتأثيرهاخلالالسنواتالاخيرة، مع الدعوةلحوارإقليميمعدولالجواروفقالمبادراتالإيرانيةالمعلنةوذلكلقناعةوزير الخارجية الجديد حسين أمير عبداللهيانبأنالأمنالإقليمييتحققبواسطةدولالمنطقةذاتها، وهذه التوجهات تتعارض بصورة أساسية مع الأهداف والمصالح الأمريكية كما شرعت إيران في خفض التزاماتها النووية بصورة تدريجية منذ عام 2019م ردا على استراتيجية الضغوط الأمريكية القصوى، أي خلال ولاية روحاني، وذلك بإشراف من النواة الصلبة لمؤسسات الحكم الفعلية في إيران التي كانت قد فرضت رأيها على الخيارات النووية بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وقد عزز انتخاب البرلمان الجديد في فبراير 2020 من سلطة المرشد وبالفعل في ديسمبر 2020م، أقر هذا البرلمان قانون “خطة العمل الإستراتيجية لرفع العقوبات وحماية مصالح الأمة الإيرانية”، والذي يقضي بتسريع تخصيب اليورانيوم وتقييد عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعلى أثره رفعت إيران من تخصيب اليورانيوم إلى 20%، ثم قيدت إيران منذ 24 يونيو 2021م أعمال الرقابة والتفتيش على البرنامج النووي، ولم تطلع الوكالة الدولية للطاقة الذرية على التسجيلات الخاصة بالمنشآت النووية منذ فبراير 2021م، ثم شرعت إيران في تخصيب اليورانيوم بنسب تصل إلى 60%، وقيدت وصول المفتشين إلى موقع نطنز النووي في الأول من يوليو 2021م، وبدأت في إنتاج اليورانيوم المعدني بنسبة 20%، وبدأت استخدام مزيد من أجهزة الطرد المتطورة، هذه الجهود سرعت من البرنامج النووي وقللت وقت الاختراق، وصادفت رغبات المتشددين الذين يرون أن التقدم في التكنولوجيا النووية يدعم مكانة إيران وقوتها في مواجهة الولايات المتحدة، كما يعزز من مكانتها الإقليمية، وبينما تصر الولايات المتحدة على عودة برنامج إيران النووي إلى مرحلة ما قبل خفض الالتزامات فإن إيران ترغب في الاحتفاظ بالتطورات والمكتسبات التقنية التي أضافتها إلى برنامجها النووي، وقد كانت هذه القضية أحد نقاط الخلاف خلال الجولات الأخيرة من مفاوضات فيينا التي انعقدت بين أبريل ويونيو 2021م.
وضمن استعدادات إيران للمفاوضات النووية، فإنها عملت على تصعيد إقليمي ضد الوجود الأمريكي في المنطقة لا سيما في العراق وسوريا، وفي مياه الخليج، بجانب تعزيز العلاقة مع روسيا والصين بصفتهم موازن للولايات المتحدة، مع تبني نزعة إقليمية متزايدة لتفعيل دور إيران في المنظمات الإقليمية لتعزيز الفرص الاقتصادية والأمنية في مواجهة الضغوط الغربية ومن أهمها الانضمام لمنظمة شنغهاي ومحاولة تفعيل عضويتها في اتحاد أوراسيا إضافة إلى اتباع دبلوماسية اقتصادية نشطة لتفادي تأثير العقوبات مع أولوية لسياسة الجوار، وكذلك تهدئة التوترات الإقليمية بفتح حوار إقليمي مع القوى الإقليمية المتنافسة لتحييد الموقف المضاد لسلوك إيران في أي مفاوضات دولية مرتقبة بشأن إحياء الملف النووي، وليس شرطا أن تكون التحركات الإيرانية بديلا عن الاتفاق النووي، ولكنها نوع من الضغط من أجل الوصول إلى اتفاق جيد من وجهة نظر إيران، بدلا عن الذهاب إلى المفاوضات بأيد فارغة.
ثالثا: البقاء وضرورات التفاعل والانخراط في مسار الدبلوماسية
رغم أن النظام الإيراني قد أعيد تشكيل سلطاته لتكون في يد “المتشددين”، ورغم أن النظام قد تحرر من بعض القيود والعقوبات نتيجة تراخي إدارة بايدن أو بمعنى أدق تبنيها للانفتاح لتشجيع إيران على الانخراط والتفاهم، وهو الأمر الذي أسهم في رفع مستويات صادرات النفط الإيراني لا سيما إلى الصين، فضلا عن تراجع الاهتمام الامريكي بالمنطقة، والتوازن الذي ترغب روسيا والصين بالوصول إليه في الشرق الأوسط من خلال علاقاتهما مع إيران، وغيرها من سياسة المقاومة التي تنتهجها إيران، غير أن هناك ضرورات تفرض على إيران العودة لطاولة المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي، أهمها:
تواضع نتائج سياسة المواجهة والحاجة الملحة لرفع العقوبات:
على الرغم من الخطة العاجلة التي أعلن عنها رئيسي لمواجهة الأزمة الاقتصادية وعجز الموازنة والتضخم ووباء كورونا كأولوية عاجلة، غير أن رفع المعاناة عن الاقتصاد بمعزل عن رفع العقوبات والاعتماد على اقتصاد المقاومة ومواجهة الفساد ومعالجة سوء الإدارة أو التوجه شرقا وتعزيز الشراكة مع دول الجوار، جميعها تبدو رهانات مشكوكا في جدواها فمن وجهة نظر واقعية يحتاج رئيسي لاتفاق متوازن مع القوى الدولية من أجل إحياء الاتفاق النووي ينهي عزل إيران عن الأسواق التجارية والمالية ويرفع العقوبات، لأن هذه المسألة حيوية للرئيس الجديد والنظام ككل وذلك من أجل وقف تراجع النمو الاقتصادي، ومعالجة حالة الانكماش التي دخلها الاقتصاد الإيراني منذ عام 2018م،والوصول إلى حالة تضخم هي الأعلى منذ الحرب العامية الثانية وارتفاع الأسعار بصورة غير مسبوقة فمن شأن رفع العقوبات أن يفتح الباب أمام إعادة اندماج إيران في أسواق النفط الدولية والأنظمة المصرفية ويمنحها وفورات مالية ضخمة، كما أنه سيمهد الطريق للاستثمار الدولي في قطاع الطاقة والبنية التحتية المتهالكين في إيران، وبالتالي نمو الاقتصاد ومعالجة الأزمات والاحتياجات الأساسية للمواطنين، ومواجهة تفاقم وباء كورونا.
الحاجة لامتصاص التوترات الداخلية المتصاعدة:
تواجه إيران سلسلة من التوترات السياسية والاجتماعيةـ وبدأت الانتقادات تتزايد إلى حكومة رئيسي قبل مرورمائة يوم على تسلمها السلطة، ولا شك أن عودة الاتفاق ومعالجة الأزمات سيحد من تزايد السخط الشعبي، وسيتمكن رئيسي من تعزيز شرعيته المجروحة، حيث وصل إلى السلطة من خلال عملية انتخابية شكلية خالية من المنافسين الفعليين، وشهدت أقل مشاركة انتخابية بلغت (48.8%)، وأعلى معدل تصويت احتجاجي وأصوات باطلة في تاريخ الانتخابات منذ الثورة بلغت (13%)، وشهدت البلاد بعدها موجة واسعة من الاحتجاجات كذلك يسهم رفع العقوبات والعودة للاتفاق في الاستقرار الداخلي فضلا عن تهدئة التوترات الناشئة عن الصدام مع القوى الإقليمية والدولية، هذا الاستقرار مهم في إطار برنامج الخطوة الثانية للثورة الذي تبناه خامنئي في الذكرى الأربعين للثورة، وجعله رئيسي محور عمل حكومته خلال ولايته الأولى، والذي يتمحور حول تجديد خطاب الثورة، والدفع بكودار ثورية شابة إلى مراكز صنع القرار، في عملية تجديد للنخبة المحافظة لمواجهة تآكل شعبية الثورة بين الأجيال الجديدة، والشرخ العميق بين عناصر النخبة الإيرانية القديمة، والحفاظ على قيم مبادئ الثورة على الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية وفي مقدمتها الاستقلالية ومواجهة الأعداء، وفي الخلفية تضمن هذه العملية انتقال سلسل للسلطة في مرحلة ما بعد خامنئي.
الحاجة للحفاظ على النفوذ الإقليمي المتراجع:
إلى درجة بعيدة قوضت العقوبات الأمريكية قدرات إيران المادية وحرمتها من مليارات عوائد صادراتها النفطية وغير النفطية، وفرضت قيود هائلة على تعاملاتها مع الخارج، حيث تم خفض الدعم المادي للسياسات الخارجية، وهذا بدوره أثر على علاقة إيران بوكلائها الإقليميين، وعلى نفوذها بالتبعية، وتحتاج إيران إلى إزالة العقوبات من أجل الإفراج عن عشرات المليارات من الدولارات التي يمكن أن تعيد من خلالها ترميم علاقتها بوكلائها والحفاظ على نفوذها، لا سيما بعد أن واجهت مظاهرات شيعية غير مسبوقة في العراق ولبنان، حيث يوجه إليها الاتهام بالمسؤولية عن الفساد وسوء الإدارة والأوضاع الاقتصادية المتفاقمة وانهيار الدولة والأفق المسدود في هذين البلدين .
الخوف من بدائل الدبلوماسية:
تبدو الولايات المتحدة أكثر صرامة بشأن مطالبها، وتمارس عليها ضغوطا داخلية من جانب أعضاء في الكونجرس بما في ذلك ديمقراطيين ينتمون لحزب الرئيس، وأخرى خارجية من جانب الحلفاء الإقليميين لثنيها عن مسار الدبلوماسية والعودة للضغوط، وتدرك حكومة رئيسي أن تقويض الفرصة الراهنة لإحياء الاتفاق النووي يضع النظام الإيراني في مواجهة تحديات، أولها أن إدارة بايدن لم تتخلى بصورة كاملة على متابعة الضغوط القصوى التي بدأتها إدارة ترامب، وأن رفع بعض القيود ما يزال في إطار تهيئة أجواء مناسبة لإقناع إيران بالعودة لطاولة المفاوضات، وإن استمرار العقوبات بالنسبة لحكومة رئيسي قد يسهم في فقدان القدرة بمرور الوقت على مقاومة الضغوط الاقتصادية، وفقدان تأييد مزيد من الأنصار والمؤيدين، ناهيك عن ان البدائل الأمريكية لفشل الدبلوماسية يتقدمها استراتيجية ردع نووية حاسمة لأن الالتزام بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي التزام صارم لا جدال بشأنه.
رابعا: النتائج وتأثيرات الهوية على القضايا الخلافية حول إحياء الاتفاق النووي
لا شك أن الهوية الإيرانية سيكون لها تأثير مهم على سياسة إيران لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الخلافية المطروحة حاليا بين إيران والولايات المتحدة والقوى الغربية، ويمكن إبراز أهم النتائج على النحو الآتي:
الاحتفاظ بالجوهر الأيديولوجي والعدائي تجاه الولايات المتحدة والغرب
إذا كان الانخراط والتفاهم خلال فترة أوباما والتي أسفرت عن الاتفاق النووي كان بمثابة فرصة تحررت فيها إيران من العزلة والضغوط والعقوبات، وإذا كانت المواجهة أيضا قد دفعت إيران لتعزيز برنامجها النووي على غرار ما حدث في عهد بوش أو ترمب، فإن الواضح أن أي من المقاربتين لم يلزم إيران بروح الاتفاق ولم يجرها إلى الاندماج والتغير كما راهنت بعض مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، ما يعنى أن الأيديولوجيا شديدة التأثير على خيارات إيران النووية وغير النووية، يعود ذلك بالأساس لأن الطبقة الحاكمة بقيادة المرشد ترى أن سياسة الولايات المتحدة العدائية تجاه إيران لا تتغير كثيرا، سواء في ظل الجمهوريين أو الديمقراطيين وأنه من الخطأ الاعتقاد أنه مع وصول الديمقراطيين إلى السلطة، سينخفض الضغط الأمريكي على إيران. بناء على ذلك فإن الانخراط في المفاوضات هي عملية موائمة للحفاظ على بقاء النظام وبقاء أيديولوجيته الثورية، لهذا لن تسمح إيران للتفاهمات النووية بأن تكون نافذة لتدفق المصالح الاقتصادية وتزايد النفوذ السياسي للولايات المتحدة والغرب في إيران، باعتبار أن أهم مكاسب الثورة هو استقلال القرار الوطني الإيراني؛ فلطالما كان النظام بحاجة إلى عدو ويبدو اتباع سياسة غامضة ومتناقضة تمامًا في مجال حساس للغاية وخطير للغاية للطاقة النووية يوضح مرة أخرى الحاجة الحيوية للنظام لتنمية الشعور بوجود عدو وأزمةمن أجل توحيد الجبهة الداخلية وضمان التفافها حوله. كما أن أي اتفاق مع الغرب والولايات المتحدة لن ينهي أو يقلل من عداوة الولايات المتحدة تجاه “إيران الإسلامية”، فهم يعتقدون أن العدو يحاول التسلل إلى إيران من خلال دمج اقتصادها، ومن خلال أدوات العولمة والإعلام والثقافة، ومن ثم لن تسمح إيران للغرب والولايات المتحدة باستغلال الاتفاق لتغيير هوية إيران والإصرار على تنظيم الحياة الاجتماعية وفقًا لـ “الإجراءات الإسلامية”، وجاء رئيسي بالأساس إلى منصب الرئاسة وقبله تم انتخاب البرلمان المتشدد من أجل تحقيق هذه الأهداف، وفي هذا السياق ليس هناك مع يمنع المرشد من غلق الباب أمام كافة مجالات التعاون مع الولايات المتحدة، بل الاتجاه إلى تعزيز علاقاته بمنافسيها، والقوى الدولية المناهضة للهيمنة الأمريكية. فعلى الرغم من أن هناك تباين بين الفصائل السياسية بشأن المسألة النووية، لكن يقدم النظام معالجة مؤسسية فاعلة للحفاظ على مكتسباته النووية وغير النووية،فبطبيعة الحال هناك خلاف داخلي حول المسألة النووية، فبينما فريق يرى أن السعي وراء أسلحة نووية هو المسار الصحيح الذي يجب اتخاذه، بحجة أن إيران وثورتها مستهدفة وهي محاطة بقوات معادية بقيادة الولايات المتحدة، وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة لمواجهة قوة الولايات المتحدة وحلفائها هي امتلاك أسلحة نووية، فإن معسكر آخر يجادل بأن امتلاك إيران لسلاح نووي يزيد من عزلة إيران ويدفع جيرانها أكثر إلى أحضان الولايات المتحدة، لكن لأن النظام يتمتع بطابع هوياتي فريد فإنالدستور يمنح المرشد الإيراني صلاحية مطلقة في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية المتعلقة بالاتفاق النووي، وتساعد الازدواجية التي يتسم بها النظام السياسي القيادة في المناورة والتلاعب بالقرارات الخاصة بالقضية النووية.
يتضح ذلك من السياسة التي تابعها النظام أثناء المفاوضات النووية التي بدأت عام 2013م وانتهت بتوقيع الاتفاق في عام 2015م، حيث ترك المرشد للرئيس والجناح التنفيذي في السلطة امتياز خوض المفاوضات وتوقيع الاتفاق مع دعم محدود وحماية مؤقتة نظرا للظروف القاسية التي كانت إيران واقعة تحت وطأتها بسبب العقوبات الدولية، لكنه سرعان من انقلب على المسار بحجة أن روحاني لم يلتزم بالخطوط الحمراء التي وضعها النظام،وبحجة أن الولايات المتحدة والغرب أطراف لا يمكن الثقة بها، وكانت تدخلات خامنئي كفيلة بمنح ضوء أخضر للحرس الثوري بتخريبها عبر تطوير ترسانة الصواريخ الباليستية، وعبر متابعة برنامج تصدير الثورة والإبقاء على العداء مع الغرب.
تتم عملية الموائمة بين إملاءات الهوية وضرورات البقاء والحفاظ على النظام بشأن المفاوضات النووية عبر عملية داخلية معقدة، لكن تظل هناك أولوية للاعتبارات المتعلقة بالهوية، باعتبار المرشد والمؤسسات التي تعمل تحت سلطته، وأهمها: مجلس الأمن القومي والحرس الثوري، يعتبرون امتلاك القوة النووية يتماشي مع الثوابت التي أرساها النظام منذ عام 1979م، وما يعطي لهذا النمط من التعاطي أهمية أن إيران تنظر إلى المفاوضات وسياسة الانخراط، أو سياسة الضغوط التي تتابعهما الولايات المتحدة والقوى الغربية على أنهما في الأخير يستهدفان قلب النظام أو على الأقل تغيير أولوياته وسلوكه وتوجهاته الراسخة وإنهاء استقلال إيران والسيطرة على مواردها وغزوها ثقافيا وفكريا وفي الأخير إخضاعها.
-
الاحتفاظ بالطموح النووي كمصدر للقوة والمكانة والفخر الوطني
تصر إيران على الاحتفاظ بحقها في التكنولوجيا النووية السلمية، ولا توجد مؤشرات على أن إيران يمكن أن تتخلى عن ذلك، حتى ولو ردد القادة الإيرانيون فتوى خامنئي بتحريم امتلاك السلاح النووي، وبالفعل لم تصمد الفتوى بعدم مشروعية حيازة سلاح نووي أمام تصريح وزير الاستخبارات الإيرانية في حكومة حسن روحاني محمود علويحول إمكانية إسقاط الفتوى بشأن حيازة السلاح النووي إذا اقتضت الضرورة ذلك . ترى إيران أن القدرات النووية تعزز قوتها ومكانتها، يرتبط ذلك بإملاءات الهوية التي تنظر من خلالها إيران لنفسها كقوة إقليمية نافذة ينبغي أن تتحصل على الأسلحة النووية كأحد مؤشرات قوتها الذاتية واستقلاليتها وإمكانية مواجهة القوى الدولية المهيمنة التي تستهدف مشروعها الوطني، وقد عززت عقوبات الولايات المتحدة ضد إيران حجة إيران بأن إنتاج الوقود النووي المحلي ضروري، فضلا عن هذا فإن البرنامج النووي أعطى إيران ورقة مهمة فيما يتعلق بعلاقاتها مع الغرب. وكما نجحت بعد حربها مع العراق من أن تجعل من تطوير برنامجها الصاروخي قوة ردع لحمايتها من أي هجوم مماثل لما قام به العراق في الثمانينيات من القرن الماضي، وكذلك توسيع حضورها خارج حدودها من خلال المليشيات في دول الجوار من نقل معاركها خارج حدودها وخلق خط دفاع في عدد من الدول، فإنها جعلت من الملف النووي قضية أساسية للصراع وورقة تضغط بها من أجل تخفيف الضغوط التي قد يتعرض لها النظام، ويبدو أن إيران تتخذ خطوات لتقليص الوقت المطلوب بشكل كبير للحصول على مثل هذه الأسلحة إذا تم اتخاذ القرار للقيام بذلك، ولا شك فإن القدرة على صنع الأسلحة النووية وحدها ستوفر لطهران رادعًا كبيرًا ضد خصومها، بمن فيهم الولايات المتحدة، فالاستثمارات الإيرانية في القدرات العسكرية والنووية تحفظ لإيران بقيمة استراتيجية لأنها توفر لإيران مجموعة واسعة من الخيارات والقدرات التي يمكن استخدامها للرد على أي عدوان عسكري. بعبارة أخرى، تمنح هذه القدرات العسكرية إيران عنصرًا عسكريًا موثوقًا به في استراتيجيتها الرادعة الشاملة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل. لهذا على الرغم من أن الولايات المتحدة ترى أن خطة العمل الشاملة المشتركة هي الوسيلة الأكثر فعالية لضمان عدم تمكن إيران من الحصول على سلاح نووي وأن جميع الخيارات الأمريكية لمنع إيران من تطوير سلاح نووي تظل متاحة حتى بعد القيود النووية الرئيسية لخطة العمل الشاملة المشتركة، لكن إيران تراوغ وتجادلبشأن حقها في الحصول على التكنولوجيا النووية السلمية، ومن خلال المماطلة وإعاقة وصول المفتشين الدوليين للمواقع النوويةتعمل إيران على تضييق وقت الاختراق للوصول إلى برنامج عسكري وقتما سنحت الفرصة، وهو أمر غير مستبعد على المدى المنظور مع تطوير إيران لقدراتها المعرفية والفعلية في مجال تطوير أجهزة الطرد المركزي ومعدلات التخصيب وغيرها من المعارف النووية.
-
رفض التفاوض حول البرنامج الباليستي والسلوك الإقليمي
لدى إيران قلق مفرط من التهديدات العسكرية الخارجية منذ الحرب العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، فإيران ما تزال تنظر إلى القيود المفروضة على قوتهما الصاروخية على أنها ناجمة عن الرغبة في إسقاط نظامها من خلال التدخلات العسكرية التي يقودها الغرب أو يدعمها، كما تعتبر إيران الصواريخ الباليستية ثقلها الموازن لمزايا الأسلحة التقليدية لجيرانها، ولذا، لم يكن مفاجئا أن إيران المرشد الأعلى والرئيس وكبار المسؤولين العسكريين أعلنوا باستمرار المفاوضات بشأن صواريخها خط أحمر.
ومن جانبها تنظر الولايات المتحدة للصواريخ الباليستية كوسيلة نقل محتملة للسلاح النووي، وينظر لها الغرب ودول المنطقة كأداة لزعزعة الاستقرار وسباق التسلح، ومن ثم ضرورة فتح النقاش بشأنها بحيث يتم السيطرة على مخزون إيران من حيث العدد والدقّة والمدى، حيث ترى هذه الأطراف أنه لا يوجد سبب دفاعي مقنع لتوسيع مدى هذه الصواريخ أو بناء منشآت ومحطات لتطوير الصواريخ في سوريا ولبنان واليمن، فضلا عن أن الصادرات الإيرانية للصواريخ وصواريخ كروز والطائرات المسيّرةتنتهك قرار مجلس الأمن رقم 2231، وهي عنصر رئيسي في التهديد الإقليمي لإيران ويجب معالجتها كجزء من المناقشات الموازية لمحادثات البرنامج النووي.مع ذلك فإن إيران على الجانب الآخر ستعمل على حصر الاتفاق مع الغرب والولايات المتحدة في القضية النووية مع عدم توسيع التفاهمات لتشمل أي قضايا أخرى، بما فيها قضية الصواريخ الباليستية، وقد أكد رئيسي على أنه”ليس لدينا اتفاق نووي آخر” فالصواريخ والجماعات المسلحة الأجنبية غير الحكومية هي ركيزة أساسية لقدرة إيران الدفاعية غير المتكافئة، حيث يُنظر إلى الصواريخ الآن في إيران على أنها الضامن الأساسي للأمن القومي رمز لاستقلال البلاد، مما يجعل قيود التفاوض عليها موضوعًا شديد الحساسية، وبالمثل لن تقبل إيران تضمين المفاوضات أي نقاش أو محادثات لاحقة تتعلق بسلوكها في المنطقة، فلو كانت تريد إيران الانصياع لهذه المطالب، لكانت وافقت على مطالب الولايات المتحدة خلال فترة ترامب ومع أن إيران تنخرط في مفاوضات مع القوى الإقليمية ولكن ذلك يبدو على سبيل المناورة في ظل تأكيد حكومة رئيسي على متابعة سياساتها ونفوذها الإقليمي.
ويقترح البعض مفاوضات متابعة لمناقشة هذه القضايا بدلا من عرقلة العودة للاتفاق النووي، لكن تظهر الخبرة الماضية أن النظام الإيراني مستعد لإجراء تعديلات تكتيكية عندما يعتبر أن ثمن سياساته باهظ للغاية، لكنه يظل متمسكا بمتابعة مشروعاته، وتتزايد المخاوف لأنه بعد عامين لن تكون هناك قيود على الصواريخ الباليستية الإيرانية، وهي مركبات نقل فعالة للغاية للأسلحة النووية، وخلال سنوات قليلة ستسقط كافة القيود الأخرى، في حين أن النظام ما يزال يحتفظ بعقيدته وأيديولوجيته التوسعية.
خلاصة
يتابع النظام الإيراني القضية النووية ومسألة المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي بناء على تأثير الهوية على سياسة إيران الخارجية، والتي تجعل موقف إيران أكثر تشددا بشأن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، ولا شك متابعة هذا الملف من منطق الموائمة بين إملاءات الهوية وضرورات البقاء، أو ما يسميه المرشد المرونة البطولية هو لأجل تحقيق هدف أساسي وهو الحفاظ على بقاء النظام أو بمعنى أدق الحفاظ على هويته الأيديولوجية، لهذا فإن الاستنتاج والخلاصة الأخيرة هي أن إيران ستنخرط في اتفاق لتسوية القضية النووية بوصفه فرصة لإخراج البلاد من أزمتها ومعالجة حالة العزلة وإزالة العقوبات، والاستفادة من هذه الفرصة لتحقيق التنمية وجذب الاستثمارات ودفع عجلة الاقتصاد، في الوقت نفسه الذي يتم استغلال عوائد أي تسوية للإبقاء على النظام وإعادة تأهيلهوالحفاظ على توجهاتهوسياساته الخارجية المدفوعة بالهوية ذاتها، وتفيد خبرة الاتفاق النووي في 2015م بأن إيران لم تلتزم بروح الاتفاق في غياب أي آلية فعلية أو ضمانة لتحقيق ذلك، والقوى المتشددة بقيادة المرشد، والتي لم تحترم روح الاتفاق وعارضت توجهات الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، هي نفسها التي استغلته لتمهيد الطريق نحو الهيمنة على السلطة، وهي ذاتها اليوم التي تنوى العودة للانخراط في مفاوضات حول إحيائه، ولا يتوقع أن تكون نواياها في العودة إلى الاتفاق تختلف كثيرا عن نواياها وتوجهاتها السابقة عندما كانت خارج السلطة، فالاتفاق سيكون موائمة مرحلية لإزالة العقوبات، ورافعة لتحقيق برنامج الخطوة الثانية للثورة وضمان لانتقال سلسل للسلطة في مرحلة ما بعد خامنئي، ومورد استراتيجي لمد المشروع الإيراني في الداخل والخارج بالزخم والاستمرارية.