إعداد
د / أكرم حسام مستشار مركز جسور
حبيبة عمران باحث في الشؤون الدولية

خريطة الدول المشاركة والمستبعدة من قمة الديمقراطية
تلعب بعض الأطر غير الرسمية مثل النوادي الدولية ( نادي روما/ نادي مدريد … الخ) وكذلك المؤتمرات الفكرية السنوية ( مؤتمر ميونخ للأمن/ حوار شنجرلا في منطقة آسيا / نادي فالداي في روسيا الاتحادية) أدواراً مهمة في تشكيل السياسات الدولية إزاء بعض القضايا المطروحة على الأجندة العالمية، سواء كانت قضايا متعلقة بالسلم والأمن الدوليين، أو تلك المتعلقة بتجسير التعاون الدولي في مواجهة التهديدات العالمية المشتركة مثل قضايا التغير المناخي والجوائح والأوبئة التي تضرب العالم بين الحين والأخر، وتؤثر على حركة التفاعلات الدولية سلباً وإيجاباً.
في هذا السياق تسلط هذه الورقة الضوء على إحدى هذه الأطر غير الرسمية، والتي أثارت الكثير من الجدل خلال الفترة الماضية، وهي “قمة الديمقراطية” التي دعت لها الولايات المتحدة يومي 9 و10 ديسمبر الجاري، حيث تعالت أصوات كثير من الدول بتوجيه النقد لهذه القمة وعلى رأسها روسيا والصين، بينما أثارت مسألة الدعوات الموجهة لبعض الدول واستبعاد دول أخرى بعينها جدلاً إضافياً.
وهو ما دفع مركز جسور للدراسات الاستراتيجية ليس فقط لمحاولة فهم أبعاد هذه القمة، بل لوضعها في سياقات النظام الدولي المشابهة، كي نتمكن من تجسير الفجوة المعرفية عن الأدوار التي تلعبها بعض الأطر غير الرسمية في تشكيل النظام الدولي وحركته وتفاعلاته، هادفين من ذلك للفت انتباه صناع القرار والدبلوماسيين بشكل خاص لأهمية الاشتباك مع مثل هذه المنتديات والنوادي غير الرسمية سواء بالمشاركة فيها ، أو بمتابعة أنشطتها المختلفة ، وما يتمخض عنها من نتائج أو توصيات أو استراتيجيات، يمكن ان تؤثر بصورة أو بأخرى على مصالح الأمن القومي.
أولاً: أدوارالظل في السياسة العالمية
إن فهم طبيعة الأدوار للمنتديات غير الرسمية ، التي تتشكل تعمل في الظل، تقتضي منا أن ندرك منذ البداية، وكمعطى معروف للمهتمين بحقل العلاقات الدولية، حقيقية أن النظام الدولي الراهن ليس وحدة واحدة. لكنه مكون من أنظمة فرعية متعددة ومتشابكة ومتداخلة، بما في ذلك الأنظمة الأقتصادية والأمنية والسياسية الفرعية، وهي ذات نطاقات عضوية مختلفة، ومستويات شرعية مختلفة، ومناطق محفزة، وتأثيرات متباينة على سلوك الدول المختلفة، الأعضاء في الجماعة الدولية.
إن الأطر الرسمية للنظام الدولي الراهن هي تجسيد لحالة الهيمنة الليبرالية على النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من خلال عدة أطر اقتصادية وسياسية وعسكرية : ممثلة في الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة، ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات النقد والتمويل الدولي، والمنظمات الدولية غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات ، بجانب مؤسسات تحمي هذا النظام الليبرالي العالمي كحلف الناتو، والمؤسسات الأمنية الإقليمية في آسيا وأفريقيا ( آسيان/ مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي….الخ) ، بجانب علاقات التحالف الأمريكية والغربية مع البلدان الديمقراطية في العالم، والتي تلتزم جميعها بإطار قانوني مشترك ممثلاً في قواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان واتفاقيات منع الانتشار النووي وغيرهامن المعاهدات الدولية المستحدثة ومنها الاتفاقية الخاصة بالتغير المناخي .
ولا تزال هذه الأطر الرسمية تعمل بكفاءة حتى الآن – رغم محاولات التعطيل أو عدم الالتزام الكامل من بعض الدول غير الراضية عن الشكل الراهن للنظام الدولي في شقه الرسمي، بينما يغفل كثيرون جانب مخفي من جوانب النظام الدولي الراهن، وهو المتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها تشكيل ما يعرف بالمدركات والهوية الدولية المشتركة، عبر العلاقات غير الرسمية والأنماط والشبكات والقيم والمعتقدات والأعراف، والمعايير والتفاهمات المشتركة فيما يتعلق بتشكيل السلوك الدولي على المستوى الفردي والإقليمي والدولي، وهي الأهداف التي تتحقق من خلال أنشطة جماعة دولية من جهات فاعلة غير حكومية ( النوادي غير الرسمية كنموذج على ذلك)تعمل على الوصول لمعتقدات وقيم أكثر اندماجاً، يمكن من خلالها التأثير على السلوك والرؤية للمصلحة الوطنية للدولة .
وقد نجحت هذه الآليات غير الرسمية طوال السنوات السابقة في جعل ممارسات حقوق الإنسان الدولية أكثر اندماجاً خاصة في الدول الديمقراطية، وبشكل جزئي لدى بعض الدول الديكتاتورية، كما أصبحت فكرة السلامة الإقليمية معيار للإندماج والتعاون الإقليمي، لذلك يعتقد أن الجهات الفاعلة الدولية ومن خلال سيطرتها على هذه الأطر غير الرسمية والتحكم في أجندتها، تستطيع أن تخلق أنماطا من السلوك بتفاعلها وتمتد تلك الأنماط إلى المؤسسات والأنظمة والشبكات الدولية” وتنتج عن هذه التفاعلات معايير تندمج في القانون المحلي، وتقتنع بها النخب الحاكمة المسيطرة سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
ثانياً: نماذج من الآليات غير الرسمية في العلاقات الدولية:
(1) نادي روما: تأسس نادي روما أوائل عام 1968 في روما من قبل مجموعة من رجال الأعمال والعلماء الأوروبيين ، وهو منظمة غير حكومية و غير ربحية تعمل كمركز أبحاث دولي حول القضايا العالمية، ويناقش القضايا العالمية الصعبة والمثيرة للجدل و يضم اليوم 35 جمعية وطنية ، نشر نادي روما الآن أكثر من 45 تقريرًا. و يتم تقديم السياسات التي يمكن أن تعالج عمليًا العديد من حالات الطوارئ التي تواجه المجتمع والعالم اليوم، و يحاول النادي إرساء الأسس لتحولات منهجية طويلة الأجل في النظم الاجتماعية والبيئية والاقتصادية العالمية. باختصار يضم النادي حوالي 100 عضو نشط كامل مع سكرتارية بدوام كامل في سويسرا مع مكتب فرعي في بروكسل ، بلجيكا.
من انجازات النادي في 2019 ، تم إطلاق خطة الطوارئ الكوكبية على هامش قمة الأمم المتحدة للعمل المناخي في نيويورك. لتوفير مجموعة من أدوات السياسة الرئيسية التي تعالج التحديات الشاملة لتغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي وصحة الإنسان ورفاهه ، و يضم ايضا نادي روما صفحة مخصصة لمقالات الرأي حول المواضيع التي تهم النادي مثل المناخ, الاقتصاد, الموارد. والتقارير المقدمة في نادي روما تهدف إلى المساعدة في فهم القضايا العالمية الرئيسية بشكل أفضل والسعي إلى تعزيز شعور أكبر بالمسؤولية المدنية. ينشر النادي أيضًا وثائق مختصرة وموجهة نحو السياسات. وهي تحتوي على مقترحات سياسية ملموسة وتستهدف جمهورًا أوسع من صانعي القرار والشركات والمجتمع المدني .
يُدار نادي روما من قبل لجنة تنفيذية مكونة من أحد عشر عضوًا تعين الرئيس ونواب الرئيس والأمين العام وأمين الصندوق، ويقود نادي روما لجنة تنفيذية. يتم تعيين أعضاء اللجنة التنفيذية لمدة ثلاث سنوات ويمكن إعادة انتخابهم. اما العضوية الفردية في نادي روما تقتصر على أولئك الذين يتم انتخابهم من قبل اللجنة التنفيذية.
يهدف نادي روما الي التنفيذ من خلال التأثير, حيث يتشارك الاعضاء و الجمعيات و الشركاء في ايجاد حلول قابلة للتنفيذ. بالإضافة إلى ذلك ، يهدف نادي روما إلى: تعزيز القيادة و تبادل الافكار بين الأجيال من خلال تشجيع المزيد من الحوار بين الاجيال, توفير مساحة لحل النزاعات, تعزيز قدر أكبر من التنوع الجنسي والعرقي والجغرافي والعمري في الحكومة والشركات من أجل تعزيز القدرة على اتخاذ القرارات المعقدة.
يحتفظ نادي روما بشبكة من الشراكات والمؤيدين في العديد من البلدانالمؤيدة لسياسات واهداف النادي منها ارجنتينا, استراليا, المانيا, كندا, بلغاريا, استونيا, فنلندا, كرواتيا, التشيك, بلجيكا, الهند, المجر, جورجيا.
(2) نادي مدريد : هو منظمة مستقلة غير ربحية تم إنشاؤها لتعزيز الديمقراطية والتغيير في المجتمع الدولي. يتألف نادي مدريد من 95 عضوًا عاديًا ، 64 منهم رؤساء سابقون و 39 منهم رؤساء وزراء سابقون من 65 دولة ، وهو أكبر منتدى في العالم لرؤساء الدول والحكومات السابقين.من بين أهدافه الرئيسية تعزيز المؤسسات الديمقراطية وتقديم المشورة بشأن حل النزاعات السياسية في مجالين رئيسيين: القيادة الديمقراطية والحكم ، والاستجابة للأزمات وحالات ما بعد الأزمات.
يعمل نادي مدريد جنبًا إلى جنب مع الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية والمجتمع المدني والعلماء وممثلي عالم الأعمال لتشجيع الحوار من أجل تعزيز التغيير الاجتماعي والسياسي. يبحث نادي مدريد أيضًا عن طرق فعالة لتقديم المشورة الفنية والتوصيات للدول التي تتخذ خطوات لإرساء الديمقراطية، من خلال برامج و حوارات و شراكات السياسة ، مما مكن من تعزيز الإجماع نحو التغيير الإيجابي بين أصحاب المصلحة السياسيين والاجتماعيين الرئيسيين الذين يدعمون التحولات الديمقراطية وعمليات التوطيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الأفريقي ، وكذلك في بوليفيا وهايتي وقيرغيزستان وميانمار وصربيا وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية. خلال الستة عشر عامًا الماضية ، شاركوا أيضًا في برامج مواضيعية حول التحديات العالمية ، مثل جودة ومستقبل الديمقراطية ، والإدماج الاجتماعي ، ومنع التطرف العنيف ومكافحته ، والحوكمة العالمية ، وتغير المناخ.
على مدى السنوات العشر الماضية ، شارك المشروع في العديد من البلدان, وفي الوقت الحالي يتم تطوير العديد من المبادرات على مستوي الدولة في البوسنة والهرسك ، وجورجيا ، وإسرائيل ، ونيبال ، وميانمار ، وتونس ، من بين آخرين.
لدى النادي مجموعة من البرامج المهمة وهي:
1) برنامج تعددية الأطراف والتعاون العالمي: هذا البرنامج يعمل علي وجود نظام متعدد الأطراف قوي وشامل وقائم على القواعد للمجتمع العالمي لصياغة استجابات مشتركة للتحديات المشتركة .
2) برنامج الجيل القادم للديمقراطية: هو برنامج لأصحاب المصلحة المتعددين بشأن حالة الديمقراطية ومستقبلها بقيادة نادي مدريد. الهدف العام من هذا البرنامج هو تمكين الديمقراطية بشكل أفضل من تلبية توقعات واحتياجات جميع المواطنين والحفاظ على حريتهم وكرامتهم مع ضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة.البرنامج يسهل مناقشة حالة ومستقبل الديمقراطية من أجل صياغة جداول الأعمال الإقليمية ، فضلا عن جدول الاعمال العالمي ، و يهدف إلى عكس الاتجاهات المقلقة وتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. يقدم المشروع تحليلاً شاملاً للديناميكيات الإقليمية في الحكم الديمقراطي ، وإسقاطًا للاتجاهات ذات الصلة ، وتجميعًا للممارسات و حوارات السياسة.
3) برنامج الحوارات السياسية: يعمل نادي مدريد علي حشد الإرادة السياسية من أجل التغيير الإيجابي. منذ عام 2001 ، حشدت الحوارات السياسية السنوية الإرادة السياسية والالتزام بدعم العناصر العالمية الرئيسية مع اطراف من مختلف دول العالم.
(3) المؤتمرات الأمنية: وأشهرها مؤتمر ميونخ للأمن ومؤتمر فالدي الذي تعقده روسيا، وعلى المستوى الإقليمي هناك مؤتمر حوار المنامة في مملكة البحرين، ومؤتمر حوار شنغريلا في سنغافورة. وجميع هذه المؤتمرات تحظى باهتمام كبير من صناع السياسات الاستراتيجية والأمنية حول العالم، حيث تشارك فيها أهم مراكز الدراسات العالمية، وشخصيات رسمية وغير رسمية من دبلوماسيين وعسكريين وتكنوقراط. وتعكس هذه المؤتمرات القضايا التي تشغل صناع الفكر حول العالم، واتجاهات التحليل والتعاطي مع هذه القضايا. وتعد هذه المؤتمرات الأمنية نافذة مهمة لبعض البلدان لطرح رؤياها للسلام الدولي والأمن الإقليمي وتجاه بعض الملفات على الساحة الدولية.
ثالثا: نموذج جديد : قمة الديمقراطية وآليات الصراع الدولي:
شغلت “قمة الديمقراطية” التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن في الفترة من 9-10 ديسمبر الجاري 2021 حيزاً كبيراً من اهتمامات الصحافة العالمية والمحلية، خاصة مع لهجة الانتقاد الحادة التي وجهتها دول مثل روسيا والصين لهذه القمة، والتي اعتبرتها دعوة للأنقسام الدولي، وعودة للتفكير بعقلية الحرب الباردة، مع انتقادات في الصحف المحلية خاصة في البلدان التي تم استبعادها من قائمة المدعوين، رغم أنها كانت تصنف في السابق ضمن الدول الديمقراطية، وبعضها دول حليفة أو صديقة للولايات المتحدة. لكن هذه التغطيات للقمة المرتقبة لم تُشر بشكل واضح لكونها أحدى الآليات غير الرسمية التي تسعى واشنطن لإضافتها لقائمة المؤسسات غير الرسمية التي تعمل منذ عقود وسنوات على تغيير الأفكار وتوحيد التصورات إزاء القضاء العالمية، بما ينسجم مع المصلحة الأمريكية بالأساس، ممثلة في بقاء النموذج الأمريكي / الغربي مهيمنا من الناحية الأيدلوجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ومنع أي قوى صاعدة من محاولة تغيير هذا النظام الذي تأسس منذ الحرب العالمية الثانية، وتم تطويره خلال العقود السبعة الماضية.
إن متابعتنا لهذه القمة القادمة، ينبغي أن تكون ضمن هذا السياق الاستراتيجي، خاصة أن القمة تُعقد للمرة الأولى، وسيكون هناك قمة أخرى بنهاية العام القادم، لمتابعة ما تم الإتفاق عليه من قرارات أو توصيات، فالإنشغال بمن شارك ومن تم استبعاده من الدول هو الجزء الظاهر من الكوب ، بينما يظل الجزء الغاطس هو الأهم، وفي هذا الإطار نشير لعدد من الملاحظات الختامية بخصوص دور الأطر غير الرسمية في السياسة العالمية ، وهي على النحو التالي:
1) من المهم متابعة كافة الأنشطة والفاعليات والتقارير التي تخرج عن بعض هذه التجمعات الدولية غير الرسمية، حيث تعكس بصورة أساسية توجهات القوى المسيطرة على النظام الدولي الراهن، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
2) تعتبر قمة الديمقراطية آلية غير رسمية جديدة من آليات التأثير في سلوك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، عبر الضغط الدبلوماسي، ومحاولة إضعاف الموقف السياسي لبعض الدول ، التي تتعارض مصالحها في الوقت الحالي مع الرؤية الأمريكية للعالم .
3) تدرك روسيا والصين تحديداً أن هذه القمة، هي جزء من أدوات الصراع الدولي القادم، لمنعهما من مزاحمة الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي.
4) لا يتوقع أن تحقق هذه القمة نتائج كبيرة في مسار التحول الديمقراطي العالمي، وفق مفهوم أحادي مسيطر، فمعايير الديمقراطية الغربية الصارمة جرى تطويعها في بعض البلدان ضمن سياقات محلية، وحققت بالفعل نجاحات ملموسة، وقد سبق أن اعترفت الولايات المتحدة نفسها بهذا التطور الايجابي، لذلك قد يكون استبعاد بعض البلدان من هذا التجمع نقطة تراجع للنموذج الأمريكي الليبرالي عالمياً.
5) من الصعب تصور أجندة هذه القمة، وما يمكن أن تطرحه من قضايا، خاصة وأن قضية التحول الديمقراطي يتم التعاطي معها من كثير من البلدان بمنظور سيادي، وأحيانا بحساسية مفرطة، وتعتبر ضمن قضايا التدخل في الشأن الداخلي عندما تتحدث عنها دول أخرى، لذلك التوقعات بشأن مستقبل هذه القمة ونتائجها ليست كبيرة، وإنما ستدور في فلك النقاش الدولي حول حالة الديمقراطية في العالم.