إعداد
أنس القصاص
باحث في الشؤون الاستراتيجية وقضايا الأمن والسلام الدولي
تشكل القوة البحرية أحد عناصر القوة العسكرية لأي دولة، ومحور مهم من محاور المنافسة الراهنة بين القوى العظمى، الساعية نحو تكريس الهيمنة على العالم براً وبحراً وجواً وفضاءً وحتى في المجال السيبراني، ورغم أهمية العناصر الجديدة في ميزان القوة العسكرية، والتي ارتبطت على سبيل المثال بالثورة في عالم الحروب وطبيعة الأسلحة الحديثة ، وما ظهر منها حتى الآن من استخدامات للذكاء الأصطناعي في الحروب، بجانب الثورة التي أدخلتها المسيرات وغيرها، بالإضافة لظاهرة عسكرة الفضاء، واعتبارها قوة جديدة تضاف للقوى التقليدية ( البرية والبحرية والجوية)، ومحور جديد من محاور تحقيق الهيمنة بين القوى العظمى، إلا أن القوة البحرية سيظل لها أهميتها الكبيرة، ليس فقط في المجال التجاري، لكن أيضاً في المجال الدفاعي، وكنقطة تفوق رئيسة للقوى الساعية لفرض سيادتها البحرية على البحار والمحيطات.
من هنا، يسعى هذا التحليل للإلقاء الضوء على مستقبل السيادة البحرية الأمريكية حول العالم، وحدود المنافسة بينها وبين القوى الأخرى
الأهمية التاريخية للقوة البحرية:
منذ فجر التاريخ، نشأت القوة البحرية SEA POWER كأحد عوامل التأثير والقوة والرفاهية للأمم والمجتمعات المشاطئة للبحار والمحيطات، ففي العصور القديمة، كانت القوة البحرية إحدى عناصر القوة المميزة لمصر القديمة والحضارة السومرية والفينيقية وما عرف بعد ذلك بشعوب البحر.بعذ ذلك، ساعدت القوة البحرية الهائلة للإمبراطورية الرومانية على تحويل البحر المتوسط لبحيرة رومانية خالصة؛ بذات القدر الذي أهل الإمبراطورية الصينية للسيطرة على منطقة غرب المحيط الهادئ والدخول في صراع مبكر مع إمبراطورية الساموراي( اليابان حالياً). وفي العصور الوسطى، ساعدت القوة البحرية البرتغاليين في تنفيذ أحد أكبر عمليات الاكتشاف الجغرافي أهمية على مدار التاريخ، وما تواكب مع تلك الاكتشافات من توسعة للنفوذ والثروة والسطوة عبر البحار من الأمريكيتين غرباًمروراً بطريق “رأس الرجاء الصالح” حول أفريقيا،حتى أرخبيل الملايو شرقا، وحتى أعتاب جزر سليمان على نهاية الأرخبيل وعلى أخر نقطة يابسة في جنوب المحيط الهادئ.
أما في بديات العصر الحديث ( النصف الثاني من الألفية الأخيرة) ، فقد ساهمت حركة الاستكشافات الجغرافية في إعادة تعريف أوروبا بعيداً عن ثنائية “التاج والقلنسوة”، ومع الرغبة المحمومة للقوى الأوروبية للسيطرة على العالم الجديد ، من أجل إنجاز الانتقال الحضاري من عصور سيطرة الحضارات الأفروأسيوية كالعرب والمسلمين والتتار، إلى عصور جديدة تسيطر فيه أوروبا على المتون، تمهيدا لغزو قلب العالم القديم، فيما تم تبريره فلسفياً بعد ذلك بـ”عبء الرجل الأبيض”، وقد كانت القوة البحرية هي البنية التحتية الأساسية لهذه الاستراتيجيات العظمى التي ساهمت في تكوين إمبراطوريات شكلت قلب العالم الحديث.
دور القوة البحرية في تشكيل النظام الدولي المعاصر :
خلال خمسة قرون مضت، تميزت جهود ومحاولات السيطرة البحرية بأنها لا أثر ملموس لها، لكونها تجري في البحار والمحيطات البعيدة؛ لكنها في الواقع شكلت كبرى التحولات الاستراتيجية في المنظومات الدولية المتعاقبة، حيث اعتبر علماء الاستراتيجية، وفي طليعتهم ألفريد ماهان وكارل هاوسهوفر أن تعريف القوة البحرية Sea Powerأكثر اتساعاً من مجرد إطلاقه على القوات البحرية (Navy) أوالقواعد البحرية أو رؤوس الشواطئ (Beach Heads) ، فقد اعتبر ماهان وهاوسهوفر وآخرون أن المراكز التجارية لشركة الهند الشرقية في شبه الجزيرة الهندية في القرن السابع والثامن عشر لم تكن أقل تأثيرا في عناصر القوة البحرية من القوات البحرية. فقد كانت الأساطيل التجارية هي أساس تلك المعادلة خلال القرن السابع عشر وحتى التاسع عشر، نظرًا لقوة التوجه نحو المركنتيلية كمحور استراتيجي في صياغة سياسات القوة؛ وتحت ضغط الدور المتعاظم للشركات الأوروبية في ذلك الوقت، الساعية للبحث عن أسواق وموارد ما وراء البحار في صياغة السياسات الخارجية الأوروبية خلال تلك المرحلة. وقد كان هذا التوجه هو نتاج أصيل للثورة الصناعية التي ألهبت روح الامبريالية الأوروبية والشغف نحو فتح أسواق جديدة والسيطرة على الموارد والمواد الخام بأي ثمن حتى وإن كان بالبارود والطاعون.
تغيرت هذه المعادلة في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، مع ظهور حاملات الطائرات التي قللت كثيرًا من دور القواعد البحرية، ثم جاءت العولمة مؤخرًا لتقضى على أهمية الأساطيل التجارية في تشكيل القوة البحرية، نظرًا لحرية التجارة في أعالي البحار والتي تعتبر إحدى القواعد القانونية والسياسية والأمنية للنظام الدولي الحالي. ومن ثم تتلخص القوة البحرية في العصر الحديث بشكل شبه أساسي في القوة العسكرية البحرية.
الطفرة المعاصرة للقوة العسكرية البحرية:
كما سبق أن ذكرنا، فقد ظلت القوة البحرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قوة تجارية تقوم على خدمة الأغراض الإمبريالية للقوى العظمى، لكنه مع نهاية القرن التاسع عشر، ومع اندلاع الحرب الأسبانية الأمريكية حول كوبا، بزغت أهمية القوة البحرية المسلحة في حسم الصراعات خارج الحدود، وبدأ العالم تدريجيا في الفصل بين الأساطيل التجارية التي كانت تستخدم في الأعمال الحربية والأساطيل المخصصة للقوات البحرية المستخدمة خصيصاً في أغراض القتال. وعلى الرغم من أن استخدام الأساطيل التجارية استمر في الأعمال القتالية حتى الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الظاهرة بدأت بالتلاشي مع بداية القرن العشرين، بسبب إخفاقات الأساطيل التجارية المتكررة في الصمود والاستجابة للخطط التي يضعها القادة الميدانيون.
جاءت الطفرة الكبرى في دور القوة البحرية في الأعمال العسكرية مع تدشين أولى حاملات الطائرات في العالم مع نهاية الحرب العالمية الأولى وهي حاملة الطائرات البريطانية اتش ام اس هيرميس. هذه الخطوة دفعت السيطرة البحرية نحو آفاق جديدة لم يعرفها الإنسان. فحاملة الطائرات هي عملياً قاعدة عسكرية متنقلة تجوب البحار، وتنتقل من ميدان قتال إلى ميدان أخر. هذه المرونة والاستجابة السريعة كانت مفاهيم جديدة على الاستيعاب البشري في تلك الفترة، سرعان ما تم اعتمادها من قبل القوى العظمى الأخرى، وبدأت جميعها (الولايات المتحدة – فرنسا – إيطاليا – اليابان) في بناء نموذج السيطرة الجديد.
هذا السباق نحو بناء حاملات الطائرات، دفع الولايات المتحدة للدعوة لعقد مؤتمر دولي في واشنطن للقوى الخمس لوضع حدود لتسليح حاملات الطائرات، تمخض عنه ما عرف بمعاهدة واشنطن البحرية – أو معاهدة القوى الخمس – في عام 1922 حيث تم الاتفاق على وضع سقف لقدرات الإزاحة للقطع البحرية عند 10 آلاف طن.تم تعضيد هذه المعاهدة بمعاهدة أخرى في لندن عام 1930 مع بزوغ قوة الغواصات البحرية، التي تم تحديد سقف إزاحتها عند ألفي طن.
مع إعادة تحديد سقف التسليح البحري للقوى الخمس لمجموع القوات البحرية،ودخول أسلحة جديدة في الخدمة البحرية مثل الطرادات والمدمرات. حققت معاهدة لندن 1930 امتيازاً واضحاً لبريطانيا والولايات المتحدة في سقف القوة البحرية، مع امتيازات أقل لفرنسا ثم اليابان ثم إيطاليا. هذا الاتجاه دعى اليابان إلى الانسحاب من التوقيع على معاهدة لندن الثانية في عام 1936 وكذلك إيطاليا التي كانت قد انخرطت في حرب الحبشة وكانت في احتياج كبير لتوسعة الأسطول البحري فضلا عن وضع العراقيل أمامه. مع انهيار معاهدة لندن الثانية انهار التفاهم الدولي حول سباق التسلح البحري، وكان من كسب الرهان في النهاية هي اليابان الإمبراطورية التي بنت شبحاً ضخماً، لا يزال حتى هذه اللحظة من أكبر القوى البحرية التي عرفها التاريخ.
مسارات السيطرة البحرية الأمريكية:
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أعلنت إدارة روزفلت سياسة الحياد، حتى ذلك اليوم الذي ضرب فيه الأسطول الياباني بقيادة الأدميرال ياماموتو القوة الضاربة للأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ المتمركزة في بيرل هاربر بجزيرة هاوايأواخر عام 1941، حيث قضت الخطة اليابانية بأنه من أجل كسب معركة الهادئ ومحاصرة الأمريكيين يتعين عزل أستراليا تمامًا؛ وذلك عن طريق السيطرة على منطقة الجزر الأوقيانوسية الممتدة من شمال بحر كورال وحتى بحر باندا قبالة جزر تيمور الشرقية مرورًا بجزر بابوا غينيا الجديدة وأرخبيل بسمارك حتى جزر سليمان البريطانية. قام اليابانيون بإنشاء قواعد بحرية وجوية في جوادلكانال بجزر سليمان من أجل استغلالها كنقاط سيطرة وتحكم على منطقة الأوقيانوسيا كلها، ومن ثم الإمعان في خنق أستراليا وعزل جنوب الهادئ تمامًا. لكن الأمريكيين باغتوا القوات اليابانية في مقتبل إعداداتها في جوادلكانال عن طريق إنزالات جوية كثيفة على الجزيرة ثم استطاعوا بعد معارك شرسة مع اليابانيين طردهم من الجزيرة وكسر الحصار المتقدم على أستراليا. كانت للفرقة الجوية التي تولت تقويض الوجود الياباني على جزيرة جوادلكانال دور محوري في كسر ذلك الحصار عن جنوب الهادئ وكسر سلسلة الإمدادات اليابانية الجبارة والتي عرفها الأمريكان بقطار طوكيو السريع (Tokyo Express) وإدماج أستراليا بقواها الناعمة والخشنة كظهير للأمريكيين في الحرب.
بعد إحباط الخطة اليابانية في السيطرة على جوادلكانال وإخراج أستراليا وجنوب الهادئ من الحرب مبكراً، حصل الأمريكيون على نصر مؤزر بانتصارهم في معركة جزيرة ميدواي التي تعد أحد أهم المعارك البحرية في العصر الحديث ، وأغرقت معظم حاملات الطائرات اليابانية هناك وأصبح الطريق معبدا أمام قطع الأسطول الحربي الأمريكي صوب بحر اليابان بعد أن ربح انتصارات تكتيكية في بحر الفلبين.
خط الانتصار الأمريكي على البحرية الإمبراطورية اليابانية في ميدواي أحد أهم خطوط تشكيل النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية ألا وهو: السيادة البحرية شبه المطلقة للأمريكيين. كان الأمر يتخطى فكرة خروج الولايات المتحدة رابحة من تلك الحرب فهذه المقولة لا تعكس الحقيقة، بل يمكن القول أن الولايات المتحدة كانت الرابح المستولي على كل شيء. فقد كسرت الحرب أكبر قوتين بحريتين مناوئتين ألا وهما البحرية اليابانية والبحرية النازية في ظل منافسة لا تكاد تذكر من قبل السوفييت،وأصبحت البحار تحت سلطان أساطيل الولايات المتحدة السبعة.
تطوير القوة البحرية الأمريكية بعد الحرب الباردة:
مع بدايات الحرب الباردة قام الأمريكيون بإحلال واسع للقوات البحرية، عبر تقديم جيل جديد من حاملات الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية والتي وصل معدل إزاحتها إلى ما يزيد عن 80 ألف طن، مع تطوير تدريع الحاملات ومنظوماتها الدفاعية حتى صارات قطعة بحرية مهيبة، بعد أن كانت محط هجمات الكميكازي اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تطوير القدرة على الهبوط والإقلاع العمودي VSTOL بعد ذلك مع طائرات هاريير البريطانية الأولى والثانية التي كانت درة سلاح الحاملات خلال الحرب الباردة حتى إنتاج الطراز B (نسخة حاملات الطائرات) من طائرة السيادة الجوية F-35 الذي تسلمته القوات البحرية الأمريكية وبعض القوات الحليفة منذ سنوات.
مع بدايات الحرب الباردة، أدرك الإتحاد السوفييتي ألا سبيل له لمقارعة الأمريكيين في سباق حاملات الطائرات فقاموا بالإنفاق على تطوير الغواصات النووية كاستراتيجية مجابهة ومثبطة للانتشار الأمريكي عبر البحار. لذلك، فإن معادلة التفوق الأمريكي في حاملات الطائرات مقابل التفوق النوعي للروس في الغواصات النووية عبر البحار ستكون السمة الأبرز في هيكل القوة البحرية عبر عقود وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين. فالغواصة تايفون النووية الروسية يبلغ معدل إزاحتها 48 ألف طن ظلت لفترات طويلة سيدة أعماق البحار حتى تطوير الأمريكيين لطراز أوهايو النووي المسلح بصواريخ ترايدنت 2 البالستية طويلة المدى ثم تطوير طراز فيرجينيا في عام 2006 الذي يعتبر قوام الردع النووي البحري للبحرية الأمريكية في وقتنا الحالي، ويعمل مع طراز أوهايو كحائط نووي استراتيجي وتكتيكي متحرك عبر بحار العالم.وإن جاز لنا أن نقول بأن الروس قد كسبوا معركة الغواصات إلى حد ما، إلا أن الأمريكيين قد قاموا بحسم الحرب حول السيطرة البحرية مع كل منازعيهم على نحو تام وهي معادلة ستستمر حتى فترة ليست بالقريبة بناءاً على المعطيات الميدانية.
عناصر السيادة البحرية الأمريكية:
(1) تمتلك القوات البحرية الأمريكية إحدى عشر حاملة طائرات من أصل اثنتين وعشرين حاملة حول العالم، وإذا ما استثنينا حاملات الطائرات الطرادية cruiser-carrier الأقل في العتاد والقدرات من ال22 حاملة، فإنه لن يتبقى سوى خمس حاملات فقط حول العالم: اثنتين للصين وواحدة لكل من بريطانيا وفرنسا واليابان مؤخرا وهو ما يعني أن الولايات المتحدة وحلفائها يمتلكون 14 حاملة من أصل 16 حول العالم. ورغم ذلك، فإن الحاملات غير الأمريكية لا يمكن مطلقاًمقارنتها بالأمريكية سواءً من حيث معدلات الإزاحة التي تضمن التفوق الأمريكي التام (قدرات الإزاحة لثلات حاملات من طراز نيميتز الأقل تفوقا من الطرازات اللاحقة عليه تفوق إزاحة كافة حاملات الطائرات غير الأمريكية)، مع عدم الوضع في الاعتبار القدرة النووية لتلك الحاملات التي يسير بعضها بسبع مفاعلات نووية مقابل تسيير الحاملات غير الأمريكية بمصادر طاقة تقليدية كمزيج الديزل والكهرباء.
(2) تمتلك القوات البحرية الأمريكية أكبر عدد من الغواصات النووية والبالستية في العالم، تفوق عدد الغواصات الاستراتيجية لدى روسيا والصين مجتمعة أو كل دول العالم مجتمعين باستثناء روسيا والصين.بالإضافة إلى كل ما سبق، تمتلك البحرية الأمريكية أكبر عدد من القطع البحرية الاستراتيجية كالمدمرات والطرادات في العالم.
(3) يمتلك الجيش الأمريكي سلاحاً شبه بحري يجعله الأشد تميزا بين كل منافسيه إذا ما أغفلنا النقاط السابقة ألا وهو: مشاة البحرية الأمريكية Marines. وهو سلاح مستقل عن البحرية Navy يملك جيشا موازيا قوام أفراده يزيد على كل القوات البحرية التابعة لدول الاتحاد الأوروبي أو القوات البحرية الهندية مع احتساب قوات الاحتياط. كل هذه القوات مدعومة بـ 850 قاعدة عسكرية خارجية موزعة عبر أقاليم العالم، بعض منها يعمل كقواعد للأساطيل الأمريكية السبعة مثل قاعدة يوكوسوكا البحرية في اليابان التي تعتبر مرتكز الأسطول السابع الأمريكية وثاني أكبر قاعدة بحرية في العالم بعد قاعدة نوروفولك الأمريكية –المرسى الأساسي لحاملات الطائرات الأمريكية.
(4)أنه وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982 (UNCLOS) وملحقاتها، فإن المياه الإقليمية لكل دولة محددة عند 12 ميل بحري (22 كيلومتر تقريبا). وفقا لذلك، فإن المياه الإقليمية مع المناطق الاقتصادية الخالصة EEZ في كل بحار العالم لا تتخطى 30% من مساحة البحار مما يعني أن 70% من مساحة البحار تقع تحت ما يسمى بالمياه الدولية أو أعالي البحار أو المياه الزرقاء حسبما يعرف في الأوساط الاستراتيجية. هذه المياه الزرقاء لا يمكن السيطرة عليها إلا عبر القوات البحرية التي تمتلك أسلحة استراتيجية بعيدة المدى، وهو غير متوفر في معظم بحريات العالم. بل وحتى البحريات العظمى كالبحرية الفرنسية أو البريطانية أو الروسية أو الصينية، التي لا تسعفها قدراتها لفرض نفوذها في البحار القريبة maritime periphery فما بالنا بالمياه الزرقاء البعيدة عن مواقع عملياتها. وهنا يأتي دور البحرية الأمريكية التي تنتشر عبر العالم بسبعة أساطيل ضخمة تجعل من الولايات المتحدة طرفاً أصيلاً في كل نزاع ومقارعة استراتيجية في كل أقاليم العالم تقريباً.
(5) منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وبزوع النظام أحادي القطب، استمدت الولايات المتحدة الأمريكية مشروعية تواجدها في المياه الدولية باعتبار الكثيرين لها وحلفائها إحدى الركائز المهمة لحرية وسلامة التجارة الدولية. وهو الدور الذي تحاول الولايات المتحدة التأكيد عليه من فترة لأخرى،لتعميق تلك المشروعية، وهو الدور الذي لم يكن ليتأتى للولايات المتحدة الاضطلاع به بدون وجود قوة ضاربة عبر البحار. وتحت غطاء ضمان حرية التجارة، تنشر القوات المسلحة الأمريكية أساطيلها عبر البحار لاسيما في نقاطه الضعيفه chokepoints خصوصا الممرات والمضائق الاستراتيجية straits عبر خطط تأمين معقدة تضمن به واشنطن نفوذاً صارماً، وسيطرة على التحركات الملاحية في معظم بحار العالم. خطة التأمين المعقدة تلك للمرات والمضائق الاستراتيجية تنطوي على انتشارات استراتيجية وتكتيكية حول تلك الممرات فيما يعرف بالسيطرة الموجية.
المضايق الاستراتيجية : نماذج للسيطرة البحرية الأمريكية:
تسيطر الولايات المتحدة على مضيق ملقا من النقطة صفر عبر القاعدة البحرية في جزيرة باتام الإندونيسية الواقعة على مدخل مضيق ملقا على ممر سنغافورة، إلى جانب السيطرة التكتيكية عبر القاعدة الجوية الأمريكية في داروين بشمال أستراليا ثم استراتيجيا عبر القاعدة الاستراتيجية في جزيرة جوام – مقر القوات الاستراتيجية الأمريكية في المحيط الهادئ.
بالمثل، تسيطر القوات المسلحة الأمريكية على مضيق جبل طارق من النقطة صفر عبر القاعدة البريطانية في جبل طارق، وتكتيكياً واستراتيجياً عبر القاعدتين الأمريكيتين في سيجونيلا جنوبي إيطاليا ثم قاعدة جزر الأزور في عرض المحيط الأطلنطي قبالة المضيق؛ وهي استراتيجية في التأمين والانتشار البحري مطبقة بشكل حرفي مع كل المضائق البحرية حول العالم.
مآلات القوة البحرية والسيطرة الأمريكية على عالم البحار:
مع نموالاقتصاد العالمي وتعمق العولمة الاقصادية والاجتماعية، تزيد الحاجة إلى البحار في نقل المزيد من السلع والخدمات الاستراتيجية كخدمات الاتصال والانتقال. لذا، فإنه كما أن البحار أصبحت عماداً للتجارة العالمية، فإن الحاجة لتأمين مسالك التجارة تزيد يوما تلو أخر، مما ينشأ عنه تعاظم للحاجة إلى قوى مسيطرة في أعالي البحار. ووفقا لما أوردناه أعلاه، فإن الاستجابة لهذا الدور ليس سهلاً، ولا يستطيع أي طرف القيام به الآن إلا طرف واحد فقط: القوات البحرية الأمريكية – وبدعم من حلفائها كذلك.
وعلى الرغم من تغير معادلات كثيرة بعضها في صلب بنية النظام الدولي كتلك التي تلت الحرب الباردة ومعادلات أخرى بدأت مع الاستراتيجية الدولية في العولمة والدخول في عالم الحروب اللاتناظرية والحرب على الإرهاب، إلا أن معادلة القوة البحرية في عالم اليوم بقيت على حالة شبيهة بصيف عام 1945. فالتفوق الأمريكي في البحار ليس محلا للتساؤل، وإن كانت محاولات للسيطرة وابتغاء النفوذ من قبل القوى الدولية مستمرة ، لكنها عادة تكون في البحار الإقليمية أو في المياه الدولية في سياق جهود دولية مجمع عليها كجهود مكافحة القرصنة وما إلى ذلك.
نخلص من هذا التحليل إلى أن الولايات المتحدة ستظل صاحبة الاستثنائية الكبرى في السيطرة البحرية، إلى حين تغيير معادلة القوة الاستراتيجية البحرية وهي استراتيجية يتبعها الجيش الصيني منذ فترة، لكنه لن يصل لمراده قبل عقدين من الآن. وحتى هذه اللحظة ستظل الولايات المتحدة تروج لنفسها بأنها الحامي الأكبر لأمن وحرية التجارة الدولية والضامن الأكبر لسلامة مؤسسات ومراكز الاقتصاد الدولي واستقرار المنظومة العالمية.
إعداد: أنس القصاص
باحث في الشؤون الاستراتيجية وقضايا الأمن والسلام الدولي