إليان بطرس
باحثة بوحدة العلاقات الدولية
تعتبر ألمانيا الاتحادية من أهم دول الاتحاد الأوروبي، بالنظر لثقلها السياسي والاقتصادي، وموقعها الجيواستراتيجي، بل يمكن اعتبارها الدولة التي تقود حاليا – بجانب فرنسا- رسم السياسات الأوروبية بشكل عام، وهي كذلك فاعل مهم في رسم السياسة العالمية، لذلك فإن اي تغيير سياسي في ألمانيا، بحجم تغيير المستشارية، لابد أن يوضع تحت المجهر، بالنسبة للباحثين المعنيين بالشأن الأوروبي والعالمي، كذلك بالنسبة لمسار السياسة الألمانية تجاه مناطق العالم المختلفة وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط. من هنا يسعى هذا التحليل للإلقاء الضوء على المسارات المحتملة للسياسة الألمانية في عهد شولتز، للنظر في مدى الاستمرارية والتغير في بعض السياسات التي تبنتها ألمانيا وطورتها خلال الفترة الطويلة التي حكمت فيها المستشارة انجيلا ميركل، والتي تمكنت بالفعل في وضع ألمانيا في مرتبة متقدمة اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً.
تحليل شخصية شولتز: البعد النفسي والأيدلوجي
الخبرة المهنية. يتمتع شولتز بتاريخ مهني طويل ومتنوع، حيث شغل العديدمن المناصب من بينها وزير داخلية فيأحد الولايات،وأبلا بلاءً حسناً في محاربة الإتجار بالمخدرات، وتولى منصب نائب رئيس منظمة الشباب، بالإضافة إلى عمله كمحام في قضايا العمل، ثم وزير للعمل،وشكل هذا الملف محط اهتمام شولتز لفترات طويلة، وبالطبع كل هذه الخبراتأثرت بشكل أوبأخر على تشكيل شخصيته وأفكاره، التي نعتقد أنها تقترب من النهج الاشتراكي بشكل ما، وبصورة مضادة للاقتصاد الرأسمالي. لمع نجم شولتز أثناء جائحة كورونا، واستطاع أن يقدم دعم ماليًا للمتضررين، وأثناء حملته الانتخابية وعد بتحمل الديون التي تكبدتها ألمانيا نتيجة الوباء، وكان ذلك بمثابة مدخل قوى لترسيخ وجوده على الساحة السياسة الأمانية، وتهيئة الموقف أمامه للصعود لمنصب المستشار، خاصة وأن شولتز شغل منصب وزير المالية ونائب لميركل في عام 2018، وبالرغم من فشله للوصول إلى رئاسة الحزب الاشتراكي في 2019 وعدم تمكنه من كسب أصوات الاشتراكيين الديمقراطيين، إلا أن هذا لم يمنعه من الوصول لهدفه ومجيئه خلفًا لأقوى مستشارة المانية.
السمات الشخصية. وصفت شخصية شولتز المولود في مدينة اوسنابروك عام 1958م بالانطوائي البرجماتي،وهو شخص شديد الذكاء، بدليل قدرته على تخطى كل العقبات التي واجهته، سواء خسائر انتخابية أو فضائح مالية لم تثبت عليه قانونيَا،حيث لم تنهزم شخصيته، وتمكن من الاستمرار في العمل،حتى وصل إلى هذا المنصب الذى صرح في أحد الأيام أنه سوف يتولاه، وبالفعل تمكن من الوصول إليه بحملة انتخابية هادئة وعاقلة.
التوجه السياسي المتوقع. تتميز هذه الحكومة الجديدة بكونها أول حكومة ائتلافية مكونة من ثلاثة أحزاب منذ خمسينيات القرن الماضي، وُزعت المناصب في هذه الحكومة بشكل يميل إلى اليسار قليلا ، ويأتي هنا دور شولتز بالتوسط بين الحزبين الخضر والمحافظين،إذ تميل الحكومة الالمانية بشكل عام إلى المحافظة البرغماتية يمينًا أو يسارًا، وهو ما أتضح في عهد المستشارة ميركل ايضًاً.
ملامح السياسة الداخلية:
تواجه ألمانيا مشاكل اقتصادية كبيرة، نتيجة استمرار تداعيات الأزمة الوبائية، كما ينتظر شولتز عدد من الملفات السياسية الشائكة والبيئية الملحة مثل التغير المناخي الذي يتربع على عرش أولويات الحكومة الجديدة، وقضايا أخرى سوف تظهر على القمة بمرور الوقت. وفي هذا الإطار نتوقع أن تتشكل ملامح السياسة الداخلية لشولتز فيما يلي:
- سيكون ملف التغير المناخيأحد أولويات الحكومة الألمانية الجديدة، وهو ملف من الملفات المُلحة عالميًا، وتتبناه ألمانيا على مدار السنين الماضية.
- يتوقع أن يستحوذ ملف الهجرة والأزمات الاقتصادية التي خلفتها أزمة جائحة كورونا، على اهتمام الحكومة الجديدة، وهو ما بدأه شولتز مبكراً بترسيم خطط لتجاوزه منذحملته الانتخابية،لذلك تتجه التوقعات نحو تبني الحكومة الجديدة تطبيق نظام التطعيم الإجباري، حتى تتجاوز هذه الأزمة فيأقرب وقت ممكن .
- من المتوقع أنتحاول الحكومة الإلمانية الجديدة تخفيض النفقات، لتقلص من عجز الميزانية، بدون زيادة في الضرائب. وقد تتخذ هذه الحكومة مجموعة من الإجراءات التي سوف تعزز من ولاية شولتز وهي زيادة الحد الأدنى للأجور مع خفض سن التصويت في الانتخابات التشريعية الى 16 عاما.
- تحدثت برامج الأحزاب الثلاثة المشتركة في الحكومة عن الاستثمارات في البنى التحتية ومكافحة التغير المناخي ولكن لم تعلن عن التدابير التي ستتخذها من أجل مواجهة هذه التحديات خصوصا بعد التخطيط للتخلي عن الفحم عام 2030 وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة.
- يتوقع تبني الحكومة تسريع العمل نحو التحول للطاقة المتجددة، حيث وعدت الأحزاب المشاركة في الإئتلاف أن يكون هناك 15 مليون سيارة تعمل بالكهرباء بحلول عام 2030.
ملامح وتوجهات السياسة الخارجية:
تتحرك ألمانيا كقوة كبيرة في عدة ملفات مهمة على الصعيد العالمي والأوروبي وعلى صعيد الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، من هنا سنحاول رسم خطوط للسياسة الألمانية تجاه أبرز الملفات الدولية كالتالي:
السياسة الألمانية تجاه الولايات المتحدة الامريكية
ترتبط المانيا والولايات المتحدة بعلاقة استراتيجية وثيقة، حيث يعتبر الألمان الولايات المتحدة شريك رئيسي في عديد القضايا من بينها حماية الديمقراطية وحقوق الانسان وحماية الأمن الأوروبي، بالإضافة إلى شراكتهما في دعم التجارة الحرة. وقد شهدت العلاقات بينهما توتراً خلال فترة ترامب، بسبب مواقفه الإنسحابية من الأمن الأوروبي، والقيود التي فرضها على بعض الصادرات الأوربية إلى الولايات المتحدة. ومع مجيء بايدن تحسنت العلاقات بين الدولتين، ويتوقع مع الحكومة الألمانية الجديدة أن تنمو العلاقات وتزدهر أكثر مما كانت عليه حيث تثار بعض القضايا التي تحتاج الولايات

المتحدة فيها الدعم من ألمانيا مثل قضية أوكرانيا وروسيا، إذ تسعى الولايات المتحدة للضغط على ألمانيا في التوسط لحل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا بصفتها حليف للولايات المتحدة وعميل للطاقة الروسية. وعلى العكس من سياسة ميركل التي لم تتخذ نهج صارم تجاه الصين وروسيا خلال السنوات الماضية ، فمن الملاحظ أن الحكومة الجديدة بقيادة شولتز لم تتخذ نفس النهج في التعامل مع روسيا والصين فقد كانت البداية واضحة عبر رسائل صارمة تجاه الصين وروسيا في أولى التصريحات الخاصة بشولتز ووزيرة خارجية حكومته. تظل هناك قضية شائكة قد توتر العلاقات الألمانية الأمريكية وهي قضية خطوط الغاز الروسية عبر ألمانيا ، فإدارة بايدن لم تفرض عقوبات حتى الآن على الشركات الألمانية بالرغم من رفضها لوجود خط انابيب نورد ستريم 2 الذى سينقل الغاز من روسيا وبالتالي يتوقع أن تكون هذه القضية مصدر توتر محتمل بين الولايات المتحدة وألمانيا من وقت لأخر ولكنها لن تؤثر على مسار بايدن في تحسين ودعم العلاقات بين الدولتين وتصحيح ما خلفه ترامب من توترات.
الرؤية الألمانية لإدارة العلاقات مع روسيا:
هناك توتر ملحوظ على صعيد العلاقات الروسية الالمانية على مدار الفترة الماضية، وهو ما يدع الدولة الروسية فى حالة ترقب لسياسة شولتز، خاصة بعد تهديد شولتز لروسيا فى أول تصريحاته بعد توليه المنصب، حيث أشار شولتز ” نحن بحاجة إلى سياسة جديدة نحو الشرق، وأن على روسيا أن تتقبل سيادة القانون وليس قانون القوة” وهذه اللهجة تدعم فكرة استمرار التوتر في العلاقات، كما أبدا شولتز خلال لقاءة مع رئيس وزراء بولندا أن حكومته سوف تبذل قصارى جهدها لضمان بقاء أوكرانيا دولة لعبور الغاز، وحذر من عواقب على خط الغاز الروسي في حالة غزت روسيا أوكرانيا.

هناك مؤشرات على توتر محتمل في العلاقة الروسية الألمانية، اتساقاً مع مواقف بعض الأحزاب المشتركة في الإئتلاف الحكومي، حيث سبق وأن عارضت زعيمة حزب الخضرالألماني مشروع خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، وتتسم التصريحات المتبادلة بينهم بالهجوم والتحذير، ويعد خط أنابيب الغاز الذي يربط روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق محط انتقاد من عدد من الدول من بينها بولندا والولايات المتحدة واوكرانيا،تخوفًا من خطورة اعتماد اوروبا على الغاز الروسي وتأثيره على هذه الدول وبدأت الانتقادات متعللة بعدم إيفاء المشروع بمتطلبات تشريعات الطاقة الاوروبية. ولم تقتصر التوترات على خط نورد ستريم2، بل تصاعد التهديد بفرض العقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي على روسيا يزيد من حده الأزمة، سبق وأن فرض الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في يوليو 2014 عقوبات اقتصادية على روسيا مستهدفاً قطاع الطاقة والأعمال المصرفية والدفاع، وحاليًا يتم البحث من قبل الاتحاد الأوروبي لفرض مزيد من الإجراءات إذا حاولت روسيا غزو أوكرانيا بعد حشد قواتها على الحدود.
السياسة الألمانية تجاه الصين
تعد ألمانيا والصين شريكان استراتيجيتان، وتتميز العلاقات بينهم بالاحترام المتبادل والابتعاد عن الخلافات لدعم مصالحهما المشتركة. وتميز عهد ميركل بالتفاهم والتعاون مع بكين اقتصاديًا وتسعى كلا من الدولتين إلى تحقيق مزيد من التعاون الاقتصادي والسياسي، وبعد تولى شولتز قد تطرح بعض الملفات التي قد تسبب بعض التوترات فيما بينهم منها قضايا حقوق الانسان والمضطهدين من الايغورو ومواطنين هونغ كونغ ولكنها حتى الآن ليس لها تأثيرًا قوى على مستوى التعاون فيما بينهم، بالإضافةإلى التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين والتي تلقى بظلالها على علاقات الدول الكبرى وبعضها.وهو ما ظهر في تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية في الجديدة بأنها تتمسك بالصين باعتبارها شريكاً ومنافساًكونهاأحد اللاعبين الدوليين المؤثرين في العالم خصوصًا في مجالات الأوبئة والمناخ، وهو ما يعكس ويلخص طبيعة العلاقة بين الدولتين ومستقبل التقارب بينهم.
السياسة الأوروبية الألمانية وإدارة العلاقات مع فرنسا
يتوقع عدم حدوث تغيير كبير في محور السياسة الألمانية الفرنسية، فمسار التعاون هو الغالب بين القوتين الأوربيتين خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد البريكست وخروج بريطانيا، حيث تولت برلين وباريس إعادة ترتيب الاتحاد من الداخل، والحفاظ على تماسكه، بل وتهيئته نحو النخراط الفعال في السياسة العالمية بقيادة ألمانية فرنسية مشتركة ومتوافقة إلى حد كبير. لذلك يتوقع استمرارية التقارب بين الحكومة الالمانية الجديدة وفرنسا حيث يجمع الدولتين هدف أساسي وهو حماية أوروبا ودعمها وجعلها أقوى مع تطوير الاتحاد الأوروبي. وكما جرت العادة تعد أول زيارة خارجية لمستشار الحكومة تكون نحو باريس، وهي إشارة إلى مدى التقارب والاهتمام، ورحب الرئيس الفرنسي ماكرون بزيارة شولتز وأكد كلاً منهما على ضرورة التعاون فيما بينهم، وتعد أبرز الملفات التي يحاول الجانبين الالتقاء فيها والتقرب بوجهات نظرهما هي حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ورد مشترك على قضايا الهجرة، والعلاقة مع كل من إفريقيا والصين ، بالإضافة لضرورة الاشتراك في مواجهة أزمة كورونا. ويأتي الملف الأوكراني على قائمة المخاوف التي تم طرحها على طاولة هذا اللقاء من أجل الأمن الأوروبي، من جهة الحدود الاوكرانية، حيث أهتم الطرفان بضرورة استكمال الوساطة الألمانية الفرنسية لحل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا حفاظًا على الأمن والسلام الأوروبي.
السياسة الألمانية نحو أمريكا اللاتينية
تعتمد العلاقات الألمانية اللاتينية على الطاقة والمواد الخام بشكل رئيسي في التعاون بين المنطقتين ، وذلك لقلة المواد الخام في ألمانيا، اذ تعتمد بشكل كبير على الواردات من المواد الخام لتلبية احتياجاتها.وتعد المانيا أحد الشركاء الأساسيين في مجال الطاقة مع منطقة أمريكا اللاتينية، تستطيع المانيا أن تحصل على إمدادات من الطاقة بشكل آمن وفعال من حيث التكلفة الأساسية للطاقة أو المواد الخام نفسها، مما يدعم تعزيز التعاون بينهم، وبالتالي تحرص الحكومة الألمانية على دعم جهود دول المنطقة لتطوير أنظمة الطاقة وتبرم مع دول أمريكا اللاتينية الاتفاقيات والمشروعات التي تدعم حماية المناخ وتطوير الطاقة وتقوم بإنشاء ودعم عدد كبير من الشركات للعمل في المنطقة.
وفى ظل اتجاه ألمانيا للعمل على إنتاج واستخدام السيارات الكهربائية، كما سبق الإشارة، نجد الترابط بين ألمانيا وأمريكا اللاتينية في طريقة للتطوير والتحسين لعدد من الأسباب من بينها وجود معادن مثل الحديد والقصدير والنحاس في أمريكا اللاتينية اذ يأتي ما يقرب من 60 % من انتاج الليثيوم من أمريكا اللاتينية وهو ما يستخدم في صناعة البطاريات للسيارات الكهربائية ، مما يدعم تعزيز التعاون بين ألمانيا ومنطقة أمريكا اللاتينية لما لها من أهمية كبيرة في دعم مسار ألمانيا في التحول الكهربائي للسيارات والطاقة النظيفة وحماية المناخ في آن واحد .
نخلص من هذا التحليل إلى أن السياسة الألمانية العالمية ستشهد بعض التغيرات في بعض الملفات، كما أنها ستواصل نفس المسار في ملفات أخرى، فوحدة الإتحاد الأوروبي من أبرز الملفات الخارجية التي ستظل تشغل الحكومة الجديدة، وسيظل الملف الروسي من الملفات المُلحة خارجية خصوصاً فيما يتعلق بملفي الغاز والطاقة، ولا نغفل ملف أوكرانيا أيضًا، بالإضافة إلى التهديد بفرض العقوبات على روسيا وفق لرؤية حزبي الخضر والليبراليون، ويتبعه ملف الصين إذ تتبع المانيا مبدأ تحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية ومبادئها الخاصة بحقوق الانسان، وهو ما قد تختلف فيه هذه الحكومة عن سابقتها حيث عرفت الحكومة السابقة بعدم تفاعلها مع القيم مقابل المصالح التجارية مع الصين.
