إعداد
محمد دوير
خلال زيارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر للملكة المغربية حرص مواطن مغربي على مصافحة الزعيم وسمح له ناصر بذلك وبعد أن اخترق المواطن الحشود والحرس الرئاسي واقترب من الزعيم وهمس فى أذنه قائلا :”سَلم لى على إسماعيل ياسين”. جاءت الواقعة لتحتل الصفحات الأولى من الصحف المصرية التي تابعت الزيارة حينذاك وروى الرئيس جمال عبد الناصر تلك القصة في عدة مناسبات ليبعث من خلالها رسالة هامة تتعلق بمدى قوة وتأثير الفن المصري ومدى جاذبية الثقافة المصرية في الوطن العربى من المحيط إلى الخليج. هذا الواقعة التي صارت مدخلاً لأى حديث يتناول قوة مصر الناعمة ومدى قوتها وإمكانياتها ومراحل توهجها وفترات ضعفها وتراجع نفوذها. في البدء كانت مصر .. وطن الحضارة الإنسانية وفى البدء تعلو على الجباه ضوئها المتعدد الأطياف فقد رست على شواطئ نهضتها الكثير لكنهم جميعا ذابوا في ترتبها ليشكلوا ما يسمى بالهوية المصرية أو كما وصفها “جمال حمدان ” (السبيكة الحضارية)”، هي إذن تركيبة استثنائية في حياة البشر وتاريخ الإنسانية
منذ ان خرج مصطلح “القوة الناعمة ” إلى النور على يد الباحث الأمريكي “جوزيف ناى ” (ولد في 1937 ) وهو وأستاذ العلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد. وهو أول من دشن مصطلح “القوة الناعمة ” في مقال له نشر في مجلة السياسة الخارجية بعنوان “القوة الناعمة ” عام 1990 ثم عاود استخدامه في كتابه “ملزمة بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية ” في عام 1991. ومنذ ذلك الحين والعالم يتحدث باهتمام بالغ عن هذا المصطلح ومفاهيمه ومكوناته ومدى قدرة الأمم على استثمار طاقتها الناعمة في النفاذ وخلق حالة تأثير خارج حدودها بدلا من تأثير القوة الصلبة والمتمثلة في القوة العسكرية.
وتعتبر مصر واحدة من الدول التي تتمتع برصيد كبير وفاعل من القدرات الناعمة لكن ذلك الرصيد والإمكانيات والمكونات التي تحظى بها مصر لم تكن دوما في حالة توظيف جيد، بل أن مراحل تاريخنا المعاصر شهدت تباين في مستويات القوة والنفوذ ولعل المؤشر الواضح في مسيرة قوتنا الناعمة الحديثة يشير إلى وجود علاقة طردية بين تصاعد المشروع الوطني المصري من جهة ونمو قدرة الدولة على استثمار قدرات ومكونات قوتها الناعمة والتي يمكن أن نرصدها من خلال قراءة سريعة وأولوية لتاريخنا المعاصر.
في المراحل الحاسمة كتلك التي شهدت مواجهة مخاطر خارجية مثل الاحتلال العسكري أو الحصار الاقتصادي كانت قوة مصر الناعمة في الصفوف الأولى للمواجهة واصطفت لتشكل درعا شعبيا معنويا صلبا لحشد القوى وتعبئة الجهود وخلق راى عام داخلياً وخارجياً للدفاع عن الوطن وحمايه حدوده وتماسكه وحملت حناجر الفنانين وأقلام المبدعين في كل المجالات طلقات الوعى في صدر العدو. وفى لحظات البناء والتحدي والتنمية وتشييد مشروعنا الوطنى في مراحلة المتعددة كانت قوتنا الناعمة سواعد معنوية وصرخات للتحريض على العمل والحث على العطاء ونقل صورة مضيئة وخلق نفوذ ثقافي وقيمي وحضاري للمشروع الوطنى وملامحه الإنسانية. ويبدو أن قوتنا الناعمة قد تراجعت وتعيش مرحلة من الخمول في العقود الأخيرة على الرغم من توافر كافة العوامل الذاتية لقوتها ونهضتها إلا أن العوامل الموضوعية قد ساهمت في التراجع الكبير أثر بشكل واضح على ما تملكه مصر من مقومات في مختلف فروع قوتها الناعمة. وصرنا في حالة تشبه مجرد العزف المنفرد الذى لا تجمع آلاتها نوته أوركسترالية تشكل معزوفة واحدة وتصنع لحنا متجانساً يصيغ مشروعاً موحداً متماسكاً في إطار مشروع الدولة الوطنية والذى بدت ملامحه تتشكل من خلال الإعلان المتكرر عن إطار لدولة مدنية حديثة بالإضافة إلى ملامح تتضح يوما بعد يوم في مشروع بناء دولة عصرية وتأسيس تنموي في مختلف المجالات.
يأتي هذا على خلفيه دولة “30 يونيو ” التي تقوم بالأساس على موقف شعبي صارم وثوري ضد جماعات الإتجار بالدين وما تمثله من ثقافة رجعية من الضروري ان تقف القوى الناعمة في الصفوف الأولى لمواجهة أفكارها التي تنهش في جسد المجتمع وتستبيح ملامح الوطن وتاريخه ومكوناته ويقفز السؤال أمام أعين الجميع .. هل قوتنا الناعمة بخير؟
والمؤكد أن الإجابة بكل وضوح: لا .. هي ليست بخير.هي ليست على مستوى لحظة الفعل الوطني، وليست على نفس درجة نمو مشروعنا الحضاري والتنموي وليست كما كانت خلال تاريخنا المعاصر.
مكونات مشروع وطني
ليس المعيار أن تملك الدولة مكونات لقوة ناعمة بل الأهم هو أن تستطيع ان تستثمر تلك المكونات وتوظفها جيدا لتحقيق مكاسب خارجية ونفوذ إقليمي ودولي. نقول هذا ونحن نقترب من الحالة المصرية وهى حالة شديدة الثراء .. شديدة التعقيد!
فمصر الدولة الأقدم على وجه الأرض قد أدركت قيمة مكونات قوتها الحضارية والثقافية مبكراً لكن استثمار تلك الطاقات والمكونات ظل رهن الإرادة السياسة وتوفر مشروع وطنىحقيقي وفى نظرة سريعة سوف ندرك تلك العلاقة الطردية بين قوة مصر الناعمة وبين توفر مشروع وطني للتنمية والرقى. ونجد حديثا انه منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن كانت قوة مصر الناعمة تتأثر بشدة بوجود مشروع سياسي تنموي تارة، وبمراحل التبعية والتردي تارة أخرى، ومن تكوين قدرات ناعمة شديدة المصرية فى بدايات القرن العشرين، ثم نضجها وتجلي دورها، إلى انحسار وصدام أحياناً بين عناصرها، وإرادات سياسية تسعى لتقويضها او لتدجينها. علينا أن نتعمق فى أصل المسألة المصرية الغنَية والمتنوعة والمُركبة في آن واحد، كما قال الباحث ” صبحي وحيدة ” في كتابة “أصل المسالة المصرية ”
فهى حالة شديدة الخصوصية والتنوع والارتباك فى نفس الوقت فما بين ذلك التراكم الكبير للفنون والآداب المصرية والدور الحيوي والجوهري للمؤسسات سواء الدينية او العلمية او غيرها من مكونات صناعة التأثير فىالآخر، وحصد مكاسب معنوية وسياسية دونما إطلاق طلقة واحدة من مسدس لا يخرج من مخدعه سوى للعدو، لا يمكنا تصور مصر بدون هذا الغنى والثراء الذى منحه لها أبناؤها الأوفياء عبر أزمنة متعاقبة، وعطاء لا يتوقف فى أحلك وأصعب الظروف، فالإبداع كما يقال هو نبت طبيعي للمعاناة والبحث عن ذاتك وحقك وحريتك.
عرفت مصر مفهوم القوى الناعمة منذ قرن دونما أن تسميه، وعرفت كيف تستخدم قواها الناعمة وكنوزها الفكرية والفنية، وساهمت فى صياغه عقل ووجدان العالم العربي، بل امتد التأثير إلى أبعد من ذلك جغرافياً لتعبرُ الثقافة المصرية إلى أحراش افريقيا وأطراف آسيا .وتمتلك مصر مقومات عديدة للتأثير، من بينها الموقع الجغرافي المتميز الذى سمح بالاتصال اليسير بالعالم، إضافة الى اللغة العربية ومكانتها بين دول المنطقة، وبالتأكيد فإن تاريخ مصر وحضارتها القديمة جعلاها مركزاً لاهتمام العالم، وساهمت فى امتلاكها قوة.

ناعمة نافذه وقادرة. فانطلقت بفنونها وآدابها، واستطاعت مَد يدها للمساهمة فى بناء مجتمعات شقيقة مجاورة من خلال التعليم وإنشاء مؤسسات الدولة، وكان الدور الذى قام به الأزهر الشريف فى نشر تعاليم الإسلام الوسطي – حتى الربع الاخير من القرن العشرين – مما خلق ما نطلق عليه دوما “ريادة مصر “بالمنطقة العربية والمحيط الإسلامي . كما أن الدور التاريخي للكنيسة القبطية كان له تأثير قوى على مكانة مصر ونفوذها. فمصر حالة شديدة الخصوصية والتميز فى التأثير والنفاذ، ويعتبر البعض قدرة مصر على بسط نفوذها وتأثيرها الفكري أبعد من ذلك بكثير من قدرتها الصلبة على التأثير، ويعود ذلك إلى امتلاكها تاريخ عميق ضارب في القدم حينما استطاعت الحضارة المصرية القديمة أن تحُلق في سماء العالم، وتبَثُ نموذجها الحياتي والقيمي والحضاري إلى أبعد من حدود الوطن الجغرافيا. وفى محاولة لجمع خيوط نسيج متعدد الألوان والمستويات، وإدراك تأثير كل منهم على الآخر، ودوره فى صناعة لون مبهر ومنتج مميز، نستلهم ما تعلمناه على يد الراحل جمال حمدان فى وصفه لشخصية مصر بأنها سبيكة متكاملة من عدد كبير وطبقات عديدة من المعادن الثمينة والتي لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى لأنها صارت مكوناً واحداً متماسكاً.
معايير القوة
لا يمكن اعتبار قوة مصر الناعمة بمعزِّل عن قدرتها الذاتية فى الدفاع عن نفسها واستقلال قرارها، وسيادتها الوطنية، والحصول على حقوقها وحمايتها؛ لذلك فإن أبرز مراحل قوتنا الناعمة كانت تلك التي كانت تتميز بالعنفوان والقوة والتمسك بحقوقنا، وبامتلاك قدر من إرادتنا، وبتبًني مشروع وطني. وتبدو تفاصيل شديدة الدقة تكِّمِّل المشهد الكبير للوحة أو السبيكة الحضارية. فبين اللهجة المصرية التي تتداول في الأقطار العربية – بفضل السينما والموسيقى والأدب والدراما – وبين تدوال العالم لأيقونات الحياة الفرعونية ونماذج لتماثيل قديمة وانبهار عالمي لا ينقطع بتلك الحضارة القديمة التي ما تزال أسرارها لم تكشف كاملة، وآثار تطُل شامخة من كل متاحف العالم الكبرى، وعلم يطلق عليه “المصريات “وذلك الولع والتيِّه بالحضارة المصرية، كل ذلك وغيره خَلق إعجاباً شديداً بمصر. وبين تلاقي ثقافات المتوسط، وذاك الخليط الحضاري والفكري الذي رسي على شواطئ الإسكندرية وأطماع الغزاة ترمى أمانيها على مصر بعين المحب والمفترس فى آن واحد، وبين حلم العرب فى فتح مصر وحكمها، وعزيمة عمرو بن العاص التي لا تتوقف على تلك الرغبة إلى أن تتحقق ..هى مصر بكل التفاصيل التي منحت البشرية مفتاح الحياة، وصاغت قيم ومثل السلام والتسامح والعلم منذ سبعة آلاف عام . والمؤكد أن مصر قد انشغلت فى مراحل عديدة أبرزها مرحلة حكم محمد على ثم نجله إسماعيل ببناء مكونات وقدرات قوتها الناعمة لكن المرحلة الأهم في إدراك الدولة لقدراتها كانت في فيما بين”1954″ حتى” 1970″ وبدأ نفوذ اللهجة المصرية ونسق حياة المصريين وفنون مصر وأدبها هى السائدة والأكثر رواجاً وانتشاراً فى محيطها العربي والأفريقي، فقد أصابها بعض الضعف، وتراجع تأثيرها بفِّعل أسباب عديدة، ولعلنا نستطيع أن نرصد وجود علاقة وثيقة، وطردية، بين نمو المشروع الوطني بكل ما يحمل من تجليات وبين تعزيز مفهوم ودور القوى الناعمة. والعكس قطعاً صحيح، فحينما غاب المشروع الوطني المصري؛ غاب وتراجع وانحسر دور القوى الناعمة المصرية رغم وجود الممكنات لهذا الدور طوال الوقت .
لكن المشروع الوطني قد حضر بينما تغيب القوى الناعمة حتى الآن .
غابت القوى الناعمة عن خلق دعم ونفوذ لما تحقق على أرض الواقع منذ 30 يونيو حتى الآن ولعل التراجع يعود لأسباب عديدة بعضها ذاتي يتعلق بغياب الإرادة عن تفعيل هذا الملف الحيوي خلال ما يقرب من نصف قرن ، بينما العامل الثاني والذى لا يقل أهمية هو ذلك الظرف الموضوعي فقد شهدت المنطقة العربية والشرق الأوسط نمو قوى إقليمية تسعى جاهدة لاحتلال مكانة مصر ونفوذها المعنوي ورصدت أموال طائلة لتحقيق هذا الهدف وقد تلاقى العاملان “الذاتي والموضوعي ” في الوصول للوضع الحالي.
ورغم ذلك التراجع إلا أن مكونات قوة مصر الناعمة والتي من بينها الفنون مثل السينما حيث تعتبر مصر أول بلد عربي يعرف السينما عام 1917، وكانت مصر أول دولة عربية وإفريقية تعرف “دار للأوبرا ” فى عام 1869 بإنشاء دار الأوبرا الخديوية والتي ساهمت في ظهور المسرح المصري قبل أن يعود “جورج أبيض من فرنسا ويبدأ في إحداث نهضة مسرحية كبيرة من عام 1910. وعن الموسيقى كان الدور الذى قام به الراحل “سيد درويش “( 1892- 1923) في تعريب الموسيقى بعد عصور من التعبية للموسيقى التركية كما أن الدراما التلفزيونية تمثل أهم ركائز قوة مصر الناعمة وأكثرها تأثيرها في المحيط الإقليمي. فمصر صاحبة أول “نوبل ” في الأدب العربي والتي حصل عليها نجيب محفوظ عام 1988 ماتزال تتمتع بمكانة خاصة في الإنتاج الأدبي والفكري

رغم كل المعوقات إلا أنه تراثها هو الأهم والمؤسس فقط نحتاج إلى جهود منظمة لاستعادة بريق كل تلك الملفات ووضع تصورات واقعية وعملية للخروج من مأزق قوتنا الناعمة كى تتمكن من اللحاق باللحظة التي يمر بها الوطن وهى لحظة متسارعة ومتغيره بشكل كبير. منذ أن تبلورت تحركات قوتنا الناعمة منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن لم يعرف التاريخ المصري المعاصر حالة تشبه ما نمر به الآن وهي أن يغيب تلاقى المشروع الوطني مع ازدهار لقوانا الناعمة ونمو لنفوذها في محيطنا الجغرافي والدولي، وهذا ما يؤكد عمق الأزمة التي نتجت عن وضع شديد التردي وإهمال يصل درجة الازدراء للفنون والثقافة إلى جانب تراجع واضح في ملفات التعليم والإعلام وغياب أي رؤية للنهوض بكل مصادر القوة الناعمة في الوقت الذى تركنا فيه الساحة داخليا لأطراف حولت قدراتنا إلى سلع .. مجرد سلع وأطراف خارجية تسعى لتقويض مكانتنا ودورنا واكتفينا بالوقوف على مقاعد المتفرج تجاه هذا السعي الحثيث.
يبدو أن ..
يبدو ان هناك إرادة سياسية لاستعادة هذا الدور وتلك المكانة وتعزيز قوتنا الناعمة عبر مكونات عديدة بعضها تقليدي مثل الفنون والآداب والتعليم والإعلام والمؤسسات الدينية والدبلوماسية النشطة والمثيرة للإعجاب من خلال تبنى سياسات تتسم بالنبل والإنسانية والبعد عن العنف والتهور العسكري سوى في ضرورات حماية الأمن القومي، وأيضا إبداع وسائل جديدة يمكنها أن تضيف وتعزز من المكانة الدولية لمصر مثل المؤتمرات الدولية وما بها من تلاقى حضاري وتأثير معنوي وفكري. هذا هو المحفز على استثارة حوار نحو الوصول لرؤى وأفكار ومن ثم البدء في خطوات نحو استعادة قوتنا الناعمة لعافيتها ثم استثمارها من خلال مشروع متكامل لدعم الدولة المصرية وتحقيق مكاسب ونفوذ ومزيد من القوة.
