الرؤية الأممية للموقف الراهن في لبنان
قراءة في نتائج زيارة جوتيرش الأخيرة
د. أكـــــــرم حســــام
مستشار مركز جسور للدراسات الاستراتيجية
والمشرف على وحدة العلاقات الدولية بالمركز
يعاني لبنان من أزمة مركبة ( سياسية واقتصادية ومعيشية وأمنية) منذ تفجيرات مرفأ بيروت، ولم تنجح كل الجهود المحلية والإقليمية والدولية في حلحلتها حتى الآن، رغم تدخل دول مهمة مثل فرنسا على خط الأزمة أكثر من مرة، وأخرها محاولة إصلاح العلاقة بين لبنان ودول الخليج بعد أزمة وزير الإعلام اللبناني “جورج قرداحي” . كما تبذل دول إقليمية مهمة على رأسها مصر جهوداً حثيثة في التواصل مع كل الأطراف اللبنانية وحثها على الوصول لصيغ توافقية، ينتهي معها ملف الحكومة اللبنانية ” المُعطل” حتى الآن. مع ذلك ورغم كل هذه الجهود والتحركات، لا يزال لبنان قابعاً في مربع الجمود، مع استمرار الوضع المعيشي والاقتصادي منحدراً بقوة لمنزلقات خطيرة .
واستمراراً لكافة الجهود السابقة، قام الأمين العام للأمم المتحدة السيد انتوني جوتيرش بزيارة مهمة للبنان، استغرقت أربعة أيام ، وذلك خلال الفترة من 18 – 22 ديسمبر الماضي، حملت الزيارة في ظاهرها الطابع الإنساني، لكنها في الحقيقة تطرقت لقضايا أخرى، سياسية واقتصادية وأمنية، ومن هنا يسلط هذا التحليل الضوء على نتائج هذه الزيارة وما حملته من مقترحات للأزمة اللبنانية، والتي يمكن اعتبارها بمثابة الرؤية الأممية للموقف في لبنان، والتي ستظهر وتتبلور خلال الفترة المقبلة .
أهمية الزيارة وتوقيتها:
جاءت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة في توقيت مهم للغاية، مع استمرار تعقد الأزمة السياسية، ومراوحة عملية تشكيل حكومة ميقاتي لمكانها دون تقدم، واستمرار التحذيرات من الداخل والخارج من انهيار اقتصادي وشيك، وربما انفجار داخلي على المستوى الشعبي أيضاً، واستمرار التوتر في علاقات لبنان مع دول الخليج ( الداعم التقليدى للإقتصاد اللبناني).

وعلى الرغم من أن توصيف مكتب جوتيرش للزيارة على أنها زيارة تضامنية فقط، تتعلق بالتعرف على الوضع الإنساني في لبنان، مع جدول أعمال يشمل زيارة لمرفأ بيروت، والتضامن مع ضحايا الإنفجار الذي وقع قبل أكثر من عام، ، كما اشتملت جولة جوتيرش على لقاءات بالمجتمع المدني اللبناني وممثلي الطوائف الدينية هناك، وزيارة للجنوب اللبناني حيث مقر قوات اليونيفيل على الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل، مع ذلك تطرقت الزيارة لمناقشات سياسية جادة مع الرئاسات اللبنانية الثلاث ومع بعض القوى السياسية اللبنانية، بحثاً عن حلول ومخارج للأزمة السياسية المستعصية، وكان الأهم والأبرز في هذه الزيارة حديث جوتيرش عن حلول لمعضلات لبنانية قائمة، تتعلق بوضع حزب الله والانتخابات والقوات المسلحة.. وغيرها .
الرؤية الأممية لمعالجة الوضع الراهن في لبنان:
تُشكل التحركات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة نحو لبنان، بداية لإعادة صياغة موقف المنظمة الدولية من تطورات الوضع اللبناني، ما يعني أن المقاربة الدولية للوضع اللبناني ستشهد بعض التغيرات وبعض المفاهيم الجديدة، وذلك ارتباطاً بما يلي:
- تحسُب الأمم المتحدة لسيناريو إنزلاق لبنان – في حال استمر الجمود السياسي الراهن لفترة أطول- نحو الفوضي والتدهور الاقتصادي، وما يمكن أن يؤدي إليه من موجات هجرة ونزوح جديدة ، أو ربما تنزلق الأوضاع لحالة اقتتال أهلي ، تعيد معها عقارب الساعة في لبنان لمرحلة مظلمة ( الحرب الأهلية)، وهو ما سُيرتب تبعات إضافية على دور الأمم المتحدة في لبنان، خاصة في ظل ضعف موارد الأمم المتحدة وعدم قدرتها على الاستجابة الفعالة لمزيد من الأزمات بالمنطقة العربية.
- رؤية جوتيرش بأن لبنان يحتاج لعقد اجتماعي جديد، وهي إشارة غير مباشرة أن اتفاق الطائف الذي ظل حاكماً العملية السياسية اللبنانية طول ثلاث عقود، ربما يحتاج لتطوير أو تغيرات كبيرة ، اتساقاً مع طبيعة الوضع اللبناني ومستجداته على مختلف المستويات، والجدير بالذكر أن هذه الرؤية ليست مجرد أفكار شخصية تتعلق برؤية جوتيرش نفسه، لكن هذه التصورات مطروحة بالفعل في أروقة الأمم المتحدة المختلفة، ومن خلال المكاتب الاستشارية للأمم المتحدة، وتتحدث عنها صراحة بعض الدول المعنية بالملف اللبناني.
- تدعم الأمم المتحدة إجراء انتخابات تشريعية مبكرة ( قبل موعدها الدستوري)، حيث سعت للتأكيد على إلتزام كافة القوى السياسية بذلك، وهو ما كشفه جوتيرش خلال تلك الزيارة من أنه “حصل على تعهدات واضحة من الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي لجهة إجراء انتخابات تشريعية «حرة ومنصفة» في مطلع مايو المقبل”.
- تأييد مسألة دعم الجيش اللبناني، على مستوى الأسلحة والتدريب، بما يمكنه من بسط سيطرته على الحدود اللبنانية المختلفة، بما فيها المشاكل المتكررة على الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل. وباعتبار أن تقوية الجيش اللبناني سيساعد مستقبلاً على تقويض قدرات أي قوى سياسية راغبة في الاحتفاظ بأجنحة عسكرية أو أمنية.
- التعويل على ضرورة مشاركة دول الخليج في خطة إنقاذ لبنان اقتصاديا، والمعروف أن هذه المشاركة ستكون مشروطة بجوانب سياسية ، تتعلق بدور حزب الله وإيران في لبنان.
- دعم مسألة ضرورة إجراء إصلاحات جوهرية في بنية الاقتصاد اللبناني والعلاقات الهيكلية بين أطرافه المختلفة، وإنشاء نظام حماية اجتماعية فاعل ومستدام، يمكن من خلاله استعادة الطبقة المتوسطة في المجتمع اللبناني، والتي تلاشت مع الأزمات الاقتصادية المتكررة وارتفاع مستويات المعيشة ، مع ضرورة مواجهة الفساد المستشري بالدولة.
الفيل في الغرفة: استراتيجة جوتيرش للتعامل مع حزب الله:
من الواضح من معظم التقارير التي تصدر عن الأمم المتحدة بخصوص لبنان أن هناك وعي وإدراك حقيقي بأن حزب الله يمثل إشكالية حقيقية في الواقع اللبناني سواء على المستوى السياسي أو العسكري. وبالتالي تؤيد الأمم المتحدة على لسان أمينها العام ضرورة تحول حزب الله إلى حزب سياسي، كغيره من القوى السياسية في البلاد، مع ضرورة تخليه عن السلاح وتفكيك الجناح العسكري للحزب، أو إعادة دمجه في القوات المسلحة اللبنانية. وكان لافتا في هذه الزيارة تصريح جوتيرش مستخدما أحدى التعبيرات المعروفة في الأدبيات السياسية الغربية وهو مقولة ” الفيل في الغرفة” ELEPHANT IN THE ROOM ، وتعنى ببساطة إغفال رؤية حقائق واضحة، وتجاهل الحديث عنها أو مناقشتها رغم أن الجميع يراها ويشعر بها ويصطدم بها بشكل يومى ، فهى فى ضخامة الفيل ووضوحه إذا تم وضعه فى غرفة صغيرة. وقياساً على الواقع اللبناني قال جوتيرش ” عندما يكون لديتك فيل في الغرفة، فإن أفضل ما يمكنك القيام به هو توسعة الغرفة لكي لا يتحول الفيل إلى مشكلة.
يدرك جوتيرش أن هذا الأمر المتعلق بمعالجة الوضع المختل لحزب الله، بالغ الحساسية، ويحتاج لممارسة ضغوط كبيرة على الدول الداعمة للحزب بالأساس، وعلى رأسها إيران، وقد تكون هذه المسألة جزء من بنود الحوار الراهن بين السعودية وإيران، وربما تكون جزء من بنود الصفقة النووية القادمة بين إيران والغرب.
نخلص من هذا التحليل، أن الأمم المتحدة بصدد إعادة تشكيل رؤية جديدة إزاء التعامل مع الواقع اللبناني، تأخذ بعين الإعتبار الإشكاليات المزمنة، التي يتحاشها البعض أحياناً مثل قضية حزب الله ودوره السياسي والعسكري، كذلك مسألة اتفاق الطائف ومدى ملائمته للواقع اللبناني والإقليمي والدولي الراهن. إن هذه الرؤية الجديدة من جانب الأمم المتحدة، تتوافق بصورة كبيرة مع ما كررته معظم الدول المعنية باستقرار لبنان، وعلى رأسها

مصر ودول الخليج، غير أن تنفيذ هذه الرؤى يحتاج بالفعل لتكاتف دولي وإقليمي لتصحيح مسار لبنان والحفاظ على استقلاله عن المحاور الإقليمية، والحيلولة دون تحول لبنان لساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، فلبنان المستقر ركيزة مهمة لإستقرار منطقة الشام ككل، بل يجب العمل على عودة لبنان- كما كان من قبل- جسراً من جسور الحوار الإقليمي والإشعاع الفكري والثقافي، ونموذج من نماذج التعايش السلمي في بلد متعددة الأثنيات والطوائف والديانات.
