إعداد : اليان بطرس
باحثة فى وحدة العلاقات الدولية
مراجعة وتحرير: د. أكرم حسام
مستشار مركز جسور والمشرف على وحدة العلاقات الدولية
تقديم:
تخطو مصر خطوات متقدمة نحو إعادة رسم سياساتها الاقتصادية، على نحو يُمكن من خلاله استغلال كافة القدرات والإمكانيات والموارد المتاحة للدولة، وهي مقاربة شاملة تبنتها القيادة المصرية الحالية، وحققت حتى الآن نجاحات ملموسة، رغم كل التحديات الهيكلية من ناحية والعالمية من ناحية أخرى، خاصة في عالم ما بعد الجائحة ( جائحة كورونا). ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الاستجابة المصرية لمتطلبات التغيرات المناخية، والتوجه نحو الاقتصاد الأخضر (تحقيق التنمية المستدامة دون حدوث تدهور بيئي ) وكذلك الاقتصاد الأزرق (الإدارة المُثلى والمستدامة للموارد المائية) وغيرها من المفاهيم الاقتصادية المعروفة عالميًا ومنها الاقتصاد الذهبي ( الطاقة الشمسية) والاقتصاد البني ( الموارد الاحفورية مثل البترول والفحم والغاز) والاقتصاد الأبيض ( الاقتصاد الرقمى).
وإذا كان الاقتصاد الأخضر ومسائل الاستجابة لإستحقاقات التغيرات المناخية على سبيل المثال هو سمة من سمات الاقتصاد الدولي في الوقت الراهن وملمح مهم من ملامحه المستقبلية، فإن الاقتصاد البرتقالي أو الاقتصاد الإبداعي سيكون هو الأخر من الفرص التي ستتبعها بعض البلدان في المستقبل القريب. فعلى مستوى التجارب الدولية المختلفة نلاحظ اعتماد متزايد على هذا النمط من الاقتصاد، خاصة في بعض بلدان أمريكا اللاتينية وفي بعض التجارب الاقليمية.
في هذا السياق وفي ظل تركيز مركز جسور للدراسات الاستراتيجية على القضايا المحورية للسياسة المصرية سواء على مستوى السياسة العامة أو على مستوى العلاقات الدولية، فقد وجد المركز أن هناك أهمية لإعادة طرح هذا الموضوع، في سياق مختلف، وفي صورة “ورقة سياسات” تحمل رؤية مستقبلية وتوصيات لصناع القرار وأصحاب المصلحة، فيما يخص هذا النمط الجديد من أنماط الاقتصاد، والذي نعتقد أن مصر بإمكانياتها الحضارية والثقافية والإبداعية لديها فرصة كبيرة لتحقيق الريادة الإقليمية في هذا النمط الاقتصادي الجديد.
ماهية الاقتصاد البرتقالي وهياكله الرئيسة:
هو أحد المسالك الاقتصادية التي تسلكها بعض البلدان، والتي تعتمد بالأساس على تنمية الصناعات الإبداعية والثقافية بالدولة والاهتمام بسياحة المهرجانات الموسيقية والتطبيقات الإلكترونية والأشغال اليدوية وصناعة الفن والسينما، وغيرها من الأمور التي تقوم بدورها بتوليد وظائف وأعمال جديدة، تتيح فرص عمل للمواطنين، وتسهم في رفع مستوى الدخل الفردي، وتسهم بشكل أكبر في الناتج القومي الإجمالي للدولة. ويُطلق عليه أحيانًا “الاقتصاد الإبداعي” أو “الصناعات الثقافية” التي تجمع بين قطاعات الاقتصاد وكافة قطاعات الإبداع والمعرفة.
تم تعريف الاقتصاد البرتقالي من قبل عدد من المنظمات من بينها اليونسكو والمنظمة العالمية للملكية الفكرية واللجنة الاقتصادية لامريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وتتنوع التعريفات لترسي مبدأ أن الاقتصاد الابداعي هو تسليع الأفكار والابداعات والفنون والاستفادة منها لتصبح مصدر من مصادر الدخل فى الاقتصاد العالمي . ووفقًا لمنظمة الأونكتاد (مؤتمر الأمم المتجدة للتجارة والتنمية) فإنها تعرف الصناعات الإبداعية بأنها دورات الإبداع والإنتاج والتوزيع للسلع والخدمات التى تستخدم الإبداع والرأسمال الفكري كمدخلات أساسية تتضمن مجموعة من الأنشطة القائمة على المعرفة، وتركز على الفنون، وتخلق مصادر للدخل من التجارة وحقوق الملكية الفكرية. وبحسب تعريف جون هيكنز الكاتب البريطانى المهتم بالاقتصاد البرتقالى والابداعي أن الاقتصاد الإبداعي يشمل جميع القطاعات التي تعتمد سلعها وخدماتها على الملكية الفكرية. كما عرفته اليونسكو(منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم) أنه الصناعات الثقافية والإبداعية التى تجمع بين قطاعات الاقتصاد التى تشمل إنشاء وانتاج وتسويق المحتويات الابداعية غير الملومسة وذات الطبيعة الثقافية أو الفنية أو المحتوى التراثي والتى تكون عادة محمية بموجب حقوق الطبع والنشر.
يتشكل الاقتصاد البرتقالي من عدة قطاعات قائمة على المعرفة، وتشمل على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- التراث الطبيعي والثقافي.
- الكتب والصحافة.
- فنون الأداء والاحتفالات والمؤتمرات العالمية.
- الإعلام المسموع والمرئي والتفاعلي.
- الفنون البصرية والحرف المختلفة.
- التصميم والخدمات الإبداعية ( التطبيقات الالكترونية).
- صناعة النشر والكتب.
- متاحف التراث الثقافي، والمواقع التاريخية والأرشفة.
- الأحداث الثقافية الكبرى، والمكتبات.
كما تقوم منظومة الصناعات الثقافية والإبداعية على سلسلة قيمية تتكون من أربعة عناصر، هي: الإبتكار، والإنتاج، والتوزيع، وقنوات النفاذ للمنتجات والخدمات الناتجة هذا القطاع.
تجارب وخبرات مستفادة: موقع الاقتصاد البرتقالي في الأجندة الدولية:
لقد بات هذا الشكل من أشكال الاقتصاد يمثل أولوية رئيسة ليس في مرحلة التعافي من تداعيات جائحة كورونا فحسب، إنما لعقود مقبلة أيضًا، لما له من ثقل يضاهي القطاعات الرئيسة الأخرى من حيث القيمة المضافة الإجمالية، وعدد الشركات العاملة فيه وحجم الاستثمارات المرتبطة بدائرة الصناعات الثقافية، حيث بدأ الاقتصاد البرتقالي يحتل حيز أكبر من الاهتمامات في الاقتصادات العالمية وأجندات الدول الكبرى والنامية معًا، بل بات أحد النماذج الاقتصادية الجديدة التي ظهرت بغرض توليد الثروة من الملكية الفكرية.
رؤية الأمم المتحدة للاقتصاد البرتقالي :
خصصت الأمم المتحدة العام الماضي 2021 عامًا للاقتصاد الابداعي، وذلك وفقا لمبادرة إندونيسية وافقت عليها 81 دولة، ما يمثل تأييدًا من جانبها للأهمية المتزايدة للاقتصاد الابداعي ودوره الحاسم في تعزيز التنمية المستدامة ولاسيما في عالم ما بعد فيروس كورونا. يساهم الاقتصاد البرتقالي بنسبة 3٪ من الناتج الإجمالي العالمي، بقيمة 250 2 مليار دولار أمريكي، فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة تولد الصناعات البرتقالية عائدات سنوية تبلغ أكثر من تريليوني دولار، وتدعم المجتمعات ب 30 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم ( نصفهم من النساء) وأغلبهم من الشباب حيث تتراوح أعمار العاملين في القطاع بين 15 و29 عامًا، مقارنة بأي قطاع آخر، ويشكل التلفزيون والفنون المرئية أكبر صناعات الاقتصاد الابداعي من حيث الإيرادات، بينما الفنون المرئية والموسيقى هي أكبر الصناعات من حيث التوظيف. تتوقع منظمة اليونسكو أن ترتفع اسهامات الاقتصاد الابداعى عالميًا بنحو 985 مليار دولار بحلول عام 2023 ويمكن أن يمثل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قبل عام 2030 ، وفقًا لمركز الأبحا G20 Insights .
الاقتصاد الإبداعي في بريطانيا:
يرجع الفضل لبريطانيا في القيام بأول محاولة لقياس حجم هذا القطاع وتأثيره المباشر في اقتصادها، وذلك في 1998 عندما نشرت الحكومة البريطانية ما أعتبر حينها خريطة أدرج فيها 13 مجالا يتضمنها الاقتصاد الإبداعي، باعتبارها مجالات تعتمد على الإبداع الفردي والمهارة والموهبة ولديها في الوقت ذاته القدرة على تكوين ثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية. وهي: الإعلان، الهندسة المعمارية، وسوق الفنون والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، وتصميم الأزياء، والأفلام، والبرامج الترفيهية التفاعلية، والموسيقى، والفنون المسرحية، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو”، وكانت أولى المفاجآت أنه تم الاكتشاف حينها أن هذا القطاع يولد فرص عمل تبلغ ضعف متوسط فرص العمل في الاقتصاد البريطاني ككل.
الاقتصاد البرتقالي في الولايات المتحدة:
تحتل الولايات المتحدة مقدمة القائمة الدولية للبلدان التي يحظى فيها الاقتصاد الإبداعي بمكانة كبيرة. فقد ولد التوظيف في الفنون والثقافة ما يزيد قليلاً على 400 مليار دولار في الأجور لأكثر من 5.1 مليون أمريكي في 2017، إضافة إلى ذلك بلغ الناتج الاقتصادي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي نحو 920 مليار دولار، بنسبة 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي بما في ذلك نحو 33 مليار دولار فائض تجاري لتصدير الأعمال الفنية والسلع والخدمات الثقافية بما فيها الأفلام وألعاب الفيديو. وصدرت الولايات المتحدة بما يعادل 78 مليار دولار من السلع والخدمات الفنية والثقافية واستوردت ما قيمته تقريبًا 45.3 مليار دولار وفقًا لبيانات مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة الأمريكية. وفي ولاية شيكاغو وحدها وفر الاقتصاد الإبداعي 660 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، و13 مليار دولار من الأجور، وأسهم بـ144 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي. إن ما يميز الولايات المتحدة هو مستويات التمويل الخاص المرتفعة في هذا القطاع مقارنة بمستويات التمويل العام.”نحو 60 في المائة من العاملين في هذا القطاع في الولايات المتحدة يعملون في القطاع الخاص، ويعد القطاع الخاص القاطرة الرئيسة التي تقود الاقتصاد الإبداعي في الولايات المتحدة، وفي عام 2019 أضافت شركات الفنون المسرحية والفنانين والكتاب وفناني الأداء المستقلين نحو 61 مليار دولار للاقتصاد الأمريكي وفقا للبيانات الرسمية”.
الاقتصاد البرتقالي في الصين:
وضعت الصين تركيزها فى الخطة الاقتصادية الخاصة بها على مدار السنوات على الاقتصاد الابداعي والصناعات الثقافية كركيزة للاقتصاد الوطني الصيني وهو ما ظهر فى خطتها الخمسية الثالثة عشرة (2016- 2020) ، والتي تعتمد من خلالها على خلق فرص عمل وتحقيق نمو اقتصادى يعتمد بشكل كبير على الابتكار والابداع وهو ما انعكس على الاجراءات التشريعية والادارية التى اتبعتها الدولة . تشير المؤشرات إلى اسهام القطاعات الإبداعية في الصين بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، أي ما يوازي نحو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقا لتقديرات 2018 .
الاقتصاد البرتقالي في الاتحاد الأوروبي:
ساهم الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي في توفير 12 مليون وظيفة، ما يجعله ثالث أكبر قطاع لأصحاب العمل، ويولد نحو 550 مليار دولار ما يعادل 5.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد.
الاقتصاد البرتقالي في دول الخليج:
تهتم بعض دول الشرق الأوسط بالصناعات الإبداعية، وتأتي دول الخليج من بين الدول الأكثر اهتمامًا بهذا النمط من أنماط الاقتصاد، وينعكس ذلك في حرصها على استضافة فعاليات الاقتصاد الإبداعي ، لكن الأعوام القليلة الماضية شهدت طفرة حقيقية للاقتصاد البرتقالي في دول الخليج العربي، حيث تعمل بعض الدول الخليجية على تفعيل هذا القطاع بشكل ملموس، فعلى سبيل المثال افتتاح متحف اللوفر في الإمارات، والمساهمة الحكومية بمبلغ 330 مليون دولار لتشييد دار أوبرا دبي الجديدة التي تفتخر بمبيعات تذاكر تفوق مبيعات أوبرا متروبوليتان في نيويورك، واستضافة أكسبو 2022 والمعارض الدفاعية في السعودية وتزايد اهتمام القيادة السعودية وبرعاية من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد بمجالات الترفيه والرفاهية المجتمعية بشكل خاص. وتراهن السعودية على مساهمة كبيرة لهذا القطاع في رؤيتها 2030، من خلال تعزيز الخطط المطبقة حاليا لإيجاد نوع من الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتحفيز المبادرات الفردية والشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، ورفع نسب التوظيف العام في القطاع، ورفع مساهمته الإجمالية مع تمتعه بدرجة أعلى من المرونة القادرة على التأقلم مع المعطيات والتداعيات الاقتصادية المفاجئة مثل وباء كورونا.
الاقتصاد البرتقالي في أفريقيا:
تهتم بعض الدول الأفريقية بتطوير قدراتهم في مجال الاقتصاد البرتقالي، ففي نيجيريا على سبيل المثال يساهم قطاع إنتاج الافلام في توفير 300.000 فرصة عمل مباشرة، كما يعمل الشباب والنساء فى المهن الإبداعية والثقافية بنسبة كبيرة تقرب من ثلث القوة العاملة في غانا واوغندا.
النموذج الكولومبي فى الاقتصاد البرتقالي:
تميزت دولة كولومبيا وهي من دول امريكا اللاتينية، بأنها من أكبر الدول التى تدعم الاقتصاد البرتقالى، بعد اهتمام الرئيس ايفان دوكي ماركيز بهذا النوع من الاقتصادات، حتى أنه شارك فى كتاب عن الاقتصاد البرتقالى وأخذ خطوات نحو تطوير ووضع قوانين تدعم انتشار هذا النوع وتقنينه وقام بإنشاء مجلس الاقتصاد البرتقالي الوطني، يضم 12 عضوًا من بينهم 7 وزارات، وهو ما ساعد على تطوير ونمو هذا القطاع، ليسهم بنسبة 1.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي للدولة معتمدًا علي التلفزيون والإعلان والصحف والمجلات والفنون البصرية والكتب. فى عام 2017 بلغت قيمة الأسثمار الثقافي فى كولومبيا 8.2 مليار دولار، لتصبح المواد السمعية والبصرية من أكبر المساهمات فى هذا القطاع بنسبة 43% ويليها الكتب والمنشورات بنسبة 21.9% ثم التعليم الثقافي بنسبة 19% وتصميم الاعلانات بنسبة 8.7%. لتتوجه مشاركة الاقتصاد البرتقالي فى الاقتصاد الكلى للبلاد بنسبة 1.1% بين عامى 2005 و2017 بمعدل نمو 5.5% سنويًا فى المجال الثقافي. كما ساعدت الصناعات الثقافية فى كولومبيا لخلق 247،849 وظيفة فى عام 2017.
كما قامت وزارة الثقافة الكولومبية في عام 2019 بوضع سياسات عامة وشاملة للاقتصاد البرتقالي مع مجموعة من الجهات ومنظمات المجتمع المدني، حيث تم تقديمها للمجلس الوطني للاقتصاد البرتقالي، لتحديد مسار عمل يدعم تعزيز الوضع الثقافي والابداعي فى أولوية عمل الحكومة. وقدمت الدولة الإعفاء من ضريبة الدخل لمدة سبع سنوات كحافز للاقتصاد الإبداعي، وفى نوفمبر 2019 ، صدر المرسوم 2106 بموجبه يتم سن اللوائح لتبسيط الإجراءات والأوراق لتسهيل الأعمال القائمة على الاقتصاد البرتقالي. يتوقع أن يتم تسمية أحد المناطق فى وسط العاصمة الكولومبية بوغوتا بالمنطقة البرتقالية لتصبح مجالاً للمعارض الثقافية وإداة خلق الفنون، حيث تجتمع فى بوغوتا 92% من الصناعات الثقافية بما يعزز تطوير الخدمات الابداعية فى كولومبيا وهو ما يدعم فرص التنمية فى الاقتصاد والاستثمار.
التجربة الإندونيسية فى الاقتصاد البرتقالي:
تعد إندونيسيا من أكبر الاقتصادات فى منطقة جنوب شرق آسيا وتتميز بتنوعها الثقافي، وتهتم إندونيسيا بشكل خاص بالقطاع الإبداعي حيث أنشأت الوكالة الإندونيسية للاقتصاد الإبداعي عام 2015، لوضع مجموعة من السياسات التي تساعد فى استغلال الامكانات الكبيرة للدولة فى تنمية هذا القطاع الاقتصادى وتقوم هذه الجهة بالتنسيق والتعاون مع دول العالم المهتمه بهذا المجال لدعم وتعميق الاستفادة فى مجال الاقتصاد الإبداعي كلاً حسب إمكاناته. وتقوم الوكالة على ست وظائف هي: البحث والتطوير والتعليم، والحصول على رأس امال، والبنية التحتية والتسويق والتسهيل، وتنظيم حقوق الملكية الفكرية، والعلاقات الحكومية الدولية، لتهيئة الظروف للاقتصاد الإبداعي كي يصبح دعامة أساسية للأداء الاقتصادي الوطني.
تعد الصناعات الإبداعية قوة اقتصادية كبيرة فى إندونيسيا، ففي عام 2017، حقق القطاع ما يزيد على 7% من إجمالى الناتج المحلي وساعد على توظيف نحو 15.9 مليون شخص. ويتوقع أنه بحلول عام 2030 سيكون هناك 180 مليون ينضم إلى العمل فى هذا القطاع الذى يمثل عامل جذب لكثير من الشباب الإندونيسي. وفى عام 2018 نظمت الوكالة الإندونيسية للاقتصاد الإبداعى المؤتمر العالمي الأول عن الاقتصاد الإبداعي حول موضوع “الإبداع الشامل”، بهدف تعزيز الاقتصاد الإبداعي باعتباره أداة لتحقيق تكافؤ الفرص والشمول. تهتم إندونيسيا بهذا الملف حتى أفردت الدورة الثانية عشر للمنتدى الاقتصادي الإسلامي فى جاكرتا مساحة واسعة من الحديث حول الاقتصاد الإبداعي بما يشمل الفنون ووسائل الإعلام والمنتجات الثقافية والتراثية بالإضافة إلى التصميم والهندسة المعمارية، ووسائل الإعلام الجديدة. ويسهم قطاع الأزياء بشكل كبير فى الناتج المحلي للاقتصاد الإبداعى فى إندونسيا بنسبة تصل إلى 41.4% وهو قطاع حي ومميز على مدار التاريخ الإندونيسي من أقمشة تقليدية مميزه ذات تطريز غني، وتعد إندونيسيا ثالث دولة بعد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبيه فى إسهام الاقتصاد الإبداعي بشكل كبير فى الاقتصاد الوطني لهم.
مصر وفرص الاستفادة من الاقتصاد البرتقالي:
تحظى مصر بقدرات بشرية وحضارية وثقافية ومجتمعية كبيرة ومتنوعة تؤهلها لتطوير عديد من الأنشطة الإبداعية والثقافية من خلال الاستفادة من ثرواتها البشرية التي تزيد عن 100 مليون نسمة وتراثها وحضارتها الممتدة لأكثر من سبعة آلاف عام. ولعل موكب نقل المومياوات الذهبي والافتتاح الاسطوري لطريق الكباش بالأقصر بكل عناصرهم التاريخية والإبداعية والفنية جسد نموذجًا رائعًا لثروات مصر، وقدراتها على التحول إلى مجتمع معرفي مبدع قادر على استخدام أدوات القوى الناعمة في التأثير في محيطها الإقليمي والدولي، بما يؤهلها عن جدارة لإحتلال مكانة متميزة في الاقتصاد البرتقالي.
تشير الإحصائيات المتوافرة عن هذا الموضوع إلى أن مصر أحتلت المرتبة 28 من ضمن 126 دولة في مجال السلع الإبداعية في عام 2018، وفق دليل الإبتكار العالمي. ومع الاهتمام الذي أولته القيادة السياسية لصناعة الإبداع في مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة قفزت مصر للمرتبة السادسة عشرة من حيث حجم الإنتاج الثقافى، مع ذلك ظل نصيب الاقتصاد البرتقالى المصرى من الصادرات المصرية لا يتناسب مع حجم إنتاجها الثقافي، فالتقديرات المتاحة حول الموضوع تشير لرقم لا يزيد على مليار وربع المليار دولار سنويًا.
مستقبل الاقتصاد البرتقالي بعد جائحة كورونا:
في ظل ما يشهده العالم من أزمات اقتصادية أو غير اقتصادية من شأنها التأثير على الاقتصاد العالمي، ومنها جائحة كورنا، التي تركت تداعيات سلبية كثيرة على الاقتصاد العالمي، والاقتصادات الوطنية، فإن الاقتصاد البرتقالي أقل تأثرًا بتلك الأزمات، وأقل عرضه للكساد وتقلبات السوق، بل على العكس فقد أثبتت أزمة جائحة كورونا أهمية هذا الاقتصاد، إذ أدت الإجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعي إلى توقف عديد من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية التقليدية وتوقف حركة التجارة الدولية للسلع والخدمات، فتم التوجه نحو تطوير الإنتاج الإلكتروني والمحتوى الرقمي، وكذلك تطوير صناعة الترفيه من خلال إبتكار وسائل إلكترونية للترفيه، وتطوير أساليب للسياحة الافتراضية، كما تم تصدير تلك الأعمال الإبداعية عبر الحدود. ( حققت شركة “نتفليكس” ٥٠٨ مليارات دولار خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٠، و٧١٦ مليار دولار في الربع الأول عام ٢٠٢١).
وترجع المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد البرتقالي ومقاومته للأزمات الدولية الطارئة، إلى أنه لا يحتاج إلى مواد أولية لإنتاجها، وإنما يتطلب فقط توفر رأس مال بشري مبدع قادر على التطوير والتحديث والإبتكار، كما يتسم أيضًا بأنه لا يخلف نفايات ضارة بالبيئة، فضلاً عن دوره في التأثير على ثقافة الشعوب وبناء منظومة القيم، بما يحقق تماسك إجتماعي ويغير صورة الدولة التي تتبناه.
الخلاصة والتوصيات
- تخلص هذه الورقة، إلى أن الاقتصاد البرتقالي قد يصبح روشته أو وصفة علاجية لمستقبل الاقتصاد الدولي، وكذلك لمستقبل بعض الاقتصادات النامية، خاصة في ظل ما يواجهه العالم من تحدي كبير، فى ظل الثورة الصناعية الرابعة وتأثيرها على الصناعات التقليدية والوظائف المعتادة، التي ستتأثر سلباً بتطور التكنولوجيا واستخدام الروبوتات ، مما يدفعنا لتشجيع فكرة الاقتصاد الابداعى لما يقدمة من فرص عمل غير محدودة تساعد فى سد هذه الفجوه.
- طرحت الورقة عدداً من التجارب الدولية المتميزة في مجال الاقتصاد البرتقالي، خاصة التجربتين الكولومبية والإندونسية، اللتان حرصتا على مأسسة عملية التخطيط والمتابعة والتقييم لسير هذا الاقتصاد، وكيفية ربطه بقطاعات الدولة الأخرى، ونعتقد أنها تجارب تستحق الدراسة من جانب المعنيين بالدولة المصرية، لما يمثله الاقتصاد البرتقالي من فرصة للتعامل مع عالم ما بعد جائحة كورونا على المستوى الاقتصادي.
- أوضحت الورقة في الجزء الخاص بمصر، أنه وفي حال تم التركيز على هذا النوع من الاقتصاد في الخطط المستقبلية، فإن مصر مؤهلة لتصبح ضمن الخمس دول الأوائل في هذا الشكل الاقتصادي ، حيث تتميز مصر بتعدد ثرواتها من ثروة بشرية هائلة وحضارة وتراث غني، بالاضافة إلي مواردها الطبيعية.
- التوصيات لصناع السياسات ومتخذي القرار
توصي هذه الورقة بوضع استراتيجية وطنية شاملة تقوم على إرثاء ألية مؤسساتيه، تسمح بإطار حركة ومشروعات متكاملة تدعم الاقتصاد البرتقالي، قد تشتمل على بعض الأفكار والمحاور التالية:
- على المستوى السياسي:
- وضع مجال التعاون في الاقتصاد البرتقالي ضمن مجالات التعاون الممكنة والواعدة مع دول أمريكا اللاتينية ، وكذلك مع الدول المهتمة بهذا النمط الاقتصادي مثل أندونيسا ونيجيريا وغانا، بالإضافة للدول الكبرى المهتمة فعلياً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وغيرها.
- تنظيم برامج زيارات شبابية للدول الرائدة في مجال الاقتصاد البرتقالي، بما يساعد في تبادل الخبرات والاستفادة من تجارب هذه الدول.
- تكليف الجهات المعنية بإجراء دراسة مسحية إحصائية لواقع وتحديات وفرص الاقتصاد الإبداعي في مصر، بالتعاون مع المراكز الإحصائية المتخصصة بالدولة وتحليل نتائجها بصورة دقيقة، يمكن من خلالها رسم سياسات طويلة الأجل تلائم الواقع والمستقبل.
- تكليف مجموعات عمل بإعداد استراتيجية مصرية للأقتصاد الإبداعي، تشتمل على كل المحاور المطلوبة للعمل والتنفيذ وتذليل العقبات القانونية والعملية.
- المستوى التنفيذي:
- التفكير في إطلاق مناطق إبداعية متكاملة بمصر خلال السنوات المقبلة، مع أهمية استقطاب المزيد من الشركات الإبداعية ورواد الأعمال ورؤوس الأموال العاملة في هذا المجال.
- استغلال التراث الثقافي المصري والوثائق الورقية والسمعية والبصرية، وبعض الحرف اليدوية والفنية لإحداث نقلة نوعية على مستوى الاقتصاد الابداعي.
- دعم فكرة إقامة المهرجانات الشعبية والسباقات الشعبية والتراثية مثل سباق الهجن وغيرها.
- الاهتمام بتطوير وتسويق بعض الحرف والصناعات مثل الصناعات الفخارية والنحاسية وصناعة الجلود وغيرها.
- تطوير المناطق التراثية والحفاظ على هويتها ومعالمها، ووضعها على أجندة السياحة المصرية .
- رفع الوعي العام والوعي المؤسسي حول مدى جدوى هذا النوع من الاقتصاد لإحداث نقلة نوعية فى قطاع الصناعة الإبداعية.
- إدماج أفكار تطوير الريف المصري والصعيد، والتي تقوم بها الدولة حالياً من خلال عدة مشروعات قومية مثل حياة كريمة وغيرها، ضمن أجندة الدولة للإقتصاد البرتقالي، بما سيساعد في إحدث طفرة فى هذا القطاع (إذ ما تم هذا الربط) .
- من المفيد لمستقبل هذا القطاع الحيوي أن يتم تسليط الضوء على رواد الأعمال والمبدعين وتقديم الحوافز لهم، بما يعزز ارتفاع مستوى اندماج الاقتصاد الابداعى داخل الاقتصاد الكلي.
- تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في الصناعات الإبداعية، ضمن استراتيجية الدولة بهذا الإطار، ومن خلال خريطة واضحة لمناطق وفرص الاستثمار المتاحة.
