إزاحة أم تثبيت:
مستقبل النفوذ الايراني في دير الزور بين الرؤيتين الإسرائيلية والإيرانية
إعداد: د. مروة علي
برنامج الأمن الاقليمي
مراجعة وتحرير: د. أكرم حسام مستشار مركز جسور والمشرف على وحدة العلاقات الدولية
تقديــــم:
يتجدد الحديث كل مرة عن قضية النفوذ الإيراني في سورياً ومستقبله وحدوده، مع كل عملية عسكرية تنفذها إسرائيل أو الولايات المتحدة داخل الأراضي السورية، وكذلك مع بعض العمليات الهجومية التي تنفذها أطراف مجهولة في الداخل السوري ضد أهداف ومصالح أمريكية بالداخل السوري، كما تُطرح قضية النفوذ الإيراني مرة أخرى مع طرح “عمليات التسوية المحلية” التي ترعاها روسيا بالتعاون مع الحكومة السورية والتي نفذتها في درعا والجنوب السوري، وتسعى حالياً لتنفيذها مع الأكراد في مناطق شرق الفرات، والهادفة إلى إعادة تموضع السيطرة السورية على بعض المناطق التي ظلت خارج سيطرتها خلال سنوات الصراع مع الجماعات المسلحة والإرهابية.
ولا شك أن هناك قدر كبير من الغموض لا يزال يحيط بمسألة النفوذ الإيراني في سوريا، فبين تقديرات إسرائيلية تشير إلى قيام إيران بسحب 75% من حجم وجودها العسكري والميلشياوي من سوريا خلال الفترة الماضية، تشير معلومات أخرى لإستمرار إيران ليس فقط في تثبيت نفوذها في سوريا، بل في الضغط على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا أيضاً، كما تفعل في العراق، على أمل أن تنجح في دفع إدارة بايدن لإتخاذ قرار بالخروج ( عسكرياً) من سوريا ،كما فعلت بالعراق نهاية العام الماضي ( إنهاء وجود القوات القتالية والإبقاء على مهمة استشارية فقط للدعم الفني واللوجسيتي والتدريب).
في هذا السياق ، يسلط هذا التحليل الضوء حول الرؤية الإيرانية والإسرائيلية لحجم ومستوى النفوذ الإيراني في سوريا بشكل عام وفي منطقة دير الزور على نحو خاص، فما بين مساعي التثبيت والتطوير لهذا النفوذ من جانب طهران، ومساعي الإزاحة من جانب تل أبيب وواشنطن ، يدور محور هذا التقرير ، الذي يحمل وجهتي نظر مختلفتين، ضمن رؤية كل دولة للموقف الراهن في سوريا .
أولاً: التقديرات الإسرائيلية:
ترى الدوائر الأمنية والاستخباراتية في إسرائيل أن إيران تواجه ضغوط كبيرة للخروج من سوريا، وأنها بالفعل قد بدأت في الاستجابة ” المرنة” لهذه الضغوط ، خاصة عقب الحديث عن تفاهمات روسية أمريكية منذ قمة بوتين بايدن في يونيه2021 محورها الاتفاق على تقليص الوجود الإيراني في سوريا، وذلك ضمن صيغة تفاهمات أخرى لم تُكشف كامل ملامحها بعد ، مروراً بتسويات درعا والجنوب السوري، والتي استهدفت في جزء منها مساحات الوجود الإيراني في الجنوب السوري ( بتشجيع إسرائيلي وأردني وأمريكي بالأساس)، وصولاً للضربات الإسرائيلية والأمريكية المتكررة لمواقع الوجود السوري في عدة مناطق في سوريا وخاصة في الشمال الشرقي ( دير الزور والميادين والحسكة).
تتلخص الـتـقـديـرات الإسرائيلية في رؤئتين متعارضتين:
الرؤية الأولى: تمثلها قيادة شعبة الاستخبارات العسكرية فــي الــجــيــش (أمـــــان) ، والتي تـعـتـقـد بـــأن تـأثـيـر الضربات الإسرائيلية بـات ملموساً على الحراك الإيـرانـي. وأن إيـران قلصت مـا يزيد على ٧٥ فـي المـائـة مـن قواتها في سـوريـا، وخـفـضـت مـن شـحـنـات الأسلحة التي ترسلها إلى لبنان. كما انخفض نـشـاط الميليشيات الشيعية في سوريا، ومنها نشاط حزب الله اللبناني . وتُرجع ” أمان” هــذا التغيير للضربات الإسرائيلية والأمريكية المتكررة والدقيقة في محافظة الــلاذقــيــة (غــــرب) ومــحــافــظــة ديـــر الـــزور(شرق)، علاوة على التهديدات الإسرائيلية العلنية ( من خلال المنشورات) للقيادات الميدانية الإيرانية، وتوجيه القصف قـرب المنازل والأماكن التي يتواجدوان فيها منهم ( الحاج هاشم، الذي كان يقود نشاطها في الجنوب الــســوري، وبـهـنـام شــريــري، المــســؤول عن الشؤون اللوجستية الخاصة بنقل الأسلحة الإيرانية إلى سوريا). كما ربطت دوائر ” أمان هذا التراجع الإيراني لظروف إقليمية أيضاً خاصة فيما يتعلق بالموقف الراهن في لبنان والذي يتعرض فيه حزب الله لضغوط كبيرة وغضب داخلي، علاوة على تلقى التيار الموالي لإيران ضربة قاسية في الانتخابات الأخيرة. بالإضافة لتفسيرهم للحراك الروسي السوري بخصوص التسويات المحلية سواء في الجنوب أو في مناطق شمال شرق سوريا على أنها رغبة مشتركة من الروس والأمريكان في التخلص التدريجئ من عبء الوجود الإيراني في سوريا، والذي يشكل نقطة خلاف كبيرة مع الجانب الأمريكي ويحول دون إنخراط اشنطن في جهود إعمار سوريا وتشجيع العملية السياسية ودعم مسألة عودة سوريا للجامعة العربية. كما ربطت شعبة ” أمان” مسألة الرغبة الإيرانية في إحداث إنعطافة في وجودها في سوريا وفي مناطق إقليمية أخرى، بتراجع قدرات الحرس الثوري وفيلق القدس تحديداً بعد اغتيال قاسم سليماني، الذي كانت تعتبره إسرائيل قـائــداً بــقــدرات عالية في الرؤيا الاستراتيجية تسير جنباً إلى جنب مـع قــدرات تنظيمية كبيرة وتأثير ملموس على الـقـيـادة فـي طـهـران وفـي كل دول وتـنـظـيـمـات المــحــور الإيــرانــي، و أن إسماعيل قاآني، الذي حل محل سليماني، لم يتمكن حتى الآن من ملء هذا الفراغ. ولا يحظى بالتقدير نفسه، ويتخذ الكثير من قراراته بشكل عشوائي.
الرؤية الثانية: وتمثلها دوائر الخارجية والموساد ، وترى أن المـشـروع الإيـرانـي يتعثر بالفعل بشكل كبير بسبب الضربات الإسرائيلية وعوامل أخرى، إلا أنها تختلف مع تقيمات ” أمان” في أن طهران لم تتخل مشروعها الاستراتيجي في سوريا، وأنها فقط تـواصـل جهود التموضع وتقيم مستوطنات لها في سوريا وترتب لـمشاركة حزب الله في أي صدام عسكري إسرائيلي – إيراني. كما أنها لا تزال متمسكة بالحفاظ على مكتسباتها في سوريا، خاصة في منطقة دير الزور ومناطق الشمال الشرقي بشكل عام، بل أنها تعزز من مواقعها ونفوذها المدني والعسكري هناك، علاوة على استمرارها في بناء علاقات استراتيجية مع الحكومة السورية، سواء في شكل اتفاقات شراكة اقتصادية أو تعاون في مختلف المجالات، بالإضافة لإستمرار التنسيق السياسي بين البلدين على نفس مستوياته العالية، والتي لا توحي بأي تغير محتمل سواء من الجانب السوري أو من الجانب الإيراني.
ثانياً: الرؤية من المنظور الإيراني: التركيز على الوجود المدني
تؤكد كافة التحركات الإيرانية بالداخل السوري، وكذلك تصريحات كل القادة والسياسيين الإيرانيين، ومن خلال مطالعات الصحف الإيرانية الكبرى وتقارير مراكز الدراسات الإيرانية( القريبة من دوائر القرار) أن إيران لم تتراجع عن مشروعها في سوريا والمنطقة بشكل عام، بل أنها تعمل على تدعيم نفوذها، وتحويله من نفوذ عسكري وأمني إلى نفوذ مدني مستقر، يشتمل على عدة أبعاد ديمغرافية واقتصادية وثقافية وتعليمية … وغيرها. بل أنها تضغط في اتجاه أخر وهو إخراج الولايات المتحدة من سوريا، على اعتبار أن ما تحقق في العراق بخروج القوات القتالية من هناك، هو نجاح لإيران ولميلشياتها هناك، وأنه قابل للتكرار في سوريا أيضاً. وهناك عدة مؤشرات على الأرض خلال الفترة الماضية، تدعم هذا التحليل، منها ما يلي:
- تعرض حقل العمر النفطي و هو أكبر حقول النفط في سوريا، الذي تتمركز فيه القاعدة العسكرية لقوات التحالف الدولي، في ريف دير الزور الشرقي في شرقي سوريا، لعدد من الإنفجارات في 8 يناير الجاري، هو أكبر دليل على هذا التوجه، حيث ذكرت ذكرت شبكة عين الفرات أن هجوم حقل العمري الأخير مصدره مناطق انتشار الفصائل المدعومة من ايران، وهي ليست المرة الاولي التي تتعرض لها القاعدة للاستهداف.
- قيام إيران بنشر فصيل عراقي جديد في مدينة البوكمال، شرق دير الزور قرب الحدود السورية العراقية، يطلق عليه فصيل “ربع الله”[1]، وهو ما تم تداوله بعد زيارة قائد “فيلق القدس” الإيراني إسماعيل قااني إلى المدينة.وهو التواجد الاول لهذا الفصيل في سوريا، ويمكن الاشارة الي أن أحد أهم أسباب قيام إيران بإتحاذ هذه الخطوة في ظل تخفيف ايران لتواجد فصيل “لواء زينبيون” الباكستاني حيث تم نقلهم إلي الحدود مع أفغانستان في أعقاب سيطرة حركة طالبان علي أفغانستان.
- الزيارة الأخيرة التي قام بها إسماعيل قآاني قائد فيلق القدس إلى مدينة البوكمال وإشرافه على تخريج دفعة جديدة من المقاتلين في صفوف الفصائل الإيرانية.
- إعلان أحد الفصائل الإيرانية عن افتتاح باب التطوع للنساء في مهمات غير قتالية في 27 نوفمبر 2021، حيث اعلن الحرس الثوري عن حاجته لتطويع قرابة خمس وعشرين سيدة، للعمل في مجالات مدنية مثل التمريض، برواتب شهرية وذلك من خلال التطوع عبر منظمة “جهاد البناء” التابعة للحرس الثوري الايراني.
- إعلان المركز الثقافي الايراني في مدينة البوكمال عن تخريج الدفعه الاولي من الممرضات في 29 نوفمبر 2021، حيث تم التعاقد مع الفتيات الخريجات للعمل في المستشفيات الميدانية التابعة للفصائل الإيرانية والحرس الثوري.
- قيام المركز الثقافي الإيراني بتنظيم عدد من البعثات الدورية إلى إيران عبر العراق من أجل تعليم اللغة الفارسية وتدريس المذهب الشيعي ونشر التشيع بين السكان المحليين، وتعيين قيادي عسكري بالحرس الثوري الإيراني رئيساً للمركز “الحاج أبو صادق”، في 2 نوفمبر 2021 و افتتاح فرعاً جديداً للمركز الثقافي الإيراني في بلدة حطلة شرقي دير الزور، من أجل تعزيز وجود إيران في المحافظة.
ثالثاً: التحليل: قراءة استراتيجية للموقف
من الواضح أن النفوذ الإيراني في سوريا بشكل عام وفي مناطق شمال شرق سوريا بشكل خاص سيستمر على المدى القريب والمتوسط ( مع تغير محتمل في طبيعته من الطابع العسكري للطابع المدني)، رغم كافة الضغوط (العسكرية والسياسية) التي يتعرض لها، سواء من إسرائيل والولايات المتحدة، أو بفرض حدوث تحول حقيقي في الموقفين الروسي والسوري من هذا الوجود المتنامي، باتجاه تقليص مساحته وتغيير طبيعته أيضاً، اتساقاً مع متغيرات المشهد السوري وحدود التقاطعات في المواقف بين اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة السورية، وذلك في ظل ما يلي:
- التحسب الإيراني للتحركات الروسية والسورية الهادفة لتنفيذ تسويات في مناطق نفوذها، على غرار تسويات درعا ، خاصة عقب افتتاح الحكومة السورية مركزاً للتسوية في مدينة البوكمال، بهدف إجراء تسوية لمطلوبين من أهالي المنطقة، وهذه التسوية هي الأولى من نوعها التي تشهدها محافظة دير الزور.
- اتخاذ ايران عدد من الخطوات الاستباقية تحسباً لامكانية تعثر المفاوضات النووية الايرانية مع الغرب، وتزايد احتمالات التصعيد، مما قد يدفع ايران إلي إعادة هيكلة تواجدها في الداخل السوري، من خلال اتخاذ ملامح جديدة كاستقدام فصيل ربع الله للقيام بمهام محددة تخدم علي الأهداف الايرانية في تلك المنطقة، أو من خلال التوسع في النشاطات المجتمعية، مما يؤدي الي إحكام القبضة الايرانية، بما يبعث رسالة إلي المجتمع الدولي بأن أي مسارات لحلحلة الازمة السورية يجب أن تكون ايران حاضرة فيها.
وفي التقدير ، أن ايران ستستمر في العمل على إطالة أمد وجودها في الساحة السورية، مع التظاهر بتخفيف التواجد العسكري في بعض المناطق السورية، في مقابل تزايد المخططات والاجراءات الاجتماعية والدينية من أجل إحداث تغيير ديموغرافي وطائفي وخلق بيئة اجتماعية حاضنة للوجود الايراني، خاصة في دير الزور، وباقي مناطق شمال شرق سوريا، مع الحفاظ على خطوط الاتصال مع الحكومة السورية على المستويين السياسي والاقتصادي، فالوجود الإيراني في سوريا يقع ضمن استراتيجية إيرانية شاملة فيما يتعلق بدورها الإقليمي وبمدى القدرة على الاستمرار في إسناد حزب الله، وإمتلاك أوراق مساومة يمكن استخدامها في الوقت المناسب، مع إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، وكذلك مع تركيا.
[1] – الظهور الأول لهذه الجماعة على أرض الواقع بالعراق كان في مطلع 2020، بعد عملية الاغتيال التي طالت قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، حيث هدد عناصرها آنذاك بفيديوهات مصورة بالثأر من القوات الأمريكية، كما إن جماعة “ربع الله” هي فصيل تشكل من مجموعة فصائل تدين بالولاء والتبعية لإيران، خاصة كتائب حزب الله، عصائب أهل الحق، حركة النجباء، كتائب سيد الشهداء، والخراساني، أن مهمة هذا التشكيل في بداية الأمر كانت مهاجمة كل من ينتقد قادة وتشكيلات الحشد الشعبي، سواء قنوات فضائية أو سياسيين، وهذا ما حصل في حرق قناة دجلة العراقية، وإم بي سي عراق.