إعداد: د. مروة علي
برنامج الأمن الاقليمي
مراجعة وتحرير: د. أكرم حسام مستشار مركز جسور والمشرف على وحدة العلاقات الدولية
تقديـــــم:
بعد مارثون إنتخابي طويل ومُعقد، حفل بتحركات عديدة من مختلف القوى السياسية العراقية، سواء التي فازت بالأغلبية، أو تلك التي لم تحقق النتائج المرجوة، بدأت ملامح المشهد الداخلي في العراق تأخذ منحىً مختلفاً، استكمالاً لعملية بناء التحالفات وتشكيل الخريطة السياسية التي ستحكم أداء الحكومة العراقية الجديدة وكذلك البرلمان الجديد، حيث عقد البرلمان العراقي أولى جلساته في التاسع من يناير الجاري ، والتي تعد أولى خطوات تشكيل الحكومة الجديدة.
في هذا السياق، يتناول هذا التقرير تحليلاً لسياقات الجلسة الأولى للبرلمان العراقي، بهدف استكشاف ملامح الموقف الراهن فيما يتعلق بمسار تشكيل الحكومة، علاوة على حسم الملفات العالقة ومنها تعيين المناصب العليا ( رئاسة الحكومة- رئاسة البرلمان – رئاسة الجمهورية)، ما يرتبط بها من ملفات فرعية مهمة مثل شكل وأداء وتماسك التحالفات التي نضجت خلال الأيام الماضية( تحالف الصدر مع التيار السني والكردي) في مقابل تحالف مدى تماسك واستمرارية مواقف قوى “الإطار التنسيقي” الشيعي التي تشكلت كجبهة معارضة واسعة ،عقب نتائج الإنتخابات الأخيرة.
أولا: ملامح الجلسة الاولي:
شهدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان العراقي حضور جميع نواب الكتل السياسية، إلا أنها شهدت العديد من الانقسامات بين القوي السياسية المختلفة، والتي تعكس مستوى الخلافات بين المكونات الرئيسية الثلاث (الشيعة والسنة والكرد) ، وهو ما يمكن إبرازه في النقاط التالية:
- غياب التوافق حول الكتلة الأكبر: شهدت الجلسة الأولى عدد من المشادات والتي بدأت مع تولي النائب البرلماني “الأكبر سنا” محمود المشهداني (73 سنة) رئاسة الجلسة، حيث ثارت الفوضى في الجلسة بعد أن أعلن الإطار التنسيقي الشيعي أنه قدم لرئيس البرلمان المؤقت ما يفيد أنه الكتلة الأكبر في المجلس، مما أشعل الخلافات بين الكتلة الصدرية وبين الإطار التنسيقي، مما دفع برئيس البرلمان “محمود المشهداني” إلى رفع الجلسة، الأمر الذي عرضه إلى اعتداء، نقل على أثره إلى المستشفى ، حيث استؤنفت الجلسة برئاسة خالد الدراجي من تحالف “عزم”. ونشير إلى أنه وفقا للدستور العراقي، من المفترض أن يتم خلال الجلسة الأولى – التي يترأسها أكبر الأعضاء سناً – تأدية النواب الـ329 اليمين الدستورية، ومن ثم انتخاب رئيس جديد للبرلمان ونائبين، فضلاً عن تسجيل الكتلة الأكثر عدداً.
- حسم رئاسة البرلمان بتوافق صدري سني كردي. كان من أهم منجزات الجلسة الأولى للبرلمان العراقي هو انتخاب السيد “محمد الحلبوسي” رئيساً للمجلس لدورته الخامسة بالأغلبية المطلقة، حيث حصل على 200 صوت مقابل 14 صوتاً لمنافسه محمود المشهداني، فيما اعتبرت 14 بطاقة اقتراع باطلة، كما فاز “حاكم الزاملي” من “التيار الصدري” بمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي، بينما فاز “شاخوان عبد الله” مرشح “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بمنصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب العراقي، ولا شك أن هذه التشكيلة الجديدة لرئاسة البرلمان العراقي( الرئيس والنواب) إنما تعكس بوضوح مستويات التنسيق التي تمت خلال الفترة الأخيرة بين التيار الصدري و المكون الكردي خاصة ( الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني) والمكون السني ( تحالف عزم / تحالف تقدم) .
- بروز دور التكتل السني في المشهد القادم . أظهرت الجلسة الأولى للبرلمان دور واضح للتكتل السني في المرحلة المقبلة، وهو ما عكسه التوافق الذي تم بين تحالفي “تقدم” و”العزم” كأكبر تحالفين للسنة قبيل انعقاد الجلسة الاولي على ترشيح الحلبوسي لرئاسة جديدة للبرلمان، واختيار “خميس الخنجر” رئيسا لتحالف “تقدم” و”العزم”.
- صعوبة الجزم بتماسك التحالفات الراهنة. من الواضح من خلال قراءة أولية لما جرى خلال الجلسة الأولى للبرلمان، أن بعض التحالفات الراهنة قد تتصدع خلال الفترة المقبلة، تحت واقع اختلاف رؤية كل منها للموقف وتباين الأجندات الداخلية للأطراف الداخلة ضمن كل تحالف، ومؤشرات ذلك ما يلي:
- اعتراض بعض أطراف تحالف “العزم”، على صفقة تولي الحلبوسي رئاسة البرلمان في مقابل تولي خميس الخنجر رئاسة تحالف تقدم والعزم داخل البرلمان، وهو الأمر الذي دفع بعض الأعضاء في تحالف “عزم” إلى انهاء ائتلافهم مع تحالف “عزم” بزعامة خميس الخنجر قبيل انعقاد الجلسة الاولي ، مع تقارب مع قوى قوى الإطار التنسيقي في تأييد ترشيح رئيس البرلمان الأسبق محمود المشهداني للمنصب، الا ان المحاولة باءت بالفشل وفاز الحلبوسي بالمنصب.
- عدم وضوح موقف بعض الكتل المستقلة و المعارضة من الحكومة العراقية المقبلة، علي الرغم من إعلان حركات “امتداد” ولها 9 مقاعد و”إشراقة كانون” ولها 6 مقاعد” و”الجيل الجديد” ولها 9 مقاعد”، عدم مشاركتهم في الحكومة، بينما أعلن تحالف “العراق المستقل” مشاركته، مع تأكيد الأخير أنه سيتحالف مع أي طرف يمنحه الحق في اختيار رئيس الوزراء المقبل.
جـ. انقسام كردي كردي محتمل،حيث يعتبر كثير من المحلليين أن الانقسام داخل المكون الكردي قد يكون المسكوت عنه في تلك المرحلة، في ظل عدم اتفاق الحزبان الكرديان الرئيسيان على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية، حيث يسعى الحزب الديمقراطي الكردستاني للفوز برئاسة الجمهورية في العراق، بعد تقدمه في الانتخابات الأخيرة، إلا أن قياداته لم تتفق بعد على أسم المرشح، بينما يتمسك الاتحاد الوطني الكردستاني بالمنصب، فالخلافات الداخلية في الأخير لا تزال تعيق سواء ترشيح أسماء للمنصب أو للتجديد للرئيس الحالي في ظل التوتر بينه وبين القيادات الجديدة لحزب الاتحاد الوطني. الجدير بالذكر في هذا الخصوص إعلان رئيس البرلمان الجديد محمد الحلبوسي عن فتح باب الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وهي الفترة التي ستمتد لـ15 يوماً، فيما تجري في اليوم الأخير جلسة التصويت على المرشحين، كما يتم انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس.
- توقعات بدور معرقل لقوى الاطار التنسيقي داخل البرلمان. وضح من خلال هذه الجلسة أن قوى الإطار التنسيقي الشيعي قد اختارت لنفسها أن تلعب دور المعرقل للبرلمان، ولكل خطوة سيقوم بها تحالف الأغلبية برئاسة الصدر، سواء من أجل تشكيل الحكومة، أو حتى فيما يتعلق بالدور التشريعي والرقابي المفترض للبرلمان خلال الفترة المقبلة، وذلك بهدف إفشال الصدر، وتصديع التحالفات التي أنشائها مع المكون السني والكردي. حيث أعلن الإطار التنسيقي رفضه لمخرجات جلسة البرلمان العراقي، والتي فاز فيها محمد الحلبوسي برئاسة البرلمان للمرة الثانية، وعدم اعترافه بمخرجات جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه، وجاء هذا عقب اعلان “الإطار التنسيقي” تقديمه طلبًا لرئاسة البرلمان، من أجل اعتماد الإطار ككتلة كبرى.
ثانياً: الاحتمالات القادمة للموقف السياسي:
إنطلاقاً من المشهد السياسي لأعمال الجلسة الأولي في البرلمان العراقي، وما تمخض عنها من تطورات، سبق الإشارة إليها، يظل الموقف السياسي الداخلي في العراق في حالة الغموض والإرتباك، ما يُنبأ باستمرار الأزمة السياسية بنفس مستوياتها المرتفعة بين القوى السياسية المختلفة، وكذلك داخل بعض التكتلات ومنها التكتل الكردي والسني، وذلك في ظل ما يلي:
الاحتمال الأول: دور محتمل للمحكمة الإتحادية في حسم الخلاف الراهن. مع استمرار تمسك القوي السياسية الشيعية بمواقفها المتصلبة حول عدد من الملفات والتي تأتي في مقدمتها، الخلاف حول تسمية “الكتلة الاكبر” التي يحق لها دستورياً ترشيح رئيس جديد للوزراء في العراق، سيظل المجال مفتوحاً أمام خلاف سياسي وقانوني قد يتطلب تدخل جديد من قبل المحكمة الاتحادية، مما ينذر بأزمة سياسية جديدة في ظل الانقسام السياسي إزاء تشكيل الحكومة، حيث أنه وفقا للدستور “أن دور رئيس السن هو أداء اليمين الدستورية للأعضاء المنتخبين وفق المادة (50) من الدستور، وافتتاح الجلسة فقط، مع الاشارة إلى أنه ليس من صلاحية رئيس السن تسلم أو تكليف الكتلة الكبرى، حيث أنه من اختصاص الرئيس المنتخب وفق المادة ذاتها.
الاحتمال الثاني: تشكيل حكومة أغلبية وطنية، وهو أحد الخيارات المتاحة للكتلة الصدرية ، من خلال توسيعها دائرة التحالفات السياسية مع المكونات الأخري سواء السنية أو الكردية، وهو ما يفسر قيام مقتدي الصدر قبيل انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان، بعقد حوارات مكثفة لجمع العدد الكافي من النواب لتشكيل الكتلة الكبرى، لاسيما تحالف “تقدم” (37 مقعد) بزعامة الحلبوسي، والحزبين الكرديين الرئيسيين “الديمقراطي الكردستاني (31 مقعد)، و”الاتحاد الوطني الكردستاني” (17 مقعد) ، من أجل الحصول على الأغلبية المطلقة (النصف زائد واحد من أعضاء البرلمان)، لتسمية رئيس الحكومة. وإن كان الصدر يتحسب لرد فعل قوى الإطار الشيعي، سواء على مستوى الشارع/ الفصائل المسلحة المرتبطة ببعض القوى السياسية الرافضة، أو حتى فيما يتعلق بتسيير جلسات وعمل البرلمان، ولجانه المختلفة، دون إعاقات كبيرة لها من القوى الشيعية الأخرى.
الاحتمال الثالث: تشكيل حكومة توافقية : مع استمرار الإنسداد السياسي وتعمق الأزمة، وتمترس كل طرف بمواقفه، قد يكون المخرج هو خيار التوافق لحلحلة الازمة ، خاصة مع إمكانية أن يحدث تدخل من قبل مرجعية النجف للتقريب بين طرفي الخلاف( قوى الاطار التنسيقي والتيار الصدري) – وجميعهم يندرجون تحت عباءة المكون السياسي الشيعي مع تمايزات في بعض المواقف- ، فضلاً عن عدم إمكانية تجاهل الدور الايراني البارز في هذا الخصوص وهو ما أكده وصول وفد يضم شخصيات دبلوماسية إيرانية، وقيادات من الحرس الثوري الإيراني إلى العاصمة العراقية بغداد قبيل انعقاد الجلسة الأولي للبرلمان، في محاولة لتقريب وجهات النظر بين “التيار الصدري” و”الإطار التنسيقي”، لغرض تشكيل كتلة برلمانية كبرى تجمع الطرفين معاً، وهو ما قد يعزز فرصه تشكيل حكومة توافقية تشارك فيها مختلف القوى السياسية دون تهميش أي طرف.
في التقدير الأخير، أن الجلسة الاولي للبرلمان العراقي قد كشفت بوضوح عن صعوبة المشهد الداخلي الراهن في العراق، والذي يتوقع معه إطالة أمد الأزمة السياسية الحالية، في ظل الإنقسام السياسي داخل المكون الشيعي حول مسألة تشكيل الحكومة القادمة، علاوة على الخلافات المتوقع حدوثها داخل المكون السياسي الكردي والخلاف حول تسمية رئيس الجمهورية، وخلافات أخرى متوقعة داخل المكون السني ، ولا شك أن وضع التأزم وإنسداد الأفق السياسي وتعطيل عملية تشكيل الحكومة، قد يُدخل العراق في نفق الاحتجاجات الشعبية مرة أخري في ظل إنشغال القوي الرئيسية الفائزة في الانتخابات بتوزيع المناصب وتشكيل التحالفات من أجل الحصول علي مكتسبات ومزايا، دون النظر إلى أزمات المجتمع العراقي الحياتية والمعيشية، والتي تتطلب حلولاً اليوم قبل غداً.