منذ خروج القوات الأمريكية من أفغانستان واستعادة طالبان السيطرة على الحكم هناك، رجحت معظم التحليلات المعنية بدراسة الإرهاب والتطرف، أن تشهد الظاهرة الإرهابية في العالم حالة انتعاش جديدة، خاصة مع تخفيف الضغط الأمريكي عن القيادة المركزية لتنظيم القاعدة في أفعانستان، وتوقعت بعض التحليلات أن أصداء أفغانستان قد تصل سوريا والعراق، وتعطي دفعة معنوية كبيرة لقيادات وعناصر داعش هناك، ليستعيدوا نشاطهم بقوة، وربما ليغيروا من استراتيجيهم من الكمون والدفاع والكر والفر نحو استراتيجية الهجوم واستعادة السيطرة على بعض المناطق. لذلك جاء خبر هجوم داعش على أحد السجون السورية في 20 يناير الماضي مفزعاً ومقلقاً للدوائر البحثية، وكذلك للدوائر الأمنية والسياسية ليس فقط في سوريا والعراق، لكن ربما في معظم الدول التي تعاني من الظاهرة الإرهابية الداعشية.
حتى وقت كتابة هذا التقرير، لا تزال أصداء هذا الحدث تتداعى، والأخبار تتوالى سواء من قوات سوريا الديمقراطية ” قسد” التي أعلنت في 31 يناير الماضي انتهاء عملية استعادة السيطرة على سجن الصناعة في الحسكة، وصدور العديد من التصريحات الأمريكية التي تشيد بقوات سوريا الديمقراطية ودورها في استعادة السيطرة على الموقف الأمني في سجن الحسكة، وإحباط أكبر محاولة هروب من نوعها يقوم بها التنظيم، منذ المحاولة التي تمت في 2013 في السجون العراقية.
في هذا السياق يسلط هذا التقرير الضوء على أصداء هذه العملية وتداعياتها المختلفة، وهل يمكن أن يكون لها انعكاسات على بعض الخطوط الاستراتيجية المتحركة في سوريا، خاصة على صعيد العلاقات الأمريكية الكردية، والعلاقات المريكية التركية، ومستقبل داعش في سوريا بعد هذه العملية؟
هجوم الحسكة المفاجىء واستعادة الذاكرة السلبية:
لم يتوقع أحد أن يقوم داعش بعملية نوعية كبيرة كتلك التي قام بها في سجن الصناعة بحي الغويران في الحسكة في 20 يناير الماضي، والذي نجح فيها في البداية في فك أسر ألاف من عناصر وقيادته المتشددة، في سيناريو أقرب لما حدث في 2013 والذي ترتب عليه لاحقاً ظهور ما سمي بالدولة الإسلامية في العراق والشام، والتي سيطرت خلال الفترة من 2014 وحتى 2018 على مساحات واسعة وممتدة من الجغرافيا العراقية والسورية، ومارست خلالها عمليات خارج إطار القانون الدولي، وبعضها جاء محرضاً على الكراهية والعنف والإنتقام غير المبرر، عبر سياسة قطع الرؤؤس وإحراق الأحياء والتنكيل بالنساء والأطفال، وسرقة النفط وغيرها من الممارسات الشاذة التي أساءت بشكل كبير للمسلمين، وشكلت نقطة البداية لإنتشار إقليمي واسع لهذا التنظيم وفروعه في دول ومناطق كثيرة، وبعض فروعه لا تزال نشطه حتى الآن في افريقيا وآسيا وغيرها. إلى أن تم هزيمتها واسقاطها بجهود التحالف الدولي في العراق في 2018، وفي سوريا من خلال معركة الباغوز في 2019 والتي مثلت نقطة النهاية لمشروع الدولة الداعشية في سوريا.
داعش ومحاولة كسر حالة الكمون:
ظل تنظيم داعش في وضع الكمون طوال السنتين الماضيتين، وتحديداً منذ معركة الباغوز في سوريا في 2019، والتي مثلت أخر النقاط التي كان يتحصن فيها التنظيم، لكنه حافظ على نشاط محدود وضربات متفرقة على الأراضي السورية والعراقية، بين الحين والأخر، مستغلاً بعض المناطق الرخوة أمنياً، سواء في سوريا أو العراق. ففي سوريا نشط التنظيم بعمليات تكتيكية خاطفة في مناطق البادية السورية، مستغلاً وجود حاضنة له من بعض العشائر والقبائل في تلك المناطق( خاصة في الحسكة ودير الزور وغيرها) وفي العراق نشط التنظيم في غرب العراق تحديداً ( قضاء سنجار)، مع محاولة الإيحاء بقدرته على الوصول لبعض المناطق والأقضية القريبة من محيط بغداد، وحتى داخل إقليم كردستان في الشمال. مع ذلك ظل التنظيم في وضع دفاعي، مع استمرار الحملات المتكررة من الجيش العراقي وقوة مكافحة الإرهاب، بالتعاون مع القوات الأمريكية وقوات التحالف، وكذلك تعرض التنظيم لاستهدافات متكررة في الداخل سوريا من عدة أطراف، بعضها من القوات السورية التي عملت على محاصرة نشاط التنظيم في الجنوب السوري، من خلال تسويات درعا، وبعضها جاء بشكل مباشر من القوات الروسية، عبر ضربات جوية متكررة من الطيران الروسي، كما واجه داعش سوريا ضربات من قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، بالإضافة لعمليات مواجهة على الأرض من بعض الميلشيات المتحالفة مع النظام السوري.
محاولة فاشلة للعودة:
بعد هذه الفترة الممتدة لثلاث سنوات تقريبا ( 2019-2021)، حاول تنظيم داعش العودة الي التصعيد مرة أخري في الداخل السوري، عبر الهجوم علي سجن في مدينة الحسكة شمال شرق سورية، بعدما تمكن التنظيم من مهاجمة سجن الصناعة (غويران) في حي غويران في 20 يناير الماضي، وهو السجن الذي يُحتجز فيه آلاف من عناصر وقيادات “داعش”، بينهم قادة من الصف الأول للتنظيم. نجح التنظيم في البداية في إخراج العشرات من عناصره من السجن، وقام بقتل والتنكيل بجثث بعض حراس السجن والعاملين بداخله في الخدمات المدنية ( الطهي وغيرها) إلى أن تمكنت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) مدعومة من التحالف الدولي، من استعادة السيطرة على الموقف، واقتحام السجن ومطاردة عناصر من التنظيم الفارين في محيط السجن المدينة، وأعلنت قوات سوريا الديمقراطية مقتل 22 عنصراً من التنظيم الإرهابي خلال تلك المواجهات، حتي أعلنت قوات سوريا الديموقراطية في 31 يناير الماضي عن الانتهاء من تمشيط ما تبقى من جيوب في سجن الصناعة بحي غويران، وأكملت السيطرة على السجن.
هجوم الحسكة.. الدلالات والأبعاد:
علي الرغم من انحسار نشاط تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا، إلا أن الهجوم الأخير لتنظيم داعش علي سجن غويران الذي يضم نحو 3500 سجين من عناصر وقيادات التنظيم في الحسكة، يشير إلى وجود عدد من العوامل وراء هذا التصعيد في هذا التوقيت علي وجه التحديد، وهو ما يمكن استعراضه في النقاط التالية:
ضعف البنية التحتية للسجون وعدم ملائمتها.
في ظل وجود عدد من السجون في المناطق التي يسيطر عليها أكراد سوريا، ويتم احتجاز عدد كبير من عناصر التنظيم فيها، إلا أنها أماكن غير مؤهلة لاحتجاز هذا العدد من العناصر شديدة الخطورة لفترات زمنية طويلة، حيث أنها كانت في الأصل عبارة عن مدارس، وتم استخدامها كسجون.
العناصر النشطة خارج السجون.
حيث أشار تقرير للأمم المتحدة، نُشر في فبراير 2021، إلى أن تنظيم داعش يحافظ على “وجود سري كبير” في العراق وسوريا، مما مكنه من شن عدد من الهجمات على جانبي الحدود بين البلدين، كما أشار التقرير إلى أن التنظيم ما زال يحتفظ بحوالي 10 آلاف مقاتل نشط في العراق وسوريا، وهو ما يفسر قدرة التنظيم في هجوم الحسكة الأخير علي الاستمرار في عملية مجابهة استمرت لمدة عشرة أيام تقريباً رغم محاصرة قوات قسد لهم بدعم جوي ولوجستي امريكي بالأساس.
تحول محتمل في استراتيجية التنظيم.
تشير سلسلة أو مجموع العمليات الأخيرة التي قام بها التنظيم في سوريا خلال الفترة الاخيرة والتي كان أخرها هجوم الحسكة ، والذي يعد الأكبر منذ إعلان القضاء عليه في منطقة شرقي نهر الفرات مطلع عام 2019، إلى تحول إستراتيجية التنظيم من الهجمات المحدودة الخاطفة إلى استراتيجية الهجمات الكبيرة والمباغتة والسريعة على المواقع العسكرية، والسجون.
تغيرات في تكتيك الهجمات.
في ظل عدم قدرة التنظيم – رغم محاولة استعاده صفوفه وقوته- على السيطرة الجغرافية علي أماكن بعينها، سواء في سوريا أو العراق على غرار ما حدث في عامي 2014 و2015 ، إلا أن التوقعات تشير لإستمرار العمليات الخاطفة ضد القوات الأمنية خلال الفترة القادمة، خاصة في المناطق الرخوة أمنياً سواء في البادية السورية أو في صحراء الأنبار في العراق.
تصعيد الهجمات في الداخل السوري.
من المتوقع أن تتزايد وتيرة هجمات تنظيم داعش في سوريا، خاصة في ظل رغبة التنظيم في الحصول على إمداد وذخائر وأسلحة وكذلك كسب العنصر البشري، وذلك لتمويل عمليات أخرى متوقعه خلال الفترة القادمة.
محاولة استعادة عناصر التنظيم من السجون.
إن كان هدف “داعش” من وراء العملية تحرير سجنائه ومحتجزيه من السجن، ليكون لديه العامل البشري الكافي لتحقيق التوسع والتمدد الجغرافي، فإن أنباء هروب بعض القادة والعناصر توحي بأن التنظيم قد حقق جزءاً مقبولاً من أهدافه من العملية الأخيرة.
احتمالية وجود دعم محلي للتنظيم.
حيث أن استراتيجية قوات سوريا الديموقراطية في تلك المنطقة يشوبها العديد من الثغرات الأمنية التي سمحت بوقوع هذا الحدث، لاسيما وأن طبيعة تلك المنطقة الجغرافية تحمل العديد من الأزمات الداخلية وهو ما عجزت عن التعامل معه قوات قسد، هذا بالاضافة الي توجيه بعض الأطراف الاتهامات بوجود أطراف داخلية ساعدت التنظيم في تلك العملية، حيث أنه من الصعب اختراق التحصينات الأمنية في مدينة الحسكة والوصول إلى بوابات السجن وتفجير سيارتين مفخختين، من دون وجود أطراف مساعدة للتنظيم في الداخل، وهو يفتح المجال لطرح المزيد من التساؤلات أمام “قسد”، حول الثغرات الأمنية التي أدت إلى هذا الاختراق، بالرغم من الإمكانات التي استخدمتها “قسد”، بدعم أميركي لمواجهته، هذا بالاضافة الي اشارة بعض المصادر الاعلامية عن فرار عدد من عناصر وقادة “داعش”، الذين كانوا محتجزين داخل سجن الصناعة باتجاه البادية السورية، والحدود العراقية – السورية، وهو ما يثير حول مصير الفارين، وإمكانية تحركهم في المرحلة المقبلة لشن عمليات أخرى على غرار غويران.
ختاماً،
تشير أحداث الحسكة في سوريا إلى أن تنظيم داعش لا يزال يشكل خطر محتمل، وهناك فرص متاحة ونقاط ضعف كثيرة على الساحة السورية يمكن استغلالها، من أجل إعادة تنظيم داعش لترتيب صفوفه وتنشيط الخلايا النائمة من أجل استعادة مكانة التنظيم مرة أخري، وإن كان عودة التنظيم لحالة السيطرة الجغرافية كما حدث في 2014 تظل مستبعدة في ظل الإنتشار العسكري الروسي والإيراني والتركي بالإضافة للإنتشار الأمريكي في سوريا، ونجاح النظام السوري في استعادة السيطرة على بعض المناطق التي ظلت لسنوات خارج سيطرته سواء في الجنوب أو في شرق الفرات بالقرب من الحدود مع العراق. مع ذلك ستظل داعش لعبة وورقة سهلة الاستخدام من أي من الأطراف المتصارعة على الساحة الإقليمية، في حال تعارضت الأجندات بصورة كبيرة. ونعتقد أن مزيداً من الضغط الأمريكي والروسي على الوجود الايراني في سوريا، أو على الوجود التركي في الشمال السوري قد يجعل التحالف مع داعش كورقة رابحة من جانب أنقره وطهران أمراً ممكناً، ضمن لُعبة باتت معروفة للجميع.