الخسائر الإستراتيجية لروسيا من حرب أوكرانيا
بعد خمسة أيام من الحرب على أوكرانيا: تقدير لحجم الخسائر الاستراتيجية لروسيا
قد يكون من المبكر جدا تقدير مكاسب وخسائر الحرب المشتعلة منذ أيام في أوكرانيا، فالحرب لا تزال في بداياتها، وغير معروف حتى الآن متي وأين وكيف ستتوقف، وما هي نتائجها الأخيرة على المستوى الاستراتيجي، سواء فيما يتعلق بأطراف هذا الصراع، المباشرة أو الأطراف التي قد تستفيد أو قد تتضرر من نتائج هذا الصراع . مع ذلك ومن خلال قراءة سريعة للموقف الراهن ( بعد خمسة أيام من الحرب فقط)، ومن خلال تحليل لمجمل التطورات التي حصلت في المواقف المختلفة ندرك أن روسيا باعتبارها الطرف الذي بدأ بالحرب- ورغم ما يبدو من مكاسب تكتيكية حتى الآن، فيما يتعلق بسير العمليات الحربية، وقدرات السيادة والسيطرة البحرية والجوية على مسرح العمليات، وربما أداء الدبلوماسية الروسية في إدارة الأزمة داخلياً وخارجياً- قد بدأ في التعرض لبعض الخسائر الثقيلة على المستوى الاستراتيجي، وهو ما سنسعى لتسليط الضوء عليه في هذا التقييم الاستراتيجي الذي يصدره مركز جسور للدراسات الاستراتيجية، ضمن متابعته المستمرة لهذا الملف، الذي نعتقد أنه سيشكل علامة فارقة في مسار النظام الدولي الراهن، وسيكون له تداعيات كثيرة آنية ومستقبلية ليس فقط على المسرح الأوروبي، لكن قد تصل تبعاته لمسارح دولية وإقليمية أخرى.
أهداف الحرب الاستراتيجة:
لكل حرب أهدافها الاستراتيجية، والتي ربما لا يُفصح عنها بالكامل ، وتظل محصورة في نطاقات ضيقة، لدى دوائر القيادة العليا للدولة، ويظل تحقيق الهدف الاستراتيجي للحرب ، سواء كانت حرب هجومية أو دفاعية، هي المعيار الذي نقيس به حجم الانتصار أو تقدير درجة الهزيمة نفسها . وقد تختلف الأهداف المعلنة عن الأهداف الحقيقية، التي تضعها القيادة الاستراتيجية للدولة، اتساقاً مع قدراتها ورؤيتها لفرص التحقق والتكلفة الخاصة بتحقيق هذه الأهداف.
أهداف الحرب المعلنة: من واقع تحليل خطاب الحرب الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجر الخميس الماضي ( 24 فبراير 2022) نجد أن بوتين حدد هدفين واسعين للعملية العسكرية، أولهما نزع سلاح أوكرانيا وتقويض قدراتها العسكرية، والثاني محاسبة «النازيين» الذين استهدفوا المدنيين ومنهم الروس خلال السنوات الثماني الماضية.
الأهداف التكتيكية المطلوبة للوصول لهذه الأهداف المعلنة : من الواضح أن روسيا ومن أجل الوصول للهدفين الاستراتيجين السابق تحديدهم من جانب الرئيس بوتين، تحتاج لتقويض البنى التحتية العسكرية الأوكرانية تماماً، وتقليص فرص أوكرانيا لبناء قدراتها مجدداً لسنوات مقبلة، وهي أهداف لا يمكن ضمان تحقيقها – ولو بنسب متوسطة- ، دون تنفيذ عملية احتلال كامل ومستمر لأوكرانيا لسنوات قادمة، وبفرض أن الناتو وواشنطن وأصدقاء أوكرانيا سيرضون ” صاغربن” بهذا الوضع . مع الوضع في الإعتبار عوامل أخرى قد تحول دون الوصول لهذه الأهداف، منها على سبيل المثال موقف الداخل الروسي من الحرب، والذي قد يتغير مستقبلاً ، في حال طال أمد هذه الحرب، وتعرض الجيش الروسي لخسائر بشرية مؤثرة، أو كانت للعقوبات الغربية على روسيا مردود سلبي على الوضع المعيشي للروس، مما قد يشكل مواقف سياسية ضاغطة على صانع القرار الروسي، باتجاه وقف الحرب في أي وقت، دون استكمال أهدافها الموضوعة سلفاً. وهنا يمكن الحديث عن الخسائر وتقدير نتائجها.
أهداف الحرب من واقع سياقات الأزمة: من واقع تحليل الخطاب السياسي الروسي بالكامل قبل وأثناء هذه الأزمة ، يمكن أن نقول أن روسيا دخلت هذه الحرب لتحقيق عدة أهداف استراتيجية أهمها ما يلي:
- تحييد أوكرانيا من الناحية الجيوسياسية والعسكرية عن محور صراعها المرسوم مع الولايات المتحدة والناتو.
- تعزيز موقفها التفاوضي مع الغرب بشأن الترتيبات الأمنية في شرق أوروبا، فيما يتعلق بإدارة ملفات الخلاف المعروفة والتي تدور معظمها حول النشاط التوسعي لحلف الناتو في الدوائر الحيوية الروسية ( او ما يسمى بالمجال الاستراتيجي لروسيا) والتي تشمل عدة دول على رأسها دول البلطيق الثلاث.
- إقناع وتشجيع دول أخرى ( الصين) على مزيد من التحدي لوضع الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، بما يساعد مستقبلاً على القبول بعالم متعدد الأقطاب أو ثلاثي القطب على الأقل ( أمريكا- روسيا – الصين).
- رسالة ردع قوية لدول الإتحاد السوفيتي السابق، من مٍسألة تطوير علاقات قوية مع الغرب خاصة في الجانب العسكري والأمني.
- استعادة مكانة روسيا في النظام الدولي الجديد، والتدشين لحقبة جديدة، تعترف فيها جميع القوى الكبرى بالمصالح الروسية إقليمياً ودولياً.
لا شك أن هذه الأهداف الخمسة ليست سهلة التحقق، فالغرب يقاوم بشدة هذه الأهداف ، ونعتقد أنه سيستغل الأزمة الأوكرانية لعكس مسار هذه الأهداف ، بصورة أو بأخرى، من خلال محاولة استنزاف روسيا اقتصادياً وعسكريا وسياسياً. وقد وضح ذلك من ردة فعل الناتو على العملية العسكرية ، من خلال حزم العقوبات المختلفة، والتي طالت قطاعات مؤثرة بالفعل في الاقتصاد الروسي، أهمها الطاقة، علاوة على ما أظهره من موقف سياسي موحد ( على عكس ما راهنت عليه القيادة الروسية) للناتو في مواجهة روسيا. وهو ما يعني أن روسيا قد تتكلف خسائر على المستوى الاستراتيجي، قد يكون تقدير حجمها أكبر بكثير من حجم الأهداف الخاصة بالسيطرة على أوكرانيا وتحييدها.
تقدير الخسائر الاستراتيجية الروسية:
كما قلنا من قبل ، فأنه قد يكون من المبكر الحكم على نتائج الحرب من الناحية الاستراتيجية، خاصة أن الحرب ما تزال دائرة ، والأحداث تتفاعل وتتطور كل ساعة ، وربما نشهد تطورات في مواقف دول خلال الأيام القادمة. لكن بشكل عام يمكن القول أنه حتى وقت كتابة هذه السطور، فإن روسيا قد خسرت بشكل ملموس ويمكن قياسه ما يلي:
-
الخسارة المعنوية بعد العدوان:
بمعنى التأييد أو على الأقل التعاطف الدولي معها قبل الحرب، فلا شك أن هناك دول كثيرة حول العالم كانت تتعاطف على الأقل مع الموقف الروسي قبل الحرب، على أساس أن الغرب والناتو تحديداً لم يلتزم بتعهداته تجاه روسيا الخاصة بتوسع الحلف شرقاً، علاوة على تدخله في محاولات تغيير بعض الأنظمة السياسية في الدول القريبة والمهمة لروسيا ( أوكرانيا 2014/ كازاخستان 2022)، ومحاولة تقويض العلاقات الروسية في دول يمكن اعتبار انها كانت حليفة لروسيا أو قريبة منها مثل سوريا والعراق وليبيا وغيرها. ولعل خطاب بوتين لإعلان الحرب على أوكرانيا، قد أشار صراحة لهذه المظالم، والتي تحدثت عن مخططات تدمير دول وتشريد شعوب، لصالح تحقيق أجندة أمريكية وغربية، دون الإكتراث لكثير من الإعتبارات، ومنها الإنسانية. إن الشكل الحالي للعملية العسكرية، والتي اتخذت فيها روسيا من ناحية القانون الدولي وضع المعتدي، قد أفقدها فرص الدعم السياسي أو حتى المعنوي من بعض أصدقائها ( ربما خريطة تصويت الدول في مجلس الأمن على مشروع قرار إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا خير دليل على ذلك)، فلا تجرؤ أي دولة حاليا، حتى الصين أقرب الحلفاء للروس على إعلان تأييد صريح للموقف الروسي، لكونه سيشكل سابقة في العلاقات الدولية، وتخشى الدول من ان تستغل ضدها مستقبلاً ( موقف سياسي لا يتسق مع ميثاق الأمم المتحدة) . دوما ما كانت موسكو تحذر كييف من الإعتداء على شرق أوكرانيا، وربما الخطة الموضوعة للحرب كانت استفزاز حكومة كييف لتنفيذ هجمات على شرق أوكرانيا ( قرار الاعتراف بجمهوريتي دونتيسك ولوغانستك) ، لخلق ذريعة مشروعة للتدخل، بحجة حماية السكان الروس في الدونباس، علاوة على الاستناد لطلبات تدخل رسمية من حكومات جمهوريتي دونتيستك ولوغانسك. ولا نعلم حتى الآن ما هي الأسباب التي دفعت روسيا للحرب بهذا البشكل، وهل كانت روسيا قد عدلت من خطة الحرب( من حصرها في الشرق الأوكراني فقط) إلى تنفيذ عملية غزو شامل لأوكرانيا وإسقاط نظام الحكم فيها. المعلومات لا تساعدنا في فهم هذا الجانب حتى الآن، وربما كانت هذه هي نية بوتين منذ البداية وحاول التموية والخداع، كما كانت تصر المصادر الاستخباراتية البريطانية والأمريكية على الإشارة له والتحذير منه قبل انطلاق العملية العسكرية. ومع التركيز العالمي في وسائل الإعلام على الجوانب الإنسانية للحرب( صور الضحايا/ صور التدمير للمباني والمنشأت/ صور المهاجرين والنازحين من الحرب/ بث تقارير ” غير موثقة” عن أعداد القتلى في الجيش الروسي والأوكراني….. الخ) ربما ستساهم في سحب ما يمكن أن نسميه بالتعاطف الشعبي في بعض الدول التي طالما عانت من التدخلات الغربية في شئونها، وتصوير بوتين على انه النازي الجديد في أوروبا، من شأنه التأثير على الصورة المعنوية للروس وحضورهم العالمي.
-
خسارة ألمانيا:
لم يتوقف الأمر عند ضياع التكاليف الباهظة التي تكلفها مشروع نورد ستريم 2 ، وضياع كل الجهود التي بذلت من أجل تدشينه، والذي كان سيحقق لروسيا أهداف بعيدة الأجل، فالمشروع لم يكن اقتصادي فقط كما هو يشاع، لكنه كان سيكون بمثابة بوابة استعادة التأثير الروسي على القرار الأوروبي . ويبدو أن هذا الهدف كان يحظي بأولوية كبيرة لدى دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وحاولوا من قبل الضغط على ألمانيا لإيقاف المشروع، لكن إدارة ميركل رفضت الإنصياع للضغوط، وجاءت الحرب على أوكرانيا لتمثل فرصة كبيرة لواشنطن لتحقيق هدف كان صعب تحققه، دون إشعال هذه الحرب. لقد اتخذت حكومة المستشار الألماني شولتز عدة قرارات حتى الآن تشير إلى أن روسيا خسرت خسارة فادحة من الناحية الاستراتيجية، فقرار وقف مشروع خط أنابيب الطاقة، وقرار إغلاق المجال الجوي لألمانيا أمام الطائرات الروسية لمدة ثلاثة أشهر، وقرار إرسال أسلحة ألمانية لأوكرانيا، بعد ان كانت من أكثر الدول الوروربية اعتراضا على هذا الأمر ، وصعود النزعة القومية مرة أخرى في ألمانيا ( تحليل لغة الخطاب وتحليل عناصر الصورة والتصفيق الحاد والمتكرر لخطاب شولتز في البوندستاج) الذي أعلن فيه أن ألمانيا ستستثمر مئة مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام وستخصص أكثر من 2% من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنوياً. وأنها ستؤسس صندوقا خاصا لـلجيش الألماني لاستخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع، وأن ألمانيا من الآن فصاعدا — العام تلو الآخر — سنستثمر أكثر من 2 بالمئة من إجمالي الناتج الداخلي في الدفاع»، مشيرا إلى ضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور. ما يعني أن هناك تغيرات داخلية في ألمانيا باتجاه تغيير الوضع الاستراتيجي للألمانيا والذي تأسس منذ الحرب العالمية الثانية وحقبة الحرب الباردة.
وختاما، نؤكد أن الحرب الروسية على أوكرانيا، لا تزال في بداياتها، وبغض النظر عن الآلية والتوقيت الذي ستنتهي به الحرب، إلا أنها سترتب مكاسب وخسائر لبعض أطراف هذه الأزمة، وقد تمتد تداعياتها بعيداً عن المسرح الأوروبي، فالصين لا شك تترقب ردة الفعل الدولية على الخطوة الروسية تجاه أوكرانيا، فلديها قضية مشابهة وهي قضية تايوان، وفي حال نجحت روسيافي تنفيذ كامل أهدافها الاستراتيجية والتكتيكية في أوكرانيا، دون خسائر كبيرة، قد يشجع ذلك بكين على اٌدام مستقبلاً لتنفيذ عملية مماثلة. كما أن مسرح أحداث الشرق الأوسط ليس بعيداً عن هذه الحسابات الاستراتيجية، وهو ما سنفرد له تباعاً تحليلات استشرافية مستقلة. فالعالم اليوم ليس أمام حرب عادية أو محدودة، حتى لو كانت حرب خاطفة كما يشيع بعض المحللين العسكريين، فبغض النظر عن كل ذلك فإن الحرب الروسية على أوكرانيا هي حرب مصير ليس لأوكرانيا وحدها، بل ربما لدول أخرى في أوروبا، وكذلك للنظام العالمي الراهن.