بقلم / مصطفي الطبجي .. باحث في التاريخ السياسي
إذا كنت عزيزي القارئ تبحث في هذا المقال عن إجابة وافية لتساؤلك، فأنا أطلب منك بداية الاسترخاء والصبر، إنها أشبه بقطع الأحجية تجميعها يتطلب صبرا ومرونة مع قدر من التوقع كي تكتمل الصورة بشكل صحيح.
الأحجية (1)
انتهت الحرب العالمية الثانية معلنة عن انطفاء نظام عالمي ضم قطبي فرنسا وبريطانيا، وبدأت الحرب الباردة بين القطبين الجديدين، الاتحاد السوفيتي وأمريكا ومحاولة كل منهما للسيطرة وبسط النفوذ، ومن أجل ذلك الهدف تكونت التحالفات.
الحلف الأشهر الذي تشكل هو “حلف الناتو” بهدف منع توسع الاتحاد السوفيتي في القارة الأوربية، وإن كان الأشهر لكنه لم يكن الوحيد، بل حاولت أمريكا تشكيل حلف ثلاثي بين مصر وتركيا وباكستان، ولفشله عملت بريطانيا على تكوين “حلف بغداد”، وبعد انهياره تكون “الرمح الثلاثي”.
الأحجية (2)
جاء عام 1991 حاملا معه عصا وجزرة، انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف “وارسو”، ولحقهما تفكك آخر المعاقل الشرقية… دولة يوغوسلافيا، ومن ثم انضمت الدول الجديدة لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي تباعا.
ظاهريا الأمر يعد انتصارا للمعسكر الغربي وترسيخا لنظام القطب الواحد، لكن لن يصبح القطب قطبا إلا بوجود المنافس، إلا بوجود معركة ما، إلا بوجود قضية ما يحارب من أجلها الجميع، عدو يلزمهم بضرورة البقاء تحت عباءة الناتو، ليأتي العدو هذه المرة رافعا الرايات السوداء.
الأحجية (3)
تنظيم القاعدة الذي ظهر في أفغانستان بادئ الأمر لمحارية الغزو السوفيتي لم يعد خفيا أنه صنيعة أمريكية، ولنفس السبب… بعد انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان بحث التنظيم عن عدو جديد، فما كان من إلا محاربة الدول العربية وأمريكا بهدف التطبيق المزعوم لشرع الله.
هنا ظهرت الرايات السمراء البديلة عن رايات الاتحاد السوفيتي الحمراء، ومن بعد غزو العراق عام 2003 ظهر التنظيم الأكثر شراسة في منطقة الشرق الأوسط، تنظيم داعش الإرهابي الذي استفحل وانتشر في عدة بلاد عربية خاصة بعد عام 2011… إلا أنه اختفى فجأة.
الأحجية (4)
التنظيم لم يختفي من منطقة الشرق الأوسط فقط، اللهم بعض التشكيلات القليلة هنا وهناك، لكن ذلك التنظيم الذي كان يقتحم مدنا ويسقط أنظمة وينفذ عمليات انتحارية كل ليلة وضحاها لم يعد موجودا، لم يعد مؤثرا.
لذا يأتي السؤال… أين اختفى رجال التنظيم؟! هم لم يتبوا… هم لم يغيروا عقيدتهم بسهولة… هم لم يُقتلوا… لم تتوقف عمليات التمويل المشبوهة… كيف يختفي تنظيم بهذه السهولة؟ّ! ببساطة لم يختفوا لكن طبقا لتصريحات الأمم المتحدة انتقلوا لشرق ووسط أفريقيا.
الأحجية (5)
ثروات هائلة تزخر بها أفريقيا تجعلها مستقبل الطاقة العالمية ومحور صراع القوى الدولية، فبناء على تقارير متفرقة، تملك القارة نحو 75 بليون برميل من احتياطي النفط، و9% من الاحتياطيات العالمية لهذا المورد الحيوي، كذلك تمتلك القارة 477 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز.
هذا ليس كل شيء، فالقارة الأكثر فقرا تمتلك 95% من احتياطي العالم من الغاز، 40% من احتياطي العالم من الذهب، 40% من احتياطي العالم من النحاس، و90% من احتياطي العالم من البلاتين، و30% من احتياطي العالم من اليورانيوم.
الأحجية (6)
تحتل الحرب الروسية الأوكرانية صدارة الأخبار العالمية، وتحتل قدرة حلف الناتو على التصدي عسكريا للدب الروسي ذيل قائمة القدرة، وفي ظني كان هذا أحد الأهداف الخفية للدولة الروسية التي نهضت من سباتها الطويل.
لأول مرة يظهر حلف الناتو ضعيفا واهنا لا حول له ولا قوة، منهيا الأسطورة التي نسجها حول نفسه، في الوقت الذي دخلت فيه روسيا الحرب منفردة بلا حليف متعلمة من تجاربها السابقة في الحروب المختلفة.
الأحجية (7)
شهدت دول أفريقية مثل مالي، السودان، غينيا، غينيا بيساو، بوركينا فاسو، وتشاد انقلابات عسكرية، ويتضح أن القاسم المشترك بين موجات الانقلابات التي عصفت بهذه البلدان كان أن معظم القادة العسكريين الذين قاموا بتدبيرها قد حصلوا على تدريب عسكري برعاية روسيا.
هنا تنتهي الأحجية، وبهدوء نبدأ عملية التجميع لتكوين الصورة النهائية، أو بمعنى آخر لفهم ترابط الأحداث كي نعرف السبب أو الهدف الحقيقي، ببساطة الهدف يمكن اختزاله في جملة واحدة، “عودة استعمار أفريقيا للسيطرة على الموارد الطبيعية بها”.
من ناحية روسيا تسعى لإيجاد موطئ قدم لها في أفريقيا عن طريق إبراز نفسها كوسيط أمني يدافع عن أفريقيا بديلا عن الدول الغربية، وهو الوضع الذي لن يقبله قطب العالم الأوحد ومن وراءه حلف الناتو، لذا تحت اسم محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية تبدأ قوات حفظ السلام الانتشار في أفريقيا.
لذا… كان لابد من إيقاف الزحف الروسي في أفريقيا، يجب على الدب الروسي أن ينشغل بفريسة أخرى تستنزف قواه ولو بشكل مؤقت، أوكرانيا تحت رئاسة فقيرة سياسيا استحقت بجدارة لقب “الفريسة” التي شغلت الدب الروسي، قدمتها الدول الغربية كقربان عن طيب خاطر.
كلا المعسكرين الشرقي والغربي لا يبحثان عن آمان الدول الأفريقية ولا يهتمان بمستقبلها، كلاهما يريد عودة الاستعمار مجددا تحت شعارات مختلفة، كلاهما يخلق العدو في القارة ليوجد مبررا لتواجده العسكري بها، الأول من خلال الانقلابات العسكرية والثاني من خلال الجماعات الإرهابية، وكما كانت أفريقيا منذ عهد قريب مصدرا للعبيد، كلا المعسكرين يريدها مصدرا للمواد الخام والثروات الطبيعية تحت وطأة استعمار جديد.