“هي البلد رايحة على فين؟!”
سؤال أوجد له موضع قدم في أي تجمع، سواء كان تجمع عائلي في إحدى الأمسيات الرمضانية، أو تجمع لأصدقاء على أحد المقاهي الشعبية، أو لقاء في مؤتمر يتناول قضية ما، أو زملاء في العمل يملئون وقت فراغهم بأسئلة وجودية.
السؤال تأثر هو الآخر بالتقدم التكنولوجي وأوجد له مساحة جيدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا يكتب رأيه تعقيبا على أحد المسلسلات، لتأتي التعليقات حاملة السؤال بصيغة مختلفة، وذاك يتحدث عن أداء المنتخب القومي لكرة الماء، فبدون أي سبب يظهر السؤال رافعا رأسه باحثا عن إجابة.
حتى نجيب على السؤال بشكل لائق وصحيح يجب علينا أولا معرفة ماذا نريد؟!
في رحلة البحث عن إجابة شافية لسؤال “ماذا نريد؟!” شابت الولدان، ووقف الاقتصاد ينظر بتعجب غير متفهم لتلك الأمنيات المتناقضة، الأمر أشبه بقبطان سفينة يطلب منه الذهاب شرقا وغربا في نفس ذات الوقت، والأدهى.. يطلب منه الوصول بلا تأخير.
تتمحور إجابات “ماذا نريد؟!” حول مدرستين مختلفتين تماما
المدرسة الأولى:
– الحكومة ملزمة أن تتكفل بتعيين كافة خريجي الجامعات المصرية، هم لم يلتحقوا بالتعليم العالي كي يفترشوا المقاهي بعد ذلك
– على الحكومة السيطرة على الأسعار ومراقبتها ومنع ارتفاعها، حتى لا يتأثر المواطن البسيط
– مصانع وشركات وطنية تنافس القطاع الخاص لمنع الاحتكار
– خفض سعر الصرف أمام الدولار حتى تنخفض أسعار أغلب السلع خاصة السلع الغذائية
– دعم الخدمات التي تقدمها الدولة مثل الوقود والكهرباء والتموين والغاز والمياه
أما المدرسة الثانية:
– فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي وتسهيل كافة العقبات الروتينية
– عدم التضييق على القطاع الخاص وخروج بعض المؤسسات الحكومية من الصورة
– الحرية المطلقة لكل وسائل الإعلام وعدم سيطرة مؤسسات الدولة عليها
– اقتصاد حر والمنافسة العادلة
بداية من حق المواطن مطالبة الحكومة بحياة آدمية تليق به قبل أي سبب آخر، الحق في الحياة الكريمة لا يختلف عليه عاقل ولا يغفله محب ولا ينكره راشد، والمشكلة ليست فيما يطلبه المواطنون لكن المشكلة في كيفية تحقيق ما يطلبونه.
فالمدرسة الأولى تعني تبني الدولة للنظام الاشتراكي الذي تسيطر فيه الدولة على كل الآليات الاقتصادية لتوفير حياة آدمية كريمة، أما المدرسة الثانية فتعني تبني الدولة للنظام الرأسمالي والاقتصاد الحر القائم على المنافسة العادلة.
نحن هنا لسنا بصدد تذكية مدرسة على أخرى، لكنها دعوة لتحديد المسار خوفا من تخبط قبطان السفينة الذي يطلب منه الذهاب شرقا وغربا في آن واحد، فإما سيظل واقفا مكانه بلا حراك أو تتفسخ منه السفينة ظنا منه بأنها الطريقة الوحيدة لإرضاء الطرفين.
من الخطأ لوم أي مواطن على هذا الخلط، من الجنون لوم المواطن على ذلك التخبط، من البداية لم يهتم أحد بتوعيته فأتت النهاية بما لا تشتهي السفن، في نفس الوقت من الجرم عدم توعية المواطن والسكوت عن توضيح القاعدة الأساسية في الاقتصاد… لن يختلط الزيت بالماء.
نعم عزيزي القارئ… شئت أم أبيت، لا يمكن تطبيق المدرسة الاشتراكية والرأسمالية في وقت واحد، لا يمكن الجمع بينهما، لا توجد آلية للخلط بينهما، حتى وإن كانت كلا المدرستين تهدفان لتوفير حياة آدمية للمواطن كل على طريقتها، وهو ببساطة يعني أن المطالب لن تتحقق جميعها.
المنطقة الوحيدة الساخنة التي تشهد علاقة آثمة بين الاشتراكية والرأسمالية هم رجال الأعمال أنفسهم، تجدهم ليل نهار في كل وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي الفعاليات المختلفة يتحدثون عن الرأسمالية وحتمية خلق مناخ آمن للاستثمار، وإتاحة الفرصة للمنافسة العادلة ملمحين لرغبتهم في ابتعاد مؤسسات الدولة عن الصناعات التي يسيطرون عليها أو السلع التي يحتكرون استيرادها.
في نفس الوقت وفي الغرف المغلقة يطالبون الدولة بالتعامل معهم على أساس اشتراكي، فالخدمات يجب أن تتوفر لهم وحدهم، والمزايا لابد وأن تشملهم برعايتها، والدعم من المهم أن يطالهم حتى يمكنهم الاستمرار في العطاء، ذلك العطاء الذي لا يصل أبدا للعاملين في القطاع الخاص.
الآن وبعد أن عرفنا وأدركنا “ماذا نريد؟!”، وأوضحنا أنه من الخطأ المطالبة بنظام اشتراكي ورأسمالي في آن واحد لاستحالة تطبيقه، وفهمنا الاستراتيجية التي يتحرك بها رجال الأعمال، بات من الواضح أين تتجه الدولة.
الدولة تتجه للرأسمالية من خلال توفير كافة مقومات الاستثمار الحقيقي، بدأتها مع إعادة بناء بنية تحتية لائقة تشمل طرق وكهرباء ومياه وقانون وأمن، وخفض الدعم تدريجيا عن الخدمات المقدمة، وفي نفس الوقت تحاول توفير بعض الأمان الاجتماعي للفئات الأكثر تضررا.
طريق طويل وصعب تملئه العقبات الاقتصادية الداخلية والخارجية إلا إنه للأسف الطريق الوحيد كي نتحول من شبه دولة إلى دولة تمتد جذورها إلى 7000 سنة حضارة اختفت في ظروف غامضة بسبب سياسات خاطئة.