بقلم منى سعيد.. باحثة في العلوم السياسية
وجدت الدول العربية نفسها أمام تحدٍ كبيرٍ لحماية أمنها القومي بعد نشوب الحرب الروسية_ الأوكرانية، حيث تتقاسم جغرافيا الشرق الأوسط بشكل عام نفس المصير الأوروبي في ظل النظام العالمي الراهن وتشابك كافة المستويات السياسية والاقتصادية وحركة التجارة وتدفق السلع والموارد. ومع العولمة التي أصبح فيها العالم بمثابة سوق واحد كبير أزيلت فيه كل الحواجز والحدود بين الدول والمجتمعات. وعلى الرغم من بعد المسافة الجغرافية لروسيا وأوكرانيا “دولتي الحرب” عن المنطقة العربية إلا للحرب انعكاسات وتداعيات وخيمة على المنطقة وبالأخص فيما يتعلق بالإمدادات الغذائية، نظرًا لتمتع روسيا وأوكرانيا بثقل دولي في إنتاج الحبوب الغذائية الأساسية وخاصة “القمح، الشعير، الذرة، زيوت الطعام”، حيث وُصفت الدولتين بــــــ “سلة الغذاء العالمي”. وتحتل روسيا الصدارة في تصدير القمح والذرة للعالم، بينما تستحوذ أوكرانيا على المرتبة الرابعة ضمن أكبر مصدري القمح والذرة الصفراء على المستوى العالمي. ففي عام 2020م بلغت صادرات الدولتين من القمح المتاح للتجارة العالمية 30%، وصدرت أوكرانيا وحدها 17% من الذرة والشعير المتاح للتجارة العالمية، وفيما يخص المنطقة العربية بلغت شحنات القمح والذرة الأوكراني 40%، وتعتبر روسيا المصدر التاريخي للقمح للدول العربية وعلى رأسها مصر.
تسببت الحرب منذ اندلاعها على الأراضي الأوكرانية في حدوث تداعيات عدة على منطقة الشرق الأوسط وبالأخص المنطقة العربية، وأحدثت أزمة غذائية بالمنطقة، مما أثر على الجانب الحيوي والاستراتيجي للاقتصاد العربي. فقد ارتفعت واردات الحبوب الغذائية والتي لها تأثير مباشر على الأمن الغذائي العربي بسبب اعتماد دول المنطقة بشكل كبير وأساسي على روسيا وأوكرانيا لتلبية احتياجاتها من الموارد الغذائية وتحديدًا “القمح”، فضلًا عن استيراد البروتين من اللحوم والدواجن والبيض من أوكرانيا. وأظهرت عدة بيانات مدى اعتماد الدول العربية على ورادات القمح من روسيا وأوكرانيا والتي بلغت نحو 13,165 ألف طن من القمح من روسيا “بقيمة 2,847 مليون دولارأمريكي” ونحو 7,598 ألف طن من أوكرانيا “بقيمة 1,527 مليون دولار أمريكي” عام 2020. وقد بلغ إجمالي تكلفة استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا إلى المنطقة العربيةنحو 4,374 مليون دولار، وبلغت صادرات القمح الروسي للوطن العربي 35.3% من إجمالي الصادرات الروسية من القمح، بينما بلغت صادرات القمح الأوكراني للوطن العربي 42.1% من إجمالي الصادرات الأوكرانية من القمح.
تلجأ الدول العربية إلى استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا “مناشئ البحر الأسود” لعدة أسباب، يتجلى أهمها في: انخفاض أسعار القمح المستورد من الدولتين نتيجة لانخفاض جودته مقارنة بالقمح الأمريكي والكندي بنحو 50: 100 دولار أمريكي للطن الواحد، فضلًا عن زيادة المحتوى الرطوبي والإصابة بالفطريات والحشرات وانخفاض نسبة البروتين.
تداعيات الحرب الروسية_ الأوكرانية على أزمة الغذاء العربي
ألقت الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا بظلالها على موقف الغذاء العربي من حيث الكميات والأسعار، مما شكل تداعيات عدة على حياة المواطن العربي بداية من مصر ولبنان مرورًا باليمن وصولًا بدول المغرب العربي، ويتجلى تأثير هذه الحرب الدائرة بشكل واضح وأساسي على رغيف الخبز العربي، حيث تعتمد المنطقة العربية في خبزها اليومي على ورادتها من القمح الروسي والأوكراني وتختلف نسبة هذه الواردات من دولة عربية لأخرى. ووفقًا للحالة المصرية تتراوح الواردات من القمح الروسي والأوكراني في المتوسط من 30% كحد أدنى و70% كحد أقصى، بينما تمثل احتياجات السودان من هذه الواردات 60% وتشكل ورادتها من روسيا لوحدها 46%، ثم الحالة اليمنية التي تعتمد على القمح الروسي بنسبة 31% بينما تبلغ احتياجاتها من القمح الأوكراني 6.8%، وتشكل احتياجات لبنان 28% بينما تبلغ احتياجات العراق 30%. وتحصل الدول العربية على ما يقرب من 25% من صادرات القمح العالمية وتعتمد على الواردات الروسية_ الأوكرانية بشكل أساسي من حيث القمح بالإضافة إلى موارد غذائية وبروتينية أخرى كما هي الحالة الخليجية، حيث تستورد الدول العربية ما يقرب من 13,165 ألف طن من القمح من روسيا “بقيمة 2,847 مليون دولار” ونحو 7,598 ألف طن من أوكرانيا “بقيمة 1,527 مليون دولار”لعام 2020م، مما أثر بشكل كبير على أسواق الحبوب والبذور الزيتية من حيث ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه وتكاليف المواد الغذائية في ظل الحرب الروسية_ الأوكرانية الدائرة على الأراضي الروسية.
ولقد دق ناقوس الخطر أمام الدول العربية حول ما يتعلق بأمنها الغذائي منذ اندلاع الحرب الروسية_ الأوكرانية، نظرًا لحتمية الاضطرابات والتوترات الناتجة عن الحرب حول ما يخص واردات الحبوب الغذائية من خلال منطقة البحر الأسود، فضلًا عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية سواء التي تستوردها الدول العربية من روسيا وأوكرانيا أو من دول العالم الأخرى، مما يشكل أزمة غذاء عربية قد تؤدي إلى اضطرابات بالمنطقة تؤثر على استقرارها السياسي، وتكمن تداعيات هذه الحرب على الأمن الغذائي العربي من زاويتين أساسيتين:
الأولى: انخفاض تدفق كميات القمح والشعير والذرة وغيرها من الحبوب الغذائية المطلوبة والمستوردة من روسيا وأوكرانيا، حيث تشهد معظم الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجية في أوكرانيا أعمال عسكرية روسية، نظرًا لموقعها في النطاق الشرقي من أوكرانيا.
الثانية: ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة من روسيا وأوكرانيا والأخرى المستوردة من دول غيرها بسبب ارتفاع تكاليف الشحن والنقل والتأمين من جهة وزيادة أسعارها المتوقعة نتيجة لانخفاض كمية المعروض منها في الأسواق العالمية من جهة أخرى.
كيفية إدارة النظم السياسية العربية لأزمة الغذاء الحالية
أثارت حالة الأمن الغذائي في الوطن العربي والتي أبرزتها الحرب الروسية_ الأوكرانية العديد من التساؤلات حول السياسات الزراعية العربية. وقد تمثلت الأزمة في ارتفاع أسعار القمح والحبوب الغذائية، فعلى الرغم من الإمكانيات التي تمتلكها الدول العربية لتحقيق اكتفائها الذاتي من القمح كمنتج استراتيجي حيوي، إلا أنها تعتبر رهينة لحركة أسعار المواد الغذائية نتيجة الحروب البعيدة عنها جغرافيًا، لكنها أسيرة لمعيشتها اليومية، لذا أصبح من الضروري وضع خطط استراتيجية زراعية بديلة تمكن من تحقيق الاكتفاء الغذائي من الإنتاج الزراعي وفقًا للسياسات الوطنية بعيدًا عن الانعكاسات وتأثيرات الحروب والأزمات التي قد تندلع في أماكن أخرى من الكرة الأرضية بعيدة عن المنطقة العربية جغرافيًا، إلا أنها تلقى بتداعياتها عليها في ظل النظام الاقتصادي الحالي الذي يتميز بالعالمية والتشابكية، لذا يجب على حكومات الأنظمة السياسية بالدول العربية أن تواجه أزمة الغذاء الحالية، من خلال:
أ. التركيز على خطط الابتكار الغذائي من أجل تعزيز الإنتاجية من الموارد والمنتجات الزراعية عن طريق إدارة المصادر المائية في الوطن العربي والاعتماد على الزراعة العمودية والتي تعتبر من أمثل الطرق والحلول العلمية في مجال التكنولوجيا الزراعية خاصة لدول الخليج العربي.
ب. وضع الخطط الاستراتيجية لحماية الأمن الغذائي العربي ومواجهة جميع التحديات الحالية والمستقبلية من خلال تكثيف الإنتاج المحلي من السلع الغذائية وعمل مخزون استراتيجي لها والاعتماد على مصادر متنوعة لاستيراد القمح والحبوب الغذائية الاستراتيجية الأخرى.
ج. وضع خطط طوارئ من قبل الأنظمة السياسية العربية تحسبًا لحدوث أي هزات مفاجئة قد تحدث في الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا، ولتوفير ضمان تدفق السلع والمنتجات الغذائية وتأمين عمليات النقل والشحن الدوي والبري والبحري بطل مرونة وانسيابية.
وفي الختام: تشكل قضية الأمن الغذائي هاجسًا يؤرق الحكومات والشعوب العربية، وقد فرضت الحرب الروسية_ الأوكرانية انعكاسات عدة على المنطقة العربية تجلى أهمها في أزمة الأمن الغذائي بالوطن العربي، نظرًا لاعتماد الدول العربية على روسيا وأوكرانيا بشكل أساسي في استيراد القمح والمواد الغذائية الأخرى. وقد وجدت الدول العربية نفسها أمام أزمة حقيقية فيما يتعلق بأمنها الغذائي في ظل التحديات الحالية والمستقبلية التي أفرزتها الحرب الدائرة، مما يتطلب تكثيف الجهود والتعاون لوضع خطط استراتيجية طويلة وقصيرة الأمد للخروج من الأزمة الحالية.