بقلم/أحمد أهل السعيد،
طالب باحث بالدكتوراه في العلاقات الدولية، جامعة محمد الخامس، المغرب.
في العصر الحالي ظهرت مجموعة من المتغيرات الواقعية، التي تشير إلى القوة المتنامية للصين وروسيا ودورهما المرتقب في النظام العالمي الجديد. وهو ما اعترفت به وثيقة الأمن القومي للرئيس جون بايدن قائلة “يجب علينا أن نتعامل مع حقيقة أن توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم يتغير، مما يخلق تهديدات جديدة، لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تشكل مستقبل النظام الدولي، تعتبر هذه المهمة ملحة”.
تؤكد لنا مختلف الأرقام تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية، وصعود الصين المتنامي كقوة اقتصادية أولى عالميا. بالنسبة للنمو حققت الصين معدل %6 مقارنة بالولايات المتحدة التي انحصر نموها في % 2. بالنسبة للتجارة لدى الولايات المتحدة عجز تجاري مع الصين وصل إلى% 12 أي ما يقدر ب 420 مليار دولار. كما أن الولايات المتحدة تعاني من عجز في الميزانية يقدر ب984 مليار دولار أي % 4.6 من الناتج الداخلي الإجمالي. كما أن للولايات المتحدة ديونا صينية تقدر ب1.3 ترليون دولار. لكن تبقى الولايات المتحدة متفوقة على الصين في الناتج المحلي الإجمالي. حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ما يناهز .421 تريليون دولار، أي ما يمثل % 24.4 من الناتج المحلي العالمي، في حين بلغت الصين فقط .314 تريليون دولار أي ما يشكل %16 من الناتج المحلي العالمي[1]. ولكي تواجه الصين الهيمنة الاقتصادية الأمريكية قامت بتأسيس العديد من المنظمات الاقتصادية، أهمها منظمة شنغهاي للتعاونSCO))، أسست سنة 2001 في شنغهاي، ويمثل سكانها حوالي نصف سكان العالم، تهدف إلى تحقيق التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري، والثقافي بين أعضائها. إلى جانب منظمة بريكس(BRICS) التي تضم الاقتصادات الناشئة تشكل المنظمة حوالي ثلث سكان العالم، بدأت اجتماعاتها الرسمية منذ سنة 2008. يهيمن على المنظمة الطابع الاقتصادي، وهي تهدف إلى مواجهة الهيمنة الغربية في المجالات المالية والاقتصادية والتجارية. أكد تقرير المركز الفكري الروسي للمعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية أن البريكس تسعى، بدعم من البلدان النامية، إلى إعادة ترتيب الهيكل الاقتصادي العالمي برمته، بما في ذلك التجارة الدولية، والنقد الأجنبي والعلاقات المالية، والاستثمارات الأجنبية، والسيطرة على مصادر المواد الخام، والأسواق الإقليمية، والتكنولوجيات المتطورة[2].
قال بايدن في أول خطاب له “يجب أن تواجه القيادة الأمريكية هذه اللحظة الجديدة من تعزيز الاستبداد، بما في ذلك الطموحات المتزايدة للصين لمنافسة الولايات المتحدة وتصميم روسيا على تدمير وتعطيل ديمقراطيتنا”. وهو ما جسدته وثيقة الأمن القومي للرئيس جون بايدن التي أشارت إلى التهديد الذي تفرضه روسيا التي لا تزال تصر على تعزيز نفوذها العالمي، وأن تلعب دورا يتسبب في حالة من الفوضى على الساحة العالمية”.
أصبحت الصين وروسيا تنافس الولايات المتحدة في مركز نفودها في الشرق الأوسط، وأصبح لهما تواجد في العديد من المستويات. وهو ما يدفعنا إلى إلقاء الإشكالية التالية:
كيف تدير روسيا والصين صراعهما مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
للإجابة على هذا السؤال، سنقسم هذه الدراسة إلى مطلبين: سنتطرق في المطلب الأول إلى صعود الصين ورسيا في الشرق الأوسط، فيما سنخصص المطلب الثاني للتقارب الصيني والروسي والإيراني.
المطلب الأول: الشرق الأوسط وصعود الصين وروسيا
توجد مجموعة من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية التي تؤشر على صعود الصين الاقتصادي (الفقرة الأولى) وروسيا العسكري (الفقرة الثانية). ودورهما المرتقب في الشرق الأوسط.
الفقرة الأولى: صعود الصين المتنامي في الشرق الأوسط
قال بايدن في أول خطاب “سنواجه بشكل مباشر التحديات التي يفرضها ازدهارنا وأمننا وقيمنا الديمقراطية من قبل منافسنا الأكثر جدية، الصين، سنواجه انتهاكات الصين الاقتصادية، مواجهة عملها العدواني والقسري، لصد هجوم الصين على حقوق الإنسان والملكية الفكرية والحوكمة العالمية.” وهذا أيضا ما أكدته وثيقة الأمن القومي للرئيس جون بايدن الصادرة بتاريخ 2 مارس 2021، أن” الصين باتت المنافس الوحيد المحتمل القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لتشكيل تحد مستدام لنظام دولي مستقر ومنفتح. لهذا سيكون وجودنا العسكري الأقوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا، مع ردع أعدائنا والدفاع عن مصالحنا”.
كما أكدت وثيقة الأمن القومي للرئيس جون بايدن قائلة ” إن الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيط الهادئ وأوروبا، بينما سيكون في الشرق الأوسط بما يكفي لتلبية احتياجات معينة. “إن التعاون الأمني الفعال للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يتطلب المزيد من المرونة الاستراتيجية للولايات المتحدة لمتابعة أولوياتها الجديدة المتمثلة في المنافسة بين القوى العظمى”[3].
هناك إجماع داخل الإدارة الأمريكية الجديدة بأن الشرق الأوسط يفتقر إلى الأهمية الاستراتيجية مقارنة بأوروبا وآسيا والمحيط الهادي[4]. إن التحدي يكمن في تغير المصالح في الشرق الأوسط، وتكييف الوجود الأمريكي وسياساته وفقا لذلك. وتحقيق التوازن بين تلك المصالح والأولويات المحلية والدولية[5].
قال بريجنسكي ” في سنة 2020 ستصبح الصين منافسة حقيقية في الأبعاد الرئيسة للقوة العالمية، كما أن الصين في الطريق إلى أن تصبح القوة الإقليمية المتفوقة في شرق آسيا” [6]. كما اعترفت المخابرات الأمريكية، في تقريرها المتعلق بحقائق العالم، أن الصين ستصبح هي القوة المهيمنة في العالم سنة 2030.
أعلنت الصين سنة 2013 مشروع “الحزام والطريق”، الذي يعتبر أضخم مشروع في القرن الواحد والعشرين، حيث سيربط بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط وأوروبا. عن طريق مجموعة من الممرات البحرية والبرية، يتضمن هذا المشروع العديد من المشاريع في مختلف القطاعات (الطرق، التجارة، الغاز، البترول، التكنولوجيا…). أعلنت العديد من دول الشرق الأوسط انضمامها إلى مشروع الحزام والطريق، وإذا نظرنا إلى المشروع من الناحية الجيوسياسية، يمكن القول إنه سيمكن للصين أن تتوفر على ممرات بحرية في مختلف قارات العالم، فهذا سيعطي الصين وضعا استراتيجيا مهما، تتمكن من خلاله من بسط نفوذها على العالم. وهو ما جعل مؤسسة راند تعتبر أن ” التمويل السخي لمبادرة الحزام والطريق الصيني، يشكل تهديدا كبيرا لنفوذ الولايات المتحدة في أجزاء كبيرة من إفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط”.[7]
ويبدو أن الصين قد اعتمدت استراتيجية التنين الحذر تجاه الشرق الأوسط. وتسعى الصين جاهدة لحماية مصالحها المتزايدة في الشرق الأوسط من خلال الحرص على تجنب الانحياز إلى أطراف الصراعات والخلافات في الشرق الأوسط. تشمل مصالح الصين الرئيسة في الشرق الأوسط الطاقة والأمن والطموحات الجيوسياسية والروابط الخارجية للاستقرار الداخلي وتعزيز وضعها باعتبارها قوة عظمى[8].
ما زالت الصين تعتمد إلى حد كبير على واردات الطاقة من الشرق الأوسط، مع ضعف احتمال حدوث تحولات كبيرة قصيرة الأجل في ذلك المأزق. فللصين مصلحة كبيرة في كل من الاستقرار الإقليمي الإجمالي وعلاقات العمل اللائقة مع أبرز الدول الإقليمية المنافسة: ابتداء من إيران، ومرورا ببلدان الخليج العربي، ووصولا إلى إسرائيل[9].
أكد فريجنسي أن “مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط متدهورة. ومن شأن أي انحطاط أمريكي أن يجهز على هذه المكانة”[10]. أمام التراجع الجيوسياسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يتزايد الاهتمام الصيني بالشرق الأوسط، حيث أعلن رئيس الصين في عام 2018 عن تقديم قروض بشروط ميسرة لبعض الدول في الشرق الأوسط بقيمة 91 مليون دولار تخصص للتقاسم بين سوريا والأردن ولبنان واليمن[11]. كما زاد إجمالي الاستثمار الصيني في الشرق الأوسط من حوالي 99 مليار دولار بين عامي 2006 و 2012 إلى 143 مليار دولار بين عامي 2013 و 2019. تمثل % 16 من إجمالي الاستثمار الأجنبي للصين. بينما يتركز الجزء الأكبر من الاستثمار في قطاعات الطاقة والنقل والعقارات، إلا أن الاستثمار ينمو أيضا في مرافق أخرى، والمواد الكيميائية، والسياحة، والترفيه، والخدمات اللوجستية منذ عام 2013.[12].
وبالتالي الصين تستخدم الاقتصاد كديبلوماسية لبسط هيمنتها بطريقة ناعمة على العالم. لمواجهة السياسة الأمريكية الهادفة إلى احتوائها في الشرق الأقصى. أي أنها تريد أن تضع قواعد جيوسياسية جديدة، تجعلها في وضع أكثر فاعلية وتأثيرا على العالم، تمهيدا لوضع قواعد النظام الدولي الجديد.
الفقرة الثانية: عودة روسيا إلى الشرق الأوسط
تنظر روسيا إلى السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أنها مصدر قلق وخطر دائمين على مصالح روسيا الجيوسياسية. فموسكو تعتبر التواجد العسكري في الشرق الأوسط بمثابة تطويق شامل لروسيا وتهديدا مباشرا لأمنها القومي، وفي هذا السياق تندرج العودة الروسية القوية للإقليم وتعميق العلاقات مع دولها لاسيما تلك المعروفة بمعارضتها للهيمنة الأمريكية إيران وسوريا في إطار سعيها لاختراق جدار الطوق الأمني هذا، ومحاولة موازنة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط[13].
عندما وصل الرئيس الروسي بوتين إلى رأس السلطة، حمل معه هاجس القطبية الأحادية، واستفراد الولايات المتحدة بتدبير شؤون العالم، لذلك خطط لتغيير هذا النظام الدولي الأحادي القطبية، مع الحرص في الوقت ذاته على تفادي المواجهة المباشرة، باعتبار التفاوت الهائل بين إمكانات البلدين[14].
بدأت روسيا تستعيد تدريجيا دورها العالمي، من أجل إحياء أمجاد الاتحاد السوفيتي، وقد اعتمدت روسيا على العديد من الآليات لتحقيق أهدافها، أهمها الوسائل العسكرية، التي تظهر بشكل جلي في الدور الروسي في سوريا، وهذه سابقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ذلك أن روسيا استفادت من الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق وليبيا وأفغانستان وحاولت تكراره في سوريا، لذلك أصبحت تتعامل روسيا بحذر مع الادعاءات الأمريكية، لاحتلال الدول غير المرغوب فيها، تحت ذرائع الديمقراطية أو الثورات الملونة. لذلك فالتواجد الروسي في سوريا، ليس فقط من أجل دعم حليف تاريخي لها، بل أيضا من أجل ضمان التوزان بين الأقطاب الدولية بشكل متكافئ، ومواجهة الأحادية القطبية الأمريكية. وسوريا ستكون الفضاء الجيوسياسي الذي ستعيد من خلاله روسيا التوازن العسكري مع الولايات المتحدة.
تنظر روسيا إلى الشرق الأوسط على أنه فضاء جيوسياسي قيم، مكان تلتقي فيه المصالح الإقليمية والعالمية. على هذا النحو، فهو ساحة للصراعات الدولية السياسية والاقتصادية والأمنية، هذه الميزات تجعل الشرق الأوسط قادرا على تشكيل تهديد محتمل للأمن القومي لروسيا[15].
لقد استخدمت روسيا بفعالية مشاركتها في الصراع السوري لتعزيز صورتها كقوة عظمى، بينما تمكنت ببراعة من الحفاظ على علاقات متوازنة مع دول الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، من المرجح أن يستمر التواجد الروسي في المنطقة لبعض الوقت. هناك حوافز اقتصادية قوية لروسيا لمواصلة تعزيز علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، من خلال الأسلحة والطاقة[16].
إن انخراط روسيا في الشرق الأوسط قد جلب فوائد عديدة أهمها: تعزيز المكانة العالمية، وزيادة النفوذ الإقليمي، وبعض الاستثمارات الاقتصادية الجديدة، وزيادة النفوذ على حساب الخصوم الغربيين[17]. نظرا لنجاحاتها الاستراتيجية العسكرية والسياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فقد اجتذبت موسكو العديد من الشركاء المحليين والعوامل التمكينية الذين يسهلون سياساتها ويساعدونها على تعزيز مصالحها جنبا إلى جنب مع أهدافهم الخاصة. يمثل هذا انتصارا للدبلوماسية الروسية والاستراتيجية الشاملة، وهو أحد الآليات أو العوامل الرئيسة، التي ستمكن موسكو من لعب دور شرق أوسطي رئيس حتى عام 2025[18].
حسب دراسة قامت بإعدادها مؤسسة راند حول “استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط” أكدت أنّ ” السياسات الخارجية الروسية في الشرق الأوسط يحركها طلب المكانة العالمية، والتجارة، والاستقرار الإقليمي. فلم تكن تحفز روسيا رؤية معيّنة في الاعتقاد، وإنما بوصفها قوة عالمية، السياسات بالنسبة للشرق الأوسط، يجب أن تلعب دورا في المنطقة وأن تملك مقعدا على طاولة المفاوضات والقرارات الرئيسة[19].
أي أن الهدف من الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، هو أن تصبح شريكا في اتخاذ القرار العالمي. ولكي تصل روسيا إلى تحقيق أهدافها، اتبعت سياسة الانفتاح في سياستها الخارجية، وتجنبت الانسياق إلى الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط، لكي لا تتأثر مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. لذلك فالسياسة الروسية تريد أن تقدم نفسها للعالم كبديل عن السياسة الأمريكية. يمكن القول إن هذه السياسة نجحت في بعض الجوانب، حيث استطاعت كسب تعاطف بعض الشعوب، وهذا حقق لها مكانة رمزية على الساحة الدولية، وكذلك بناء علاقات ديبلوماسية متعددة الشركاء، وهذا جعل العديد من الدول تستورد أسلحتها من روسيا، لتصبح تدريجيا بديلا عن الولايات المتحدة في الأمور العسكرية.
المطلب الثاني: تقارب الصين وروسيا وإيران
تسعى روسيا (الفقرة الأولى) والصين وإيران (الفقرة الثانية) إلى تشكيل تحالفات اقتصادية وعسكرية لمواجهة النظام الدولي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة.
الفقرة الأولى: التقارب الصيني الروسي
قامت مؤسسة راند بدراسة حول التعاون الصيني والروسي سنة 2021، قالت إن ” شي جين بينغ التقى بوتين 20 مرة على الأقل في مناسبات منفصلة بين عامي 2012 و 2017. هذه الاجتماعات كانت وجها لوجه. أصدرت الصين وروسيا بشكل مشترك العديد من الوثائق التي توضح اتفاقهما على مجموعة واسعة من القضايا. أهمها بيان مشترك حول تعزيز الاستقرار الاستراتيجي العالمي صادر عن بوتين وشي في 26 يونيو 2016 في بكين. يسلط البيان الضوء على القلق المشترك لموسكو وبكين من العوامل السلبية التي تهدد بتقويض استراتيجية الاستقرار العالمي، مثل النظام الأحادي القطبية”[20]. حسب مؤسسة راند “وقعت روسيا والصين خطة للتعاون العسكري الثنائي من 2017 إلى 2020. تضع خارطة الطريق تصميما عالي المستوى وخطة عامة للتعاون العسكري بين الصين وروسيا في 2017-2020. يظهر مستوى عال من الثقة المتبادلة والتعاون الاستراتيجي لمواجهة التهديدات والتحديات الجديدة في المجال الأمني والعمل المشترك على حماية السلام والاستقرار الإقليميين، نفذت القوات البحرية في عامي 2015 و 2017 أنشطة في البحر الأبيض المتوسط، وابتداء من سنة 2016 بدأت روسيا والصين في إجراء مناورات مشتركة للدفاع الصاروخي”[21].
يقول بريجينسكي “دور الولايات المتحدة لا سيما بعد تبديد عشرين سنة، بات الآن ملزما بالتحلي بقدر أكبر من الحصانة وباستعداد أكبر للتجاوب مع وقائع القوة الجديدة في أوراسيا. هيمنة دولة مهما بلغت قوتها، لم تعد ممكنة، لاسيما بعد بروز لاعبين إقليميين جدد على الساحة[22]. إذا تعثرت الولايات المتحدة فإن من غير المحتمل أن يغدو العالم خاضعا لهيمنة خلف متفوق منفرد مثل الصين.[23]. إن هذه الأخيرة التي يتكرر ذكرها باطراد بوصفها خليفة الولايات المتحدة المتوقعة تتحلى بحكمة التسليم بالنظام الدولي القائم، وإن لم تكن ترى التراتب السائد فيه دائما. هي تقر بأن نجاحها بالذات يتوقف لا على انهيار النظام بشكل درامي مثير، بل على تطوره باتجاه نوع من إعادة توزيع النفوذ تدريجيا. هي تلتمس نفوذا أكبر، وتتوق إلى احترام دولي[24].
أصدرت الصين وروسيا بيان مشترك ببكين بتاريخ 4 فبراير 2022 ورد فيه” تعارض الصين وروسيا أي محاولات لانتهاك القيم الديمقراطية، وتعارضان التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة تحت اسم حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما تعارضان أي محاولات لإثارة الانقسامات والمواجهة في العالم. ودعا البلدان المجتمع الدولي إلى احترام التنوع الثقافي والحضاري وحقوق شعوب الدول المختلفة في تقرير المصير.كما يتفق الجانبان على أن الديمقراطية قيمة إنسانية مشتركة وليست امتيازًا لعدد قليل من البلدان، وأن تعزيز الديمقراطية وحمايتها قضية مشتركة للمجتمع الدولي بأسره. كما يحق لشعوب جميع الدول اختيار الأشكال والأساليب لتطبيق الديمقراطية التي تناسب ظروفهم الوطنية، والأمر متروك لهم فقط لتقرير ما إذا كانت بلادهم ديمقراطية. تحاول بعض البلدان رسم خطوط فاصلة على أساس الأيديولوجيا، وفرض “معاييرها الديمقراطية” الخاصة بها على البلدان الأخرى، واحتكار الحق في تعريف الديمقراطية من خلال إنشاء تكتلات وتحالفات. إن مثل هذه التحركات الساعية إلى الهيمنة تشكل تهديدات خطيرة للسلام والاستقرار العالميين والإقليميين وتقوض استقرار النظام العالمي”.
الفقرة الثانية: التقارب الصيني الإيراني
بالنسبة لعلاقة الصين بإيران، فقد قامت مؤسسة راند بإعداد دراسة حول الصين في الشرق الأوسط سنة 2016، أكدت المؤسسة أن ” إيران تعتبر القوة الرئيسة في الشرق الأوسط، كما تعتبر خصما عنيدا للولايات المتحدة. وفي حال أتيح الاختيار للصين قد تشكل إيران حليفا محتملا لها وتساعد القوة الأسيوية الصاعدة على موازنة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط[25]. إن إيران تعتبر القوة الإقليمية الرئيسة الوحيدة في الشرق الأوسط غير المتحالفة مع الولايات المتحدة. وفي حال قررت الصين زيادة وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فقد تلعب حينها إيران دورا جوهريا في تحقيق أهداف بكين الجيوسياسية”[26].
أعلنت إيران عن انضمامها للمشروع الصيني “الحزام والطريق”، لكي تخرج من عزلتها الدولية وتعزز موقعها الجيوسياسي المتميز. لذلك في 25 يونيو 2020 أقرّت الحكومة الإيرانية اتفاقا للشراكة الاستراتيجية الشاملة مع الصين لمدة خمسة وعشرين عاما، لتعزيز علاقتهما الاقتصادية والسياسية طويلة الأمد وتبلغ قيمتها 400 مليار دولار. تضمن الاتفاق أن تحصل الصين على أفضلية الاستثمار في إيران بمشاريع في البنى التحتية (المواصلات والموانئ والطرق والقطارات والبنوك والاتصالات). بالإضافة إلى ذلك التعاون في مجال السايبر والأبحاث والتطوير. وفي المقابل تلتزم إيران من جانبها بتزويد الصين بالنفط والغاز بشكل منتظم وبأسعار سخية ولمدى طويل. أما في ما يتعلق بالجزء العسكري من الاتفاق فقد تم إجراء تدريبات وتمرينات عسكرية مشتركة إضافة إلى التعاون الاستخباراتي، وإنشاء لجنة عسكرية مشتركة للصناعات العسكرية تقوم بتصميم وإنتاج الأسلحة.
هذه الاتفاقية ستوفر لإيران شريانا اقتصاديا مهما، ويخرج إيران من العزلة الدولية، ومعه لم تعد إيران بحاجة إلى رفع العقوبات الأمريكية، كما أن هذه الاتفاقية ستقوي إيران اقتصاديا، مما سينعكس على موقعها الجيوسياسي في الشرق الأوسط. أما بالنسبة للصين فهذا الاتفاق الاقتصادي يعتبر بوابة للصين لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، لمنافسة الولايات المتحدة في مراكز نفوذها التقليدية.
وبهذا المعنى، فإن الاتفاق يسهم في تحويل إيران إلى مركز إقليمي على “الحزام والطريق”، الأمر الذي لا يضمن لها تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة في مرحلة يعاني فيها الاقتصاد الإيراني من أزمات هيكلية بسبب حزمة العقوبات الأمريكية الراهنة، لكنه ينطوي على مكاسب استراتيجية لا تقل أهمية، إذ من شأن تعميق ارتباط الاقتصاد الإيراني بالبنية التحتية الإقليمية، خلق مصالح دولية في الدفاع عن إيران في مواجهة السياسات الأمريكية، وهذه المصلحة قد تكون صينية بالأساس في المرحلة الأولى، لكن تعميق تكامل وارتباط الاقتصاد الإيراني والبنية التحتية الإيرانية بالمراكز الإقليمية الأخرى على المبادرة سيستتبع تدريجيا تزايد حجم المصالح الدولية حول إيران[27].
الاتفاق الإيراني الصيني أقلق إسرائيل، وهو ما دفع سيما شاين[28] إلى القول بأن “الاستثمارات الصينية إن تم تنفيذها ستشكل حزمة قوة حيوية للاقتصاد الإيراني المخنوق. كما سيؤدي تحسن الوضع الاقتصادي إلى إلحاق الضرر بمدى فعالية استراتيجية استخدام أقصى الضغط التي تنفذها الإدارة الأمريكية ضد إيران. وبالإضافة إلى ذلك ستضعف عوامل الضغط التي تستخدمها الدول الغربية عند استئناف محادثاتها مع إيران في حين أن موقف إيران سيتحسن أمام هذه الضغوط، وإلى جانب ذلك تأمل إيران أن يؤدي الانشغال في الاتفاق الصيني الإيراني أيضا إلى ضمان استمرار معارضة الصين للمحاولات الأميركية الرامية إلى تمديد صلاحية حظر بيع الأسلحة لإيران في مجلس الأمن الدولي، وعند ذلك سيتاح لإيران الحصول على أسلحة صينية، وربما تحسين موقف مساومتها على شراء أسلحة من روسيا”[29].
محاولات إيران مع الحكومات العراقية المتوالية لتفعيل العمل في بناء خط السكك الحديدية التي تربط بين مدينة المحمرة بمدينة البصرة العراقية بطول 37 كلم، وتسمح لطهران بربط خطوطها السككية التي تبدأ من الصين والهند وباكستان بالعراق وسوريا وسواحل البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن الجهود التي تبذل أيضا لربط ميناء جابهار الإيراني الذي تسهم الهند وروسيا في أعمال تطويره وبنائه، بخطوط برية وسككية مع ميناء غوادر الباكستاني الذي تقوم الصين بتشييده، ويرتبط مع المناطق الصناعية الصينية بخطوط برية وسككية باتجاه مختلف مناطق العالم[30].
الفقرة الثالثة: التقارب الإيراني الروسي
بالنسبة لعلاقة إيران بروسيا فإن البلدين تربطهما العديد من المصالح الاقتصادية والجيوسياسية في الشرق الأوسط، في هذا الإطار أكد السفير الإيراني لدى موسكو كاظم جلالي، أن الرسالة التي بعثها المرشد الإيراني إلى الرئيس الروسي بوتين في 8 فبراير 2021 أكد فيها “علي خامنئي أن إيران مستقلة، وفي نفس الوقت روسيا هي جارتنا الشمالية، ونريد أيضا أن تكون روسيا قوية، ويمكن أن تكون مفيدة على الساحة الدولية اليوم، لأن وجهات نظرنا مشتركة تجاه القضايا العالمية، فنحن اليوم قوة إقليمية كبرى إلى جانب روسيا”[31]. وهو ما أكده أيضا علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية قائلا: “إن تغيرات كبيرة حصلت في الشرق الأوسط، تتمثل في التعاون غير المسبوق بين روسيا وإيران، إن التنسيق بين إيران وروسيا لا يشمل فقط سوريا، بل يشمل أيضا العراق ولبنان، ويمكن أن يشمل التعاون اليمن مستقبلا”.
يكتسي التعاون العسكري مع إيران، أهمية كبرى للبلدين، فروسيا التي يشهد مجمعها الصناعي العسكري تراجعا كبيرا في مبيعات الأسلحة وتطويرها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بحاجة ماسة لعقد التسليح مع الدول الأجنبية ومنها إيران، كي تستطيع الحفاظ على هذه الصناعة من الانهيار ومجاراة تجارة السلاح العالمي التي تتربع على قمتها الولايات المتحدة، كما أنها تندرج في إطار سعي روسيا الحثيث لاستعادة مكانتها وهيبتها على الساحة الدولية[32].
وبالتالي إيران تطمح إلى أن تصبح قائدة إقليمية، لتقويض مصالح الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين. قامت القيادة الإيرانية بتطوير هذا الهدف، من خلال التعاون الجيوسياسي مع روسيا، وتنمية العلاقات الاقتصادية مع الصين[33].
إن ما يوحد إيران وروسيا والصين هو مواجهة العقوبات الأمريكية، والأحادية القطبية التي تسعى إلى فرض النمط الاقتصادي والثقافي الغربي على العالم. وتوحيد هذه القوى الثلاث يعتبر أكبر تحد يهدد وجود الولايات المتحدة. وهذا ما أكده بريجنسكي قائلا “إن أخطر السيناريوهات، التي تهدد الهيمنة الأمريكية هي تحالف الصين وروسيا وإيران”[34].
خاتمة: إن الصراع بين الغرب والشرق لم يحسم بعد لأن الغرب لم يفقد بعد قوته نهائيا، كما أن الشرق (الصين وروسيا) لم يتمكن بعد من امتلاك قوة كاملة، لذلك القوتين الغرب والشرق لاتزال في توازن، يعني أنهما في مرحلة انتقالية تمهد لتشكيل القطب الجديد الذي سيقود العالم في المستقبل. سيكون الشرق الأوسط الفضاء الجيوسياسي الذي سيحدد ذلك. وبالتالي التحالف الصيني (الاقتصادي) والروسي (العسكري) سيشكل قوة قادرة تدريجيا على مواجهة الكتلة الغربية، من أجل تشكيل نظام دولي جديد، قائم على تعدد الأقطاب في المستقبل.
___________________________________________________
[1]– تقرير صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، 2019، ص 64-65.
[2] – أندرو رادين وكلينت ريتش، وجهان النظر الروسية بشأن النظام الدولي، مؤسسة راند، كاليفورنيا، 2017، ص 58.
[3] -Bilal Y.Saad, US Security cooperation in Middle East, the Biden administration and the Middle East: policy recommendations for a sustainable way forward, Policy Center, Doha, 2021, p 63.
[4] -brian katulis and peter juul, seeking a new balance for us policy in the middle east, 2021, on the following site:
https://ww.americainprogress.org/article/seeking -a- new -balance- for –us- policy- in- the -middle -east
[5] – Julie Norman, Middle East balance key to Biden’s foreign policy aims, on the following site:
https:// americain.chathamhoude.org/article/ Middle- East- balance- key- to -Biden’s- foreign- policy -aims/
[6] – زبغنيو بريجنسكي، السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيواستراتيجيا، الطبعة الثانية، مركز الدراسات العسكرية، القاهرة، 1999، ص 156.
[7] – Rand, A Guide to Extreme Competition with China, California, 2021, p 14.
[8] – أندرو سكوبيل و علي نادر، الصين في الشرق الأوسط، مؤسسة راند، كاليفورنيا، 2016، ص 2-7.
[9] – يفيد بولوك، الصين والنفوذ في الشرق الأوسط: التخفي في وضح النهار، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، 2021، على الرابط التالي:
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alsyn-walnfwdh-fy-alshrq-alawst-altkhfy-fy-wdh-alnhar
[10] – زبيغنيو بريجينسكي، رؤية استراتيجية، أمريكا وأزمة السلطة العالمية، ترجمة فاضل جتكر، دار الكتاب العربي، بيروت، 2012، ص 119.
[11] – ميكي أهارونسون، روسيا والصين وحسابات المستقبل في سوريا :تضافر المصالح أم السير نحو التصادم؟، معهد جروزليم للاستراتيجيا والأمن، على الرابط التالي: https://jiss.org.il/he/ahronson-russia-and-china-in-syria-thoughts-for-the-future/
[12] -Ito Mashino, the future of the Middle east caught between us-china and us-russia rivalry ,Mitsui Co. Global Strategic Studies Institute, 2020, p 4.
[13] – محمد الهزاط، السياسة الروسية الشرق أوسطية: قراءة تحليلية للمحددات والأهداف، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 10، الرباط، 2016، ص 23.
[14] – عمر الفال، الساحات الجديدة للصراع الغربي الآسيوي للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 153، الرباط، 2020، ص 446.
[15] – Zvi Magen, Russia and the Middle East: Policy Challenges, No 127, Institute for National Security Studies, Haim Levanon, 2013, p 10.
[16] – Lisa Watanabe, Europe and Major-Power Shifts in the Middle East, strategic trends, Center for Security Studies, Zurich, 2021, p 78.
[17] -Aron Lund, Russia in the Middle East, The Swedish Institute of International Affairs, Stockholm, 2019, p 4.
[18] -Theodore Karasik and Stephen Blank, Russia an the middle east, the Jamestown the foundation, Washington, 2018, p 371.
[19] – الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، مؤسسة راند، كاليفورنيا، 2017، ص 3- 9.
[20] – Rand, China-Russia Cooperation, Future Trajectories, Implications for the United States, California, 2021, p 123.
[21] – Rand, China-Russia Cooperation, Ibid, p 125.
[22] – زبيغنيو بريجينسكي، رؤية استراتيجية، المرجع السابق، ص 153.
[23] – زبيغنيو بريجينسكي، المرجع نفسه، ص 92.
[24] – زبيغنيو بريجينسكي، المرجع نفسه، ص 96.
[25] – أندرو سكوبيل وعلي نادر، الصين في الشرق الأوسط، مؤسسة راند، كاليفورنيا، 2016، ص 13.
[26] – أندرو سكوبيل وعلي نادر، المرجع نفسه، ص 53.
[27] – حمد فايز فرحات، الاتفاق الإيراني الصيني وتداعياته الاستراتيجية، مركز الإمارات للسياسات، على الرابط التالي:
https://epc.ae/ar/topic/the-iranian-chinese-agreement-and-its-strategic-repercussions
[28] – رئيسة قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية الإسرائيلية سنة 2004، ورئيسة الشؤون الاستراتيجية، ونائبة لرئيس الوزراء سنة 2009.
[29] – سيما شاين وأخرون، هل أعدت إيران والصين اتفاقا استراتيجيا طويل المدى؟، معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، 2020، على الرابط التالي: https://www.inss.org.il/he/publication/china-iran-agreement/
[30]– حسن فحص ، الاتفاق الصيني الإيراني وصراعات جديدة تنتظر المنطقة، على موقع اندبندنت عربية تي في، على رابط التالي:
https://www.independentarabia.com/nodeD
[31] – قناة روسيا اليوم، على الرابط التالي: https://arabic.rt.com/world/1251576
[32] – محمد الهزاط، الشراكات الاستراتيجية الجديدة لروسيا في منطقة الشرق الأوسط: نموذج الشراكة الروسية الإيرانية، مجلة الأبحاث في القانون والاقتصاد والتدبير، العدد 2، مكناس، ص 2016، ص 57.
[33] – Steven A. Cook, Major Power Rivalry in the Middle East, Council on Foreign Relations, Center for Preventive Action, New York, Carnegie, 2021, p 3.
[34] – زبغنيو بريجنسكي، السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيواستراتيجيا، المرجع السابق، ص 54.