بقلم م/ مصطفي الطبجي
مقدمة
تقليد سنوي حرص رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، على إقامته منذ توليه السلطة عام 2014، حفل إفطار الأسرة المصرية في الأسبوع الأخير من شهر رمضان، وكما جاء الحفل الأول عام 2015 حاملا تصريح “أنا لا رئيس ولا زعيم ولا قائد، أنا واحد منكم” جاء إفطار عام 2022 مختلفا بعدما شهد تواجد رموز محسوبين على المعارضة البعيدة عن المشهد السياسي مثل السيد حمدين صباحي المرشح الرئاسي الأسبق، ورئيس حزب الدستور السابق خالد داوود، الذي كان مسجوناً حتى وقت قريب، ووزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، ورئيس حزب الكرامة محمد سامي.
هذا الحضور المتنوع ليس الاختلاف الوحيد الذي ميز إفطار الأسرة المصرية هذا العام، بل فوجئت كافة القوى السياسية بدعوة رئيس الجمهورية إلى إجراء “حوار وطني” مع كل القوى السياسية والشبابية من دون استثناء أو تمييز، على أن يكون الحوار تحت إدارة “المؤتمر الوطني للشباب” التي تعمل تحت مظلة “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، التابعة لرئاسة الجمهورية، كما وعد رئيس الجمهورية بحضور الجلسات النهائية.
ما بين مؤيد ومعارض، ما بين مرحب ومشترط، ما بين مستبشر ومتشكك، ما بين الواقع والمأمول، تلقفت كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الدعوة، كل على حسب طبيعته ورؤيته وموقفه من النظام الحاكم، بل سعى بعض الشباب المهتمين بالعمل السياسي إلى تشكيل كيانات على عجل من أجل أن يصبح لهم دور في الحوار الوطني مثل “المجموعة الوطنية للحوار” التي سارعت بإجراء حوار مع رؤساء الأحزاب كما حدث في العاشر من مايو الجاري مع المهندس محمد النمر، رئيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري، ونوابه ومساعديه.
هنا يجب التنويه على أن الحديث عن “حوار وطني” لم يولد في إفطار الأسرة المصرية، بل ظهرت بوادر المخاض قبل الحفل بأسبوع خلال لقاء رئيس الجمهورية مع الإعلاميين على هامش تفقد حصاد القمح في منطقة توشكى، حين قال وقتها أن “الحوار الوطني” ضروري والدولة المصرية تتجه إلى “الجمهورية الجديدة” وذلك من أجل “الإصلاح السياسي”، وهو الإصلاح الذي كان هدفاً للدولة منذ البداية لكن الأولويات والتحديات التي كانت تواجه الدولة وتهدد وجودها حالت دون ذلك، لكن الوقت قد حان بسبب التحديات الاقتصادية الضخمة التي ضاعفتها الحرب الروسية ضد أوكرانيا ومن قبلها جائحة كورونا.
الآن… ماذا بعد؟! ماذا بعد الإعلان عن الحوار الوطني؟!
الأكاديمية الوطنية للتدريب نشرت بيانا على صفحتها الرسمية حمل عنوان “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، أعلنت فيه استمرار الأكاديمية في تلقي طلبات المشاركة من مختلف القوى في المجتمع المصري، وذلك في إطار تكليف رئيس الجمهورية لها بالتنسيق مع كافة تيارات وفئات المجتمع لإدارة حوار وطني حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة، وتؤكد الأكاديمية أنها سوف تقوم بإدارة هذا الحوار الوطني بكل تجرد وحيادية تامة في إطار دورها التنسيقي بين كافة التيارات المشاركة بالحوار بعيداً عن التدخل في مضمون ما يتم مناقشته في جلسات الحوار لإفساح المجال أمام حوار وطني جاد وفعّال وجامع لكافة القوى والفئات، وذلك في إطار تدشين مرحلة جديدة في المسار السياسي للدولة المصرية نحو جمهورية جديدة تقبل الجميع.
بيان الأكاديمية والإفراج عن بعض المحكوم عليهم في قضايا رأي أمثال حسام مؤنس مدير الحملة الانتخابية للسيد حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية عام 2014، وكذلك الإفراج عن بعض الصحفيين، جميعها مؤشرات إيجابية تعطي بعض الطمأنينة للقوى السياسية المعارضة والتي غابت عن المشهد السياسي منذ سنوات طوال (مثل الحركة المدنية الديمقراطية التي تأسست أواخر عام 2017)، لكن الحديث عن قيام جمهورية جديدة تتسع للجميع من لم تلوث أيديهم بدماء المصريين لا تكفيه المؤشرات الإيجابية، ورسائل الطمأنينة ليست أرضا صلبة لبناء جمهورية جديدة عليها، فالتاريخ يخبرنا بالكثير وتجارب الحوار الوطني في الدول المختلفة تباينت بين ناجحة أثرت الحياة السياسية ودفعت الدولة للأمام، وبين مخيبة للآمال ولم ينتج عنها إلا مزيدا من إهدار الوقت.
المذهب الأول: سمات الحوار الوطني
إن الحوار بشكل عام ليس ابتكارا حديث العهد وعلى مر التاريخ وفي معظم المجتمعات فإن اجتماع المختلفين في الرأي للحوار من أجل التغلب على الاختلافات والوصول إلى حلى جذري للمشكلات القائمة فيما بينهم كانت مهمة مرموقة ومرﻏوبة، وعادة ما كاﻧت ﺗوكل لأﻓراد من ذوي الخبرة أو أصحاب القيمة العالية والمعروفين بالنزاهة والشرف، أو المشهورين بتمتعهم بالقرارات الرشيدة والحكمة الوفيرة، وكونه قديم قدم البشرية لا يشترط تنفيذه من قبل السلطة الحاكمة، بل إنه مطبق بالفعل في كثير من المجتمعات باعتباره جزء من التقاليد الموروثة عبر الأجيال مثل هيئة “لويا جيرغا” الاستشارية القبلية في أفغانستان وباكستان وتحديدا في القبائل البشتونية، و”مجالس الشورى” في بعض دول الخليج العربي، و”المجالس العرفية” في صعيد مصر وقرى الدلتا.
أما عن الحوار الوطني بين الأحزاب والقوى السياسية والشبابية فرغم كونه فعل سياسي حديث نسبيا إلا أنه لا يوجد له تعريف واضح بحكم أن العارف لا يعرف، لكن توجد له سمات أهمها دعم الحوار من خلال جهة فاعلة ومؤثرة لكنها في نفس ذات الوقت محايدة ومن خارج الحياة السياسية، لهذا تم تكليف الأكاديمية الوطنية للتدريب المحسوبة على السلطة التنفيذية لكنها ليست فاعلة في اتخاذ القرار وخارج الحياة السياسية، لهذا لم يكلف رئيس مجلس الوزراء (بعيدا عن انشغاله)، لهذا لم يحث رئيس الجمهورية الأحزاب على الحوار فيما بينهم داخل البرلمان بغرفتيه النواب والشورى.
السمة الثانية تتلخص في التعاون والتي قد تبدو سمة غريبة أو بعيدة عن طبيعة عمل الأحزاب السياسية المتنافسة بحكم أنها ذات مرجعيات مختلفة ترغب جميعها في الوصول إلى السلطة، إن “التنافس السياسي” (الشريف) بين الأحزاب المختلفة أمر بديهي ومنطقي ومطلوب لإثراء الحياة السياسية، لكنه فعل أشبه بمن يقف على قدم واحدة، مهما تمتع بالمهارة والقوة والقدرة لن يستطع الوقوف في هذه الوضعية لوقت طويل، وللاستمرار في الوقوف حتما عليه استخدام قدمه الأخرى، والقدم الأخرى هنا هي “التعاون السياسي”.
السمة الثالثة للحوار الوطني تؤدي إلى تكميل دور الأحزاب داخل البرلمان، وهذه السمة تتعلق بالنقطة التي ذكرناها سابقا والمتعلقة بعدم حث رئيس الجمهورية الأحزاب على الحوار فيما بينهم داخل البرلمان، وذلك لسببين، الأول احترام رئيس الجمهورية لمبدأ الفصل بين السلطات وبناء عليه لا يحق له مطالبة أعضاء مجلس النواب بأي فعل سياسي، الثاني أن النواب ورغم أنهم ممثلين عن الشعب تم اختيارهم من خلال انتخابات شعبية مباشرة، إلا أنه من غير السليم افتراض أن النواب هم خير ممثل للأحزاب في الحوار الوطني داخل البرلمان، كون أن الانتخابات لا يشترط أن تفرز الأقوى والأكثر خبرة وثقافة سياسية.
السمة الرابعة للحوار الوطني متعلقة بالأطراف المشاركة، فاقتصار الأمر على الأحزاب السياسية بمثابة اختزال للمشهد العام، وإذا كانت الدولة القوية تحتاج إلى وجود أحزاب قوية لبناء حياة سياسية صحية، فإنها أيضا تحتاج إلى مؤسسات مجتمع مدني فاعلة، كون الأحزاب تقوم أداء السلطة التنفيذية، ومؤسسات المجتمع المدني تكمل دور السلطة التنفيذية، كذلك يجب إشراك كافة المنظمات الشبابية والنسائية، الشخصيات العامة، الهيئات الحكومية، مؤسسات الفكر والرأي، ممثلو القطاع الخاص، النقابات، والمؤسسات الإعلامية.
المذهب الثاني: دور الجهة الفاعلة
تعتبر الجهة الفاعلة (نعني هنا الأكاديمية الوطنية للتدريب) هي المحرك الاستراتيجي للحوار الوطني التي تسعى إلى إتمام الحوار وتقارب وجهات النظر بين الأطراف المشاركة، وهي ليست مهمة سهلة بل تشبه الإبحار عكس اتجاه الرياح في بحر متلاطم الأمواج، لأن الإبحار هنا يأتي خلال مصالح ووجهات نظر متعارضة، ورغبات ومطالب قد تتغير بمرور الوقت، فالكل يريد الخروج فائزا من الحوار الوطني محققا أكبر مكاسب سياسية.
وللوصول بالحوار الوطني إلى بر الآمان والخروج بنتائج إيجابية تضع اللبنة الأولى لأرض صلبة تصلح لبناء جمهورية جديدة، لابد وأن تتحلى الجهة الفاعلة بثلاثة مهارات أساسية، أولها عدم التحيز لجهة ما من المشاركين في الحوار على حساب الأخرى، وعدم التحيز يختلف كثيرا عن الحياد، فالأولى مرغوبة والثانية مرفوضة، الجهة الفاعلة من باب اكتساب ثقة الجميع يجب ألا تتدخل في الشئون الداخلية لأي من الأطراف المشاركة، لكنها مسموح لها الإدلاء برأيها في الحوار.
المهارة الثانية التي يجب أن تتمتع بها الجهة الفعالة متعلقة بالحس السياسي، لإنجاح الحوار يجب على الجهة الفاعلة قراءة واحترام مصالح مختلف الجهات المشاركة في الحوار الوطني، واستشعار المناطق المليئة بالألغام التي قد تشكل خلافا أو صراعا، ومحاولة الوصول بشكل مبكر إلى أراء مشتركة وحلول وسطية ترضي جميع أو غالبية الأطراف المشاركة، وهذا يمكن تحقيقه بالمعرفة المسبقة لطبيعة الأشخاص المشاركة والقضايا الرئيسية والثانوية التي سيتم طرحها في الحوار.
المهارة الثالثة وقد تكون المهارة الفيصلية في إنجاح الحوار الوطني والمتعلقة بوضع الأطراف المشاركة أمام مسئوليتها، فمن الخطأ أن تتحمل الأكاديمية المسئولية وحدها لإنجاح الحوار، وليس لكونها الجهة الفاعلة التي اكتسبت ثقة الجميع فهذا يعني أن باقي الأطراف غير مسئولة عن فشل الحوار أو يحق لها إخلاء مسئوليتها أمام المواطنين.
ثلاثة مهارات إن تمتعت بها الأكاديمية الوطنية للتدريب فهذا يعني أننا نسير على الطريق الصحيح نحو حوار وطني مثمر فعال وبناء، وعلى عكس ما قد يفسر على أنه تعنتا، أصدرت الحركة المدنية الديمقراطية بيانا أعلنت فيه قبول مبدأ “الحوار السياسي” من منطلق المسؤولية أمام الشعب وحرصا على مصالح الوطن واحتراما للدستور وإدراكا لحجم الأزمة الكبرى التي تمثل تهديدا خطيرا لحاضر البلد ومستقبله وسعيا للتوصل إلى خطة وطنية شاملة تضع مصر على الطريق الصحيح الذي تستحقه وتقدر عليه، كما أشار البيان أن الحركة كي تشارك في الحوار فإنه لا بد أن يكون جادا وحقيقيا، وأن ينتهي لنتائج عملية توضع مباشرة موضع التنفيذ، وهو الأمر الذي يستلزم برأيهم عددا من الضوابط الإجرائية والموضوعية التي تساعد على جعله وسيلة لإنقاذ الوطن وحل مشكلاته لا مجرد تجميل للواجهة، وهو بيان يأتي في صميم عمل الجهة الفاعلة واتفاق مبدأي على طبيعة دورها.
نفس الأمر ينطبق على الاجتماع الموسع الذي أقامه حزب المحافظين داعيا له عددا من الأحزاب والشخصيات العامة، وهو اجتماع يهدف إلى الخروج بوثيقة تحدد محددات معينة، مع من يتم الحوار، وتوضيح مفهمم الإصلاح المطلوب، وهى إن كانت مفاهيم لا خلاف عليها إلا أن التصريحات المبهمة قد تأخذ النتائج من أقصى اليمين لأقصى اليسار، لذا يجب فهمها وتوضيحها والتوافق عليها.
التاريخ خير معلم
كما أسلفنا سابقا، الحوار الوطني السياسي فعل حديث نسبيا لكن لا توجد نسخة أولية متعارف عليها، بل تعتمد كل نسخة حوار على أسلوب وبدايات وأسباب خاصة بها تتوقف على البيئة السياسية للدولة، والسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي والسياسي والجغرافي لكل القوى المشاركة في الحوار، وكذلك الظروف الاقتصادية للدولة، وأخيرا الهدف من إجراء الحوار في حد ذاته والنتائج المرجوة على المدى القريب والمدى البعيد.
ولقد وقف التاريخ شاهدا على العديد من الحوارات الوطنية الناجحة، كما حدث في دولة بيرو بأمريكا الجنوبية عام 2000 عندما شهدت حوارا سياسيا بعدما قام البرلمان بعزل رئيس الجمهورية ألبرتو فوجيموري بسبب تهم فساد، وهو الحوار الذي كان يهدف لإعداد قانون للأحزاب لتحديد دورها في الحياة السياسية للمرحلة المقبلة في محاولة لنشر وتعزيز الديمقراطية، وبعد الوصول لصيغة توافقية انتهى الحوار الوطني وأقر البرلمان القانون الجديد.
تجربة غانا غرب القارة الأفريقية هي أيضا من تجارب الحوار الوطني الناجحة والشاهدة على توافق الأحزاب من أجل توطين الديمقراطية، وذلك بعدما اجتمعت الأحزاب عام 2006 من أجل إجراء حوار سياسي بهدف تعديل دستور 1992، وقبل انتخابات عام 2008 أقرت جميع الأحزاب في برامجها الانتخابية تعديل الدستور، وفي 2010 تم تشكيل لجنة لتعديل الدستور.
أيضا دون التاريخ العديد من الحوارات الوطنية التي لم ينتج عنها إلا مزيدا من الاختلاف والفراق بين القوى السياسية، كما حدث في موريتانيا شمال غرب القارة الأفريقية عام 2009، عندما فشل الحوار الوطني بين النظام الحاكم والأحزاب المعارضة والذي أقيم في السنغال، وفشل مجددا عامي 2011 و2015، بسبب رفض قطاع كبير من المعارضة المتحدة تحت كيان “المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة” للحوار مع النظام الحاكم بسبب فساده وسيطرته على كل مفاصل الدولة.
دولة اليمن في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية هي الأخرى نموذجا لفشل الحوار الوطني عام 2013، بسبب غياب الشفافية في اختيار المشاركين في الحوار الوطني، بل اعتمد الاختيار على الأهواء السياسية والحزبية والاجتماعية، كذلك فشلت الجهة الفاعلة في تحييد الجماعات المسلحة، وهو ما أدى لغياب الثقة بين الأطراف المشاركة في الحوار.
ومن أجل تعظيم الاستفادة من الحوار الوطني (وهذا هو الهدف الأساسي من هذه الورقة)، ولأن التاريخ خير معلم، والمدرسة التي لا توصد أبوابها في وجه راغبي المعرفة، فالتاريخ يضع أمامنا التجربة البولندية والتجربة السودانية لتكونا عونا لنا في بناء الجمهورية الجديدة.
الحوار الوطني البولندي
في سبتمبر 1939 احتلت جيوش ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي وجمهورية سلوفاكيا دولة بولندا ضمن معارك الحرب العالمية الثانية لتنتهي ما عرف بـ “جمهورية بولندا الثانية”، وتشكلت حكومة بولندا في المنفى تحت قيادة الرئيس فلاديسلاف راتشيكيفيتش، ومع اقتراب انتهاء الحرب العالمية الثانية قام الجيش السوفيتي بالتعاون مع القوات المسلحة البولندية بطرد الجيش الألماني.
في ظل هيمنة الاتحاد السوفيتي على دول شرق أوروبا بما فيها بولندا، وافق مؤتمر “يالتا” على تشكيل حكومة مؤقتة في بولندا من ائتلاف توافقي حتى فترة الانتخابات بعد الحرب، لكن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة التي سيطر عليها الشيوعيين تجاهلت الحكومة البولندية الموجودة في المنفى منذ اندلاع الحرب، كما سيطر حزب العمال الموحد الشيوعي على كل مفاصل الدولة.
مع ضعف الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينات، شهدت بولندا اضطرابات سياسية ضمن ما عرف باسم “ثورات أوروبا الشرقية”، اضطرابات ظهرت بوادرها منذ عام 1980 مع تشكيل اتحاد نقابة العمال، بقيادة ليخ فاونسا، والتي أصبحت مع مرور الوقت قوّة سياسية مؤثرة في الدولة البولندية، حيث أدى عجز الحكومة عن علاج التدهور الاقتصادي في بولندا إلى موجات من الإضراب في جميع أرجاء الدولة، وفي محاولة للسيطرة على الوضع، قدمت الحكومة اعترافًا باتحاد نقابة العمال من أجل إجراء حوار وطني بين وزير الداخلية تشيزوا كيسكزاك ورئيس الاتحاد ليخ فاونسا، لكن انهارت هذه المحادثات بعد شهرين لافتقادها سمات وعوامل نجاح أي حوار وطني.
في محاولة أخيرة وحقيقية لإخراج بولندا من عنق الزجاجة السياسي، بدأت سلسلة جديدة من المفاوضات في فبراير 1989 عرفت بـ “مناقشات الطاولة المستديرة” نتج عنها اتفاق على إجراء انتخابات برلمانية خلال 4 أشهر، وبالفعل تشكل مجلس النواب البولندي “سيم”، حصل فيه الشيوعيين على ثلث المقاعد، واتحاد العمال على الثلث الآخر، أما الثلث المتبقي من مقاعد مجلس النواب ومجلس الشيوخ فلقد تم انتخابهم بشكل حر.
نتيجة فشل الشيوعيين في الانتخابات عدلت الطاولة المستديرة من رؤيتها بتوافق كافة الأطراف، وتم الاتفاق على انتخاب رئيس شيوعي من أجل تحقيق الموازنة السياسية وبالفعل تم انتخاب الجنرال فويتشخ ياروزلسكي لتولي المنصب الرئاسي، وفي سبتمبر من نفس العام تم تشكيل الحكومة بقيادة تاديوس مازوفيتسكي لتصبح أول حكومة غير شيوعية منذ 40 عاما.
في ديسمبر 1989 وافق مجلس النواب على برنامج الإصلاح الحكومي لتحويل الاقتصاد البولندي بسرعة من اقتصاد التخطيط المركزي إلى السوق الحر، وتعديل الدستور بهدف إلغاء الدور القيادي للحزب الشيوعي، وإعادة تسمية البلاد باسم جمهورية بولندا بدلا من الجمهورية الشعبية، وحل حزب العمال الشيوعي نفسه في يناير عام 1990، وأنشئ بدلا منه حزب “الديمقراطية الاجتماعية لجمهورية بولندا” وسُلمت معظم ممتلكات الحزب الشيوعي السابق إلى الدولة.
في مايو 1990 أجريت الانتخابات المحلية بحرية ونزاهة كاملتين، فاز فيها المرشحون المدعومون من قبل اتحاد حركة التضامن بمعظم الانتخابات التي خاضوها، وفي أكتوبر من نفس العام تم تعديل الدستور مرة أخرى لتقليص الفترة الرئاسية، وفي الانتخابات الرئاسية التالية أصبح ليخ فاونسا اتحاد نقابة العمال أول رئيس منتخب شعبيا في بولندا، لينطلق قطار الحياة السياسية في بولندا دون توقف عن التطور.
نجحت الطاولة المستديرة لتوافر كل عوامل النجاح أولها رغبة حقيقة عند كل الأطراف على إنجاح الحوار، هذه الرغبة التي تحولت إلى ثقة متبادلة، تلك الثقة التي ساعدت على تقديم تنازلات من كلا الطرفين الرئيسيين، تنازلات وتغيرات سياسية أدت في النهاية بالجميع إلى تقديم نموذج ناجح احتذت به دول أخرى.
الحوار الوطني السوداني
بعد المظاهرات التي شهدتها الدولة السودانية في سبتمبر عام 2013، دعا الرئيس السوداني وقتها، عمر البشير، إلى حوار وطني مع كل القوى السياسية لكسر حالة الجمود السياسية والاحتقان السياسي في خطاب أشتهر باسم “الوثبة”، وجرى التحضير للحوار من خلال ثلاث اجتماعات استشارية ترأسها جميعا عمر البشير، حضر الاجتماع الأول 83 حزب و50 شخصية عامة، وحضر الثاني 96 حزب و75 شخصية عامة، وحضر الثالث 92 حزب و9 حركات مسلحة و74 شخصية عامة.
شارك في هذه الاجتماعات كل تيارات الإسلام السياسي والأحزاب الضعيفة سياسيا والأحزاب المقربة من النظام الحاكم، فيما امتنعت غالبية الأحزاب الكبرى المعارضة عن المشاركة عدا حزب الأمة القومي الذي يرأسه الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يرأسه الميرغني، وجاءت المقاطعة لعدم اقتناع غالبية الأحزاب والقوى السياسية بجدوى الحوار نظرا للتجارب السابقة مع عمر البشير الذي يتولى منصب الرئاسة ورئاسة الوزراء منذ عام 1989، ورغم البداية الغير مبشرة فقد الحوار الوطني كل مظاهر الثقة بعدما ألقت أجهزة الأمن القبض على الصادق المهدي عام 2014، لينسحب بعدها حزب الأمة من الحوار.
وفي محاولة لإيجاد جهة فاعلة تسعى إلى إتمام الحوار وتقارب وجهات النظر بين الأطراف المشاركة، طالبت الأحزاب المعارضة بأن يتولى الاتحاد الأفريقي إدارة الحوار الوطني، لكن قوبل هذا الطلب بالرفض، تمت المطالبة أيضا بأن يتضمن الحوار مناقشة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها الدولة السودانية والتوزيع العادل للثروة، لكن تهربت السلطة الحاكمة من مناقشة هذه النقطة، ومن أجل وضع آلية حقيقة لتنفيذ نتائج الحوار الوطني أقترح اختيار رئيس وزراء بحكومة انتقالية قادرة على التغلب على البيروقراطية، لكنه اقتراح ثالث لم يلقى موافقة من عمر البشير.
استمرت جلسات الحوار الوطني طوال عامين، إلى أن أقيم المؤتمر الختامي في أكتوبر 2016 بحضور رؤساء عدة دول أفريقية وأمين جامعة الدول العربية ورؤساء بعض المنظمات الإقليمية والدولية في محاولة لإضفاء شرعية دولية على نتائج الحوار، تلك النتائج التي انتهت بتوقيع “الوثيقة الوطنية” والداعية إلى تعديل دستور 2005 واستحداث منصب رئيس الحكومة، وبالفعل تم تشكيل حكومة جديدة برئاسة بكري حسن صالح.
تم الاتفاق وقتها على تشكيل الحكومة من الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث واجهت صالح صعوبات كثيرة في تشكيل الحكومة، بسبب عدد الراغبين في المشاركة وعدد المناصب المتاحة، إلى أن تم إعلان الحكومة في مايو 2017 لتصبح أكبر حكومة سودانية في التاريخ بـ 27 حقيبة وزارية، إلا أنها لم تستمر سوى 16 شهرا ليطيح بها البشير ويطالب معتز موسى بتشكيل حكومة جديدة لم تستمر هي أيضا سوى 5 أشهر، كي يخلفه محمد طاهر أيالا لمدة شهرين فقط.
الملخص
في مصر بات الحوار الوطني السياسي ضروريا من أجل تحقيق إصلاح سياسي شامل في البلاد بدلا من حالة الجمود السياسية التي تعاني منها الدولة منذ عام 2011 إثر الاضطرابات السياسية حتى عام 2014، ولعل التأكيد على الدعوة له دلالة على إصرار رئيس الجمهورية على أهمية التوصل إلى تصور متفق عليه حول صيغة هذا الإصلاح الذي يتوافق مع الجمهورية الجديدة بعد تحقيق الإصلاح الاقتصادي، وهنا بيت القصيد، فالحوار السياسي في ظني لن يحوي خلافات سياسية جوهرية على عكس ما قد يحوي رؤى اقتصادية متغايرة ومتباينة ولعل المؤتمر الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء الذي جاء متزامنا مع الإعداد للحوار الوطني هو بمثابة محاولة لفك نقاط الاشتباك المتوقعة.
لتوضيح الصورة السياسية بشكل أفضل لابد من استدعاء مشهدين كلاهما على الهواء مباشرة يحددان ويصفان التحول الحادث في الإدارة المصرية، الأول في شهر مايو عام 2017 أثناء افتتاح مدينة الأثاث في محافظة دمياط، عندنا انفعل رئيس الجمهورية على عضو مجلس نواب قائلا “انت دارس اللي انت بتقوله ده!!” وطالبه بالصمت فصمت إلى الأبد، المشهد الثاني جاء بعد 4 سنوات كاملة من المشهد الأول… في نفس اليوم والشهر، مؤتمر اقتصادي لرئيس مجلس الوزراء بحضور المجموعة الاقتصادية كاملة، وإجابة شافية ووافية عن كل الأسئلة التي طرحها مراسلي كافة الوكالات الإخبارية المحلية والإقليمية والعالمية.
هذا التغير هو دليلنا للحوار الوطني بين كافة القوى السياسية والشبابية الذي دعا له رئيس الجمهورية دون تمييز أو استثناء، حوار وطني اعتقادي أنه سوف يتطرق إلى إيجاد آلية لتطوير أداء الأحزاب وقوى المجتمع المدني وتوفير البيئة المناسبة وسبل الدعم، كذلك تشريع والانتهاء من تنظيم انتخابات المجالس الشعبية المحلية أحد أهم الأدوات الرقابية والتنفيذية المعطلة منذ عام 2012، أيضا مناقشة مستقبل الصحافة والإعلام وضمان حريتها واستقلاليتها، بالإضافة إلى قضايا حرية الرأي والفكر، وبالطبع الأمور الاقتصادية.