بقلم مهندس / مصطفى الطبجي
في 27 نوفمبر عام 1961 وقف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أمام 1750 مواطن يشكلون أعضاء “المؤتمر الوطني للقوى الشعبية” وأعضاء اللجنة التحضيرية، قائلا “كان في نيتي أحضر جلسة إمبارح، لكن الأخ أنور قال لي إنها جلسة إجراءات، بعدين الصبح قرأت في الأخبار العنوان، مناقشات عنيفة، فقلت فاتني المناقشات العنيفة بتاعة إمبارح، فطلبت من الإذاعة إني أسمع الجلسة، قعدت 3 ساعات أسمع الجلسة، مالقتش مناقشات عنيفة يعنى كما تصورت من مانشيت الأخبار. ولكن وجدت إن إحنا ماشيين في الموضوع الطبيعي”.
“المؤتمر الوطني للقوى الشعبية” والذي يعتبر أول حوار وطني في عهد ما بعد ثورة 23 يوليو 1952، تشكل من 1500 عضو تم انتخابهم، 379 يمثلون الفلاحين، 310 يمثلون العمال، 150 من الرأسمالية الوطنية، 293 من النقابات المهنية، 135 موظفا، 23 سيدة، 105 من أساتذة الجامعات، و105 من طلاب المرحلة الثانوية والجامعية، بالإضافة إلى 250 عضو يمثلون اللجنة التحضيرية.
في الجلسات النقاشية للمؤتمر تحدث غالبية الأعضاء عن التوجه نحو الاشتراكية، وكأن غالبية العقول تجد في الاشتراكية أحد طرق الهروب من النظام الملكي ووأد كل أذياله ومظاهره، الاختلاف الوحيد بين كلمات السادة أعضاء المؤتمر تعلق بماذا سيتم التطرق إليه عند الحديث عن الاشتراكية؟! أي أن السيد أحمد منتصر تحدث عن الاشتراكية ثم تطرق إلى أحقية الترشح في الانتخابات، الدكتور سليمان حزين تحدث عن الاشتراكية ثم تطرق إلى أهمية التعليم، السيد جمال بدر تحدث عن الاشتراكية ثم تطرق إلى الحرية السياسية.
إذا ما عدنا بالتاريخ للوراء قليلا لنقف على الهدف من ظهور فكرة “المؤتمر الوطني للقوى الشعبية”، سنجدنا أمام رغبة رئاسية في تكوين ظهير شعبي، أو كما أسماها عبد الناصر “توسيع القاعدة الثورية”، لم يقبل وقتها عبد الناصر بفكرة تكوين مجلس ثورة جديد، بل أراد توسيع الفكرة بحيث يتحول المواطن لشريك في اتخاذ القرار وليس فقط متلقي خدمة… ومن هنا ظهرت فكرة المؤتمر.
ظلت المناقشات تدور في فلك المؤتمر، يحضرها عبد الناصر أحيانا ويديرها أنور السادات الذي كان يجلس على يمين رئيس الجمهورية كإعلان سياسي غير رسمي بانتهاء حقبة كمال الدين حسين، حتى هل علينا يوم 21 مايو عام 1962 معلنا عن شروق شمس “الميثاق الوطني”.
الميثاق الذي تقدّم به جمال عبد الناصر بأبوابه العشرة أعتبر كدليل لمرحلة جديدة من العمل السياسي، يوضح كل الخطوات للوصول إلى تحقيق أهداف المرحلة، وحدد المفاهيم والقيم والمعايير، ودور قوى الشعب العامل، وقضايا الحرية والاشتراكية والوحدة، وذلك من أجل الوصول إلى المجتمع الجديد.
علي مدي أكثر من شهرين تراجع كل أعضاء “المؤتمر الوطني للقوي الشعبية” عن مناقشة ما كانوا يفكرون ويحلمون به واتجهوا أو انشغلوا بمناقشة الميثاق الوطني يشاركهم أعضاء اللجنة التحضيرية، في النهاية صدر الميثاق الوطني كوثيقة رسمية في أوائل أغسطس عام 1962 ليشكل الوثيقة الثانية لثورة 23 يوليو بعد صدور فلسفة الثورة عام1954، وتحول إلى أمر واقع بتشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي التنظيم السياسي الوحيد في الدولة المصرية كبديلا للاتحاد القومي الذي أسس في مايو 1957 والذي كان بدوره بديلا لهيئة التحرير التي أسست عام 1953، وكذلك إجراء انتخابات مجلس الأمة، ووضع الدستور الدائم سنة 1964.
كما أوضحنا سابقا في الورقة البحثية التي حملت عنوان “الحوار الوطني بين النجاح البولندي والفشل السوداني”، لا يزال مشروع الحوار الوطني الذي أعلن عنه في إفطار الأسرة المصرية هو الشغل الشاغل لكافة الأحزاب والقوى السياسية والتكتلات الشبابية والنسوية، وكذلك مراكز الدراسات والمجالس والنقابات المختلفة، والغرف الصناعية والتجارية، جلسات حوارية جانبية، لقاءات تلفزيونية استضافت رموزا سياسية ورؤساء أحزاب ونواب، حوارات صحفية مع شخصيات عامة، تهدف جميعها إلى تحريك الماء الراكد في الحياة السياسية واستنتاج ما سيسفر عنه الحوار الوطني.
وبغض النظر عن الآمال في تحقيق الاستفادة القصوى من الحوار الوطني للانطلاق بشكل جدي وعادل نحو الجمهورية الجديدة، والتخوفات من تحول الحوار إلى كرنفال مفتوح لا يحقق أي هدف حقيقي، أعلنت الأحزاب والقوى السياسية المصرية عن رؤيتها للحوار الوطني، فيما تتولى الأكاديمية الوطنية للتدريب تنظيم الحوار وصياغة بنوده بالتعاون مع التيارات السياسية المختلفة، خاصة في ظل وجود العديد من الملفات الهامة على الصعيد الاقتصادي، وأيضا الصعيد السياسي المرتبطة به الملفات الحقوقية والقانونية.
ترادف المصطلحات المستخدمة يلقي بظلاله على الحوار الوطني، فمن مصطلح “المجتمع الجديد” الذي استخدمه جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية الأسبق، إلى مصطلح “الجمهورية الجديدة” الذي يستخدمه عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، يظهر التساؤل… هل ستجد القوى المشاركة في الحوار الوطني نفسها أمام ميثاق وطني جديد يطرح رؤيتها جانبا ويدفعها دفعا لمناقشة رؤية رئاسية للجمهورية الجديدة؟!
قد يبدو السؤال غريبا أو تشاؤميا إلا أنه متسقا مع التصريحات المختلفة التي طفت في سماء الحياة السياسية من بعد الدعوة للحوار الوطني، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الأحزاب عن الملف الاقتصادي، الحريات السياسية، أهمية التعليم، منظمات المجتمع المدني، وغيرها من الملفات القريبة نوعا ما من المواطنين وتمس حياتهم اليومية بشكل مباشر، ظهرت تصريحات أخرى على استحياء متعلقة بمناقشة تعديل الدستور في الحوار الوطني.
وإن كانت التصريحات المتعلقة بتعديل الدستور لم تحدد أي مواد المراد تعديلها، إلا أن مصطلح “تعديل الدستور” إذا ما ذكر، فورا تتحسس ثقافة المواطنين غضبها رافضة لفكرة الاقتراب من المادة المتعلقة بالفترة الرئاسية، وكما الحال في المؤتمر الوطني الشعبي في الستينات… كأن غالبية العقول تجد في تحديد الفترة الرئاسية أحد طرق الهروب من نظام مبارك ووأد كل أذياله ومظاهره.
عن ماذا سيدور النقاش في الحوار الوطني وماذا ستكون نتائجه، هذا ما ستسفر عنه الأيام القادمة والمقالات اللاحقة.