إنتقدت تركيا الحرب الروسية على أوكرانيا منذ بدايتها، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية وهو طريق البحر الأسود الوحيد نحو البحر المتوسط. وإتخذت تركيا دور الوسيط في الحرب حيث قامت بعقد إجتماعين جمعت فيهم طرفي النزاع. كان الإجتماع الأول بعد إندلاع الحرب بإسبوعين في أنطاليا والذي كان بين وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” وبين وزير الخارجية الأوكراني “ديمترو كوليبا”. بينما كان الإجتماع الثاني في إسطنبول في نهاية مارس بقصر “دولما بهشة”. وتُعتبر تركيا الدولة الوحيدة التي حققت تقدم في الوساطة، حيث حاولت أطراف أخرى مثل إسرائيل إلا أنها لم تستطيع.
ولكن لماذا إتخذت تركيا دور الوسيط؟ فلننظر إلى مواقف تركيا في الساحة الدولية. حيث تحظى تركيا بعلاقات دبلوماسية جيدة مع روسيا مع وجود عدد من الخلافات التي يستطيع الطرفان التعامل معًا في ظل وجودها. فبالرغم من علاقات تركيا الإقتصادية والدبلوماسية الجيدة مع روسيا إلا أنه يوجد عدد من الخلافات السياسية.
فعلى سبيل المثال افتتح الرئيسين بوتين وأردوغان في 8 يناير 2020 -خط أنابيب “السيل التركي” لنقل الغاز الطبيعي بين روسيا وتركيا ثم إلى أوروبا، وبلغت الاستثمارات التركية المباشرة في روسيا (وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي يناير 2021) 2 مليار دولار، والروسية في تركيا 6.4 مليار دولار. ويوجد تعاون بينهم في المجال العسكري يتمثل في شراء تركيا منظومة صواريخ دفاع “إس-400″، من روسيا. حيث وقعت الدولتان الصفقة في 2017، وتم تسليم تركيا المعدات في 2019، الأمر الذي أدى لتوتر في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة .
حيث تري الولايات المتحدة أن هذه المنظومة لا تتوافق مع أنظمة دفاع حلف شمال الأطلنطي الذي تُعتبر تركيا عضو فيه. ومن ثم قامت الولايات المتحدة بتعليق مشاركة تركيا في برنامج تصنيع الطائرة الحربية إف 35، وفرض عليها عقوبات. ففي ديسمبر 2020 حظرت الولايات المتحدة منح أي تصاريح لتصدير الأسلحة للوكالة الحكومية التركية المكلفة لشراء تجهيزات عسكرية، لإعتقادها أن صواريخ إس-400 يمكن أن تكشف أسرارها التكنولوجية.
وفي مقابل مظاهر التعاون التركي الروسي يوجد عدد من التناقضات بين الطرفين في عدد من الأحداث علي الساحة الدولية. حيث يوجد إختلاف في مواقف الدولتان من القضية السورية، حيث تقف روسيا بجانب النظام السوري في حين تقف تركيا مع جانب فصائل المعارضة السورية إلا أن الدولتان إستطاعت إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم. وكان يوجد تداخل في المواقف الروسية التركية في النزاع الأرميني الأذربيجاني حول إقليم ناغورني كاراباخ، فبينما كانت تدعم تركيا أذربيجان بشكل واضح، كانت روسيا وسيط في النزاع بين الطرفين، والذي إنتهى بإتفاقية سلام مع وساطة روسية في سبتمبر عام 2020. ويظهر إختلاف أخر بينهم في القضية الليبية، ففي حين كانت تدعم روسيا نظام حفتر في ليبيا، كانت تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني.
وبالنسبة لعلاقة تركيا مع الدول الغربية نجد أن تركيا دولة في حلف شمال الأطلنطي الأمر الذى يؤدي لعدم منطقية أن تنحاز تركيا لروسيا. وبالرغم من ذلك فإن لتركيا عدد من الخلافات مع كلًا من الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، حيث تقف الولايات المتحدة مع عناصر الأكراد في سوريا وهو ما ترفضه تركيا. بالإضافة لرفض الولايات المتحدة صفقة الطائرات الروسية بين تركيا وروسيا السابقة الذكر. كما يوجد عدد من الخلافات بين تركيا ودول الإتحاد الأوروبي بشأن السياسة الخارجية التركية تجاه عدد من القضايا مثل نزاع ناغورني كاراباخ، والتنقيب التركي عن الطاقة بجانب السواحل اليونانية، وقضايا اللاجئين. وبالتالي علاقة تركيا مع حلفائها ليست علي أفضل ما يكون.
ولذلك نجد أن تركيا تتمتع بعلاقات بكلًا من روسيا ودول حلف شمال الأطلنطي، ويوجد مصالح لتركيا مع الطرفين إلا أنها لا تستطيع خسارة طرف على حساب طرف أخر. فمن الواضح أن تركيا تعمل علي الموازنة بين كلًا من روسيا في الشرق ودول حلف شمال الأطلنطي في الغرب. وإن الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب بين روسيا من جهة وأكرانيا التي يدعمها دول حلف شمال الأطلنطي من جهة أخرى.
وبالنسبة لعلاقة تركيا مع أوكرانيا نجد أن تركيا تتمتع بعلاقة جيدة مع أوكرانيا. حيث إنتقد أردوغان تبعية شبه جزيرة القرم من أوكرانيا لروسيا في سبتمبر 2021. وقامت تركيا بتسليم أوكرانيا صفقة طائرات مسيرة بطراز “بيرقدار تي بي 2” في يوليو 2021. وإستخدمت أوكرانيا الطائرات ضد إنفصاليين تابعين لروسيا، وإستخدمتها في بداية الحرب ضد الجيش الروسي. وتتمتع تركيا بعلاقات إقتصادية جيدة مع أوكرانيا حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 8 مليار دولار، وتمثل تركيا “الشريك الأول لأوكرانيا”.
ويوجد عدد من الأسباب التي تصب في مصلحة تركيا ويراها البعض سبب لإتخاذ تركيا دور الوساطة وتتمثل في أن ذلك يفيد الإقتصاد التركي حيث إرتفعت الليرة التركية بعد إنخفاضها وذلك بنسبة 2% أمام الدولار. وإن من مصلحة تركيا إنهاء الحرب خوفًا من الخسائر الإنسانية والإقتصادية، وخوفها من أن تضطر في النهاية لإختيار طرف ضد طرف أخر. كما أن شعبية أردوغان في تركيا قد زادت بعد قيامه بدور الوساطة وذلك بنحو 3 نقاط في فبراير وهو ما يساعده في الإنتخابات. ومن مصالح تركيا أيضًا تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة وعدم إنحيازها لجانب روسيا حيث قامت الولايات المتحدة بتجميد مشروع “إيست ميد”، وهو مشروع كان يهدف إلي نقل الغاز ويربط بين إسرائيل وقبرص واليونان ثم إلى أوروبا وذلك للتقليل من إستيراد الغاز الروسي. حيث صرحت الولايات المتحدة أن سبب تجميد المشروع هو لأسباب بيئية، إلا أن البعض يرى أن الولايات المتحدة ترغب في كسب تحالف في المنطقة يضم تركيا وإسرائيل ومصر بالإضافة إلى دول الخليج. فمشروع “إيست ميد” كان يستبعد تركيا ، وكان المشروع بالطبع ضد مصالحها. كما إن من مصلحة تركيا عدم سيطرة روسيا على أوكرانيا، حيث يهدد ذلك بإخلال توازن القوى في البحر الأسود نظرًا لطول حدود تركيا على البحر الأسود.
ويرى عدد من السياسيين صعوبة المفاوضات السياسية بين طرفي النزاع، وأن الهدف المرجو منها يكون حول الجانب الإنساني. وإن الحل الدبلوماسي من الصعب أن يحقق نتيجة في مسار الحرب وذلك بالنظر إلى شروط طرفي النزاع من أجل التفاوض. حيث تتمثل شروط روسيا في عدم مناقشة وضع شبه جزيرة القرم ودونباس شرق أوكرانيا، بالإضافة إلى إتخاذ أوكرانيا موقف الحياد. وأن تنزع أوكرانيا سلاحها، وأن لا تنضم لحلف الناتو. بالإضافة لرغبة روسيا في الإطاحة بالحكومة الأوكرانية الحالية. وفي المقابل تتمثل المطالب الأوكرانية في أن تحصل على كامل أراضيها قبل بداية الحرب، وعودة حوالي 5 ملايين لاجئ أوكراني لبلدهم. بالإضافة إلى أن تصبح دولة عضو في الإتحاد الأوروبي، ومحاسبة القادة العسكريين الروس علي أفعالهم في أوكرانيا. وتضع أوكرانيا شرط وقف إطلاق النار قبل أن تبدأ عملية التفاوض.
ومن شروط الطرفين السابقة أرى بالفعل صعوبة الحل الدبلوماسي، حيث إن الأمر يتوقف على نتائج المعارك الدائرة الأن بين الطرفين. وإن الوساطة أو الحلول الدبلوماسية تعتمد علي نتيجة المعركة، ففي هذا الوقت يمكن أن يتدخل أطراف للوساطة مثل تركيا. وإن أهم أسباب إتخاذ تركيا موقف الوساطة هو مصالحها مع طرفي النزاع وأنها سوف تتضرر في حالة إتخاذها جانب طر