استوطان وادي النيل
من قرأ منكم كتاب “تاريخ مصر الفرعونية” للدكتور أحمد ماهر، يعلم أن العصر الحجري انقسم لأربعة مراحل، المرحلة الأولى المسماة بـ “العصر الحجري القديم” قبل نحو 100 ألف عام قبل الميلاد؛ والذي تحكمت فيه الظروف المناخية في حياة الإنسان المصري القديم، وأجبرته على الترحال وعدم الاستقرار بحثا عن الغذاء، احترف فيها صيد الحيوانات والطيور وجمع الثمار، وفي أواخره عرفت النار التي ساعدت المصري القديم على الطهي.
المرحلة الثانية المسماة بـ “العصر الحجري الأوسط” قبل نحو 10 آلاف عام قبل الميلاد، ظهرت فيه الصناعات الحجرية وانتشرت الآلات وتطورت لكن ازداد الجفاف وقل المطر وانتشر التصحر ليبدأ في ظهور ما يعرف اليوم بالصحراء الغربية.
ومن ثم المرحلة الثالثة المسماة بـ “العصر الحجري الحديث” قبل نحو 6000 عام قبل الميلاد، وبسبب ازدياد الجفاف وانتشار التصحر، أضطر المصري القديم إلى ترك الهضاب والنزول لوادي النيل بحثا عن الغذاء وفيه عرف الري والزراعة والصناعة وبدأت تتشكل التجمعات السكانية المؤسسة لأعظم حضارة عرفها التاريخ.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة والمسماة بـ “العصر الحجري النحاسي”، فهي الفترة الانتقالية ما بين المراحل الحجرية الأولى وعصر الأسرات الذي بدأ قبل نحو 3200 عام قبل الميلاد، وفي هذه الفترة الانتقالية عرف المصري القديم استخدام المعادن مثل النحاس والبرونز والذهب، وتطورت فيه صناعة الأقمشة والأواني الفخارية وبنيت المساكن المفروشة بالحصير المصنوع من نبات البردي.
منذ أكثر من 8000 عام عرف المصري وادي النيل واستقر بجواره تاركا باقي الأراضي الصحراوية الغير قابلة للعيش والسكن، ومع ازدهار عصر الأسرات دون المصري القديم ترنيمة تبرز تقديسه لنهر النيل، جاء فيها “فليحيا الإله الكامل، إنه غذاء مصر وطعامها ومئونتها، إنه يسمح لكل امرئ أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر”، جاعلا منه الإله الخالق لمصر والواهب للحياة.
لقد أدرك المصري القديم أهمية النيل، فاجتهد في ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادي مكونا حضارة اجتماعية وثقافية عرفها العالم أجمع، لكنه أيضا رسخ لموروث ثقافي واجتماعي لم يتغير إلى اليوم، لن نترك ذلك الوادي الضيق، سنعيش ملاصقين له إلى أن يرث الله الأرض بمن عليها.
معدل النمو السكاني
في يناير 2014 أصدرت وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية ومناطق التنمية ذات الأولوية (الرؤية – المرتكزات – نطاق ومراحل التنمية)، ذلك المخطط الذي أتى في 63 صفحة حمل بين طياته تقريرا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن تحديات السكان صدر عام 2012.
التقرير بمثابة دراسة تحليلية لتضاعف عدد السكان خلال 40 عاما، ماذا ينتظر الدولة المصرية في عام 2052؟!
في عام 2012 بلغ عدد المواطنين 82.3 مليون نسمة بمعدل نمو سكاني سنوي بلغ 2.04%، وهو ما يعني أن عدد السكان سيصل إلى 183.8 مليون نسمة عام 2052، وفي حالة انخفاض معدل النمو السكاني السنوي إلى 1.7% كنتيجة إيجابية للبرامج القومية، يصل عدد السكان إلى 163.8 مليون نسمة عام 2052، وإذا أكرمت الدولة المصرية بدرجة أعلى من الوعي وانخفض معدل النمو السكاني السنوي إلى 1.3%، يصل عدد السكان عام 2052 إلى 152.3 مليون نسمة.
إذا ما نحينا رؤية وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية جانبا ونظرنا إلى التقرير السنوي الصادر عن البنك الدولي والمعتمد على تقارير الأمم المتحدة، التقارير الحكومية المصرية، تقارير الاتحاد الأوروبي، وتقارير مكتب الإحصاء السكاني الأمريكي، نجد أن معدل النمو السكاني السنوي في مصر انخفض لـ 1.9% عام 2021، ويستمر بالانخفاض عاما تلو الآخر.
الأمر الملفت هنا ليس انخفاض معدل النمو السكاني السنوي، بل ذلك النمط المصاحب لانخفاض معدل النمو السكاني في العهود المختلفة، فلقد انخفض معدل النمو السكاني بعد هزيمة 1967 ولم يشهد ارتفاعا إلا بعد انتصار أكتوبر 1973، كذلك انخفض مع الغزو العراقي للكويت أوائل التسعينات، ولم يشهد ارتفاعا إلا بعد انتهاء الحرب، أيضا انخفض في فترة صعود نجم جمال مبارك ولم يشهد ارتفاعا إلا بعد أحداث 2008 في مدينة المحلة الكبرى، وظل معدل النمو السكاني يشهد ارتفاعا إلى أن وصلنا لعام 2014.
يبدو أن معدل النمو السكاني مرتبط ارتباطا وثيقا بمشاعر القلق، كلما شعر المصريون بالقلق والخوف من المستقبل أو اليأس من تحسن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية انخفض معدل النمو السكاني، وكلما زادت مشاعر الأمل والنظرة التفاؤلية للمستقبل ارتفع معدل النمو السكاني.
وضع الوادي عام 2052
بناء على ما سبق وإذا اعتمدنا أفضل سيناريو متوقع، سيصل تعداد المصريون عام 2052 إلى حوالي 152 مليون نسمة، وهو الوضع الذي يفرض علينا مجموعة من الأسئلة الهامة.
هل يمكن أن يعيش 152 مليون مواطن في نفس المساحة الجغرافية التي كان يعيش فيها 82 مليون مواطن؟!
هل يحتمل وادي النيل الضيق تضاعف عدد المواطنين المقيمين به، وهو الذي يعاني في الأساس من التكدس والكثافة السكانية العالية؟!
هل يمكن الحديث عن توفير خدمات البنية التحتية (مياه – صرف – كهرباء – غاز – تليفونات – رصف) بشكل آدمي لائق لضعف عدد السكان في نفس المساحة الجغرافية؟!
هل من المنطقي الحديث عن مسطحات خضراء ومناطق للتنزه وأمور بديهية مثل حق المشاه وتعداد السكان يتضاعف عاما تلو الآخر؟!
هل نملك رفاهية الاعتراض على الكباري المختلفة التي تهدف لتوفير السيولة المرورية وعدد السيارات بشكل أو بآخر سوف يتضاعف في نفس الطرق؟!
هل من العدل مقارنة شوارع المدن المختلفة في ثلاثينات القرن العشرين بنفس الشوارع في القرن الحادي والعشرين؟!
حتى لا تفهم الكلمات بغير معناها ولا تؤل بتأويل آخر كعادتنا في السنوات الأخيرة، الأسئلة لا تهدف ولا تعني سلب هذه الحقوق من المواطنين، مهما بلغ حجم التعداد السكاني ومهما علت نسبة الكثافة السكانية، فإن الحكومة ملزمة بتوفير كافة الخدمات للمواطنين بشكل آدمي لائق، لكني هنا أتحدث عن رفاهية التخطيط وليس أحقية ووجوب التنفيذ.
هجرة الوادي
يخبرنا التاريخ أيضا أن الهجرة من الوادي ليست بالفكرة المستحدثة، فلقد سبق ونفذها المصري القديم لأسباب لها علاقة بالتغيرات المناخية خلال فترات متقطعة من العصر الحجري الحديث حتى وإن كانت هجرات مؤقتة، حيث أدى تغير المناخ إلى زيادة منسوب الفيضانات ما أجبر المصري القديم على ترك الوادي والهجرة مئات الكيلومترات داخل الصحراء الغربية التي تحولت وقتها إلى ما يشبه حشائش السافانا، وبعد انحسار الفيضانات عاد مرة أخرى للعيش بجوار عشقه الخالد… نهر النيل.
ويخبرنا جمال حمدان في أوراقه الخاصة عن المتغيرات الخطيرة التي تضرب صميم الوجود المصري، فأرضها معرضة للتآكل ولم تعد تتجدد سنويا بفعل ترسبات الفيضان وأصبحت بيئة نموذجية للتلوث، وقد وصل الطفح السكاني إلى مداه، وبلغ ذروة غير متصورة وتعدى إمكانيات الأرض، وأصبح بالوعة لها يقلصها باستمرار من جراء التوسع في المدن والقرى والطرق، حتى سيأتي اليوم الذي ستطرد فيه الزراعة تماما من أرض مصر لتصبح كلها مكان سكن، دون مكان عمل، أي دون زراعة، أي دون حياة، لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى الوطن إلى مقبرة بحجم دولة.
وقت كتابة جمال حمدان لهذه الرؤية التي قد تبدو تشاؤمية كان التعداد السكاني المصري قرابة الـ 60مليون نسمة، وهي الرؤية التي أيده فيها العالم الجيولوجي والمفكر المصري، رشدي سعيد، الذي يتساءل: لماذا يزدحم المصريين على رقعة من الأرض لا تزيد مساحتها على 7.5 مليون فدان تاركين أكثر من 240 مليون فدان غير مأهولة بالسكان؟ ، لماذا يتنافسون على المكان حتى كادوا يفسدونه بالمناطق العشوائية التي أحاطت بالمدن دون تخطيط والمباني الأسمنتية التي أقيمت في قلب الريف وزحفت على أجود الأراضي الزراعية التي تقلصت مساحتها عاما بعد آخر؟ فلا يوجد سبب واحد يجبر المصريين على العيش في هذا الضيق وأمامهم المكان متسع في الصحراء الشاسعة التي تحيط بوادي النيل،ولا يوجد أي مبرر لاستمرار عجز المصريين عن الاستفادة من هذه الأرض، المياه، والطاقة، في ظل ازدياد النمو السكاني.
إن التكدس في ذلك الوادي الضيق يجعل كتلة البشر تتنافس على الموارد المحدودة، وهو ما جعل من هجرة الوادي أمرا حتميا، فما زالت الصحراء التي تحيط بوادي النيل من كل جانب هي الجهة الباقية أمام للحد من تدهور الحياة تحت ضغط كتلة البشر المكدسة داخله، وقد ظلت الصحارى المصرية حتى وقت قريب أرضا لا عمار فيها يخافها المصريون ولا يرغبون في العيش فيها، يخشون زيارتها ولو زيارة عابرة، ويتصورون أنها مغامرة كبيرة.
اليوم وقد تخطينا الـ 110 مليون نسمة في نفس الوادي الضيق بخلاف الوافدين من الدول المختلفة ولأسباب مختلفة، أي بالتقريب ضعف العدد الذي مثل أزمة وجود للدولة المصرية تخوف وحذر منها مفكران جليلان مثل جمال حمدان ورشدي سعيد، أجدني أتساءل… هل يمكن للمصري الحديث الهجرة من وادي النيل أم يجب إجباره على الهجرة؟!
الهجرة بالإجبار
في أي حديث عرضي عن أهمية أو حتمية الانتقال للمدن الجديدة والخروج من وادي النيل، يظهر نمطان للتفكير لدى المواطن المصري، النمط الأول… لماذا الانتقال لمدينة جديدة خالية من الخدمات يصعب الوصول لها لعدم توافر مواصلات بشكل دائم؟ أما النمط الثاني… لماذا الانتقال لمدينة جديدة تاركا الأهل والأسرة وصعوبة التواصل واللقاء خاصة في المناسبات المختلفة؟
هذان النمطان يرسخان للموروث الثقافي والاجتماعي، لن نترك ذلك الوادي الضيق، سنعيش ملاصقين له إلى أن يرث الله الأرض بمن عليها، وهو ما يعني أن أي محاولة للحفاظ على الوجود المصري والاتجاه لتعمير الصحراء لن يحدث من دافع “الاختيار” بل يجب أن يتم عن طريق “الإجبار”.
المتتبع للقرارات والمشاريع المختلفة سيلاحظ أن عملية الإجبار تتم على قدم وساق، بدأت من تصعيب عملية البناء في المدن والقرى الواقعة في الدلتا ووادي النيل، مع تسهيل كامل لها إذا ما كان البناء في الصحراء، محاولات لنقل كافة المناطق الصناعية خارج المدن، مد الطرق ووسائل المواصلات المختلفة لعمق الصحراء، بناء مدن جديدة في قلب الصحراء، استصلاح أراضي زراعية جديدة في الصحراء، إنها عملية ممنهجة لإجبار المواطن المصري على ترك الوادي الضيق.
هذه العملية الإجبارية الممنهجة لن تظهر نتائجها خلال 10 أعوام، هذا يتنافى مع الطبيعة المصرية الرافضة للتغيير والمتمسكة بالعادات والموروثات حتى لو كانت خاطئة، لكنها في ظني تستهدف عام 2052، إذا ما أتى هذا العام على الدولة المصرية بكامل قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية فلابد وأن تتحلى الدولة المصرية بكامل قوتها السكانية المتمثلة في التوزيع العادل للسكان على أغلب الجغرافيا المصرية.