مقدمة:
يظل قطاع غزة مركزًا لصدام المصالح الجيوسياسية لعددٍ من القوى الداخلية المدعومة بقوى أخرى خارجية، بعضها يدفع تجاه التصعيد والبعض الآخر يدفع تجاه خفض المواجهة واستقرار الأوضاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبدورها، كشفت عملية «الفجر الصادق» عن مواقف القوى الداخلية والخارجية وكذلك مصالحها تجاه الصراع الذي استمر نحو 66 ساعة بدءً من ظُهر يوم الجمعة 5 أغسطس وحتى مساء الأحد 7 أغسطس، وقت أن بدأت الهدنة التي توسطت فيها مصر بين طرفيّ الصراع: إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي.
أولا: اندلاع عملية «الفجر الصادق» والتطورات المصاحبة لها:
كما تقول مصادر مخابراتية، فإن إسرائيل كانت تُخطط منذ عدة أشهر لعملية تقطع من خلالها رأس حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، مستغلة في ذلك الخلاف الحاصل بين «الجهاد»، من جهة، وحركة «حماس» الحاكمة في قطاع غزة، من جهة ثانية.
وبدأت إسرائيل استعدادها لتوجيه ضربة استباقية موسّعة ضد حركة «الجهاد الإسلامي»، لأنه بحسب تصريحات مسؤولي الدفاع الإسرائيليين، تأكدت تل أبيب من أن الحركة كانت تخطط لشن هجوم عبر حدود القطاع مع إسرائيل، بسبب اعتقال الأخيرة «بسام السعدي» القيادي البارز في حركة «الجهاد الإسلامي» بطريقة مهينة، فضلاً عن استهدافها القيادي البارز في الحركة أيضًا «تيسير الجعبري» خلال غارة جوية استهدفت المبنى الذي كان فيه. وعليه، أعلنت حركة «الجهاد» أن الهجوم الإسرائيلي كان إعلانًا للحرب؛ فأطلقت ردها بعد ذلك بوقتٍ قصير.
أوضح بيان مشترك بين «يائير لابيد»، رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت، و «بيني غانتس»، وزير الدفاع الإسرائيلي، بحسب ما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية يوم 5 أغسطس، أن إسرائيل انطلقت في هجومها الاستباقي على «الجهاد الإسلامي»، من أجل «إنهاء تهديد ملموس لمواطني إسرائيل والمستوطنات في غلاف غزة»، وهي المنطقة الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة وتشمل عشرات المستوطنات.
من جانبها، أطلقت «الجهاد الإسلامي» على العملية ضد إسرائيل وصف اسم «وحدة ساحات القتال»، في إشارة إلى استراتيجية توحيد ساحات المعارك في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية والمناطق الواقعة داخل الخط الأخضر لعام 1948، في محاولةٍ لإحباط الخطط الإسرائيلية لفصل المقاومة في غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية.
وطوال عملية «الفجر الصادق»، واصلت قوات الدفاع الإسرائيلية إطلاق النار على أهدافٍ في القطاع. وردا على ذلك، تعرضت البلدات الإسرائيلية القريبة من الحدود مع غزة لإطلاق الصواريخ طوال أيام المواجهة. وقد أطلقت إسرائيل صفارات الانذار منذ اليوم الأولى في القرى الإسرائيلية الجنوبية بالقرب من حدود غزة ومدن سديروت وعسقلان وأسدود ويفني الجنوبية وأيضًا في مدن ريشون ليزيون وحولون وبات يام. كما صدرت تعليمات للمواطنين في المجتمعات المحلية القريبة من غزة بالبقاء بالقرب من الملاجئ، وكذلك صدرت تعليمات للمواطنين في المدن الواقعة في الوسط والجنوب الإسرائيلي بالتأكد من أن ملاجئهم مفتوحة في حالة إطلاق صفارات الإنذار.
ووفقًا لملخص أعده جيش الدفاع الإسرائيلي عن العملية في 8 أغسطس، أطلق «الجهاد الإسلامي» نحو 1100 صاروخ وقذيفة هاون على إسرائيل خلال 66 ساعة من القتال، سقط 200 منها داخل غزة، بينما أسقطت منظومة «القبة الحديدية» الإسرائيلية نحو 380 من المقذوفات التى كانت تستهدف الداخل الإسرائيلي، بمعدل اعتراض 96 في المئة. ويعزى ارتفاع معدل الاعتراض إلى عمليات تحديث صواريخ «تامير» التابعة للقبة الحديدية، وكذلك إلى محدودية قوة النيران التي تتمتع بها حركة «الجهاد الإسلامي» والتي يُعتقد أن الغالبية العظمى منها هي صواريخ قصيرة المدى أو مدافع هاون، وفقًا للتقييمات العسكرية.
ومع ذلك، أفادت تقارير عسكرية إسرائيلية أن هناك عدة صواريخ لم يتمكن نظام «القبة الحديدية» من اعتراضها وسقطت في مناطق مأهولة، مما تسبب في بعض إلحاق أضرار بالمنازل والبنية التحتية المدنية، فضلاً عن إصابة أربعة أشخاص على الأقل بجروح طفيفة، من بينهم جنديان. على صعيدٍ متصل، أفاد بيان صحفي صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية أن عدد القتلى خلال الجولة الأخيرة من القتال وصل إلى 44 فلسطينيًا حتى مساء يوم 7 أغسطس، من بينهم 15 طفلاً وأربع نساء، بالإضافة إلى 260 مصابًا.
وثمة تقديرات عسكرية أفادت أنه في العديد من الحالات، انفجرت عدة صواريخ محليًا قبل إطلاقها من قبل حركة «الجهاد»، وسقطت أخرى داخل أحياء سكنية في قطاع غزة، مما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 16 فلسطينيًا غير متورطين في هذه الحوادث، بعضهم من الأطفال، ووقوع إصابات عديدة.
وبمشاركة مكثفة من الوسطاء المصريين، تم إعلان وقف إطلاق النار في الساعة 11:30 من مساء الأحد 7 أغسطس. وتفيد تقارير أن «الجهاد الإسلامي» استمر في إطلاق النار على إسرائيل بعد الموعد النهائي للهدنة المصرية، أطلق ثلاثة صواريخ باتجاه القدس. ومن جانبه، أنهى جيش الدفاع الإسرائيلي العملية بهجوم نهائي واحد على أهداف «الجهاد الإسلامي» قبل إسكات المدافع على كلا الجانبين. وظلت الساعات التالية هادئة، وفي صباح 8 أغسطس، أعلنت سلطات الدفاع عن عودة الأمور إلى طبيعتها وأعادت فتح «معبر إيريز» من غزة أمام مرور الفلسطينيين العاملين في إسرائيل و «معبر كيرم شالوم» لمرور البضائع إلى القطاع.
ثانيًا: مصالح وحسابات القوى المختلفة بشأن التصعيد أو خفض المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين:
- القوى الداخلية:
حركة حماس:
اختارت حركة «حماس» البقاء خارج المواجهة العسكرية بين حركة «الجهاد الإسلامي»، وإسرائيل. وهذه ليست المرة الأولى التي تترك فيها «حماس» «الجهاد الإسلامي» وحيدًا في مواجهة عسكرية مع إسرائيل. ففي 12 نوفمبر 2019، عندما اغتالت إسرائيل «بهاء أبو العطا»، قيادي عسكري وميداني في «سرايا القدس» الذراع العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي» في قطاع غزة. وبدورها، ردت «الجهاد الإسلامي» بإطلاق الصواريخ على إسرائيل. ولكن «باسم نعيم»، رئيس الدائرة السياسية والعلاقات الخارجية في حركة «حماس» بقطاع غزة، قال لهيئة الإذاعة البريطانية آنذاك إن حماس لم تطلق أي صاروخ تجاه إسرائيل وذلك لتجنب التصعيد في ظل الظروف المعيشية السيئة في القطاع.
واختارت «حماس»، وهي الحكومة المدنية القائمة بحكم الأمر الواقع في قطاع غزة، البقاء على الحياد. وقرار حماس لم يكن غير مسبوق، ولكنه أكّد الدور المعقّد والمتغير الذي اضطلعت به الحركة منذ هيمنتها على قطاع غزة في عام 2007. وسلّط الضوء أيضًا على الخلافات بين المنتمين لحركات المقاومة الفلسطينية حول أفضل السبل لمحاربة إسرائيل، ولفت الانتباه إلى نفوذ إيران التي تدعم كلا من «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وحدود هذا الدعم.
وموقف حماس يشير إلى أنها لا تزال قوة عسكرية تعارض وجود إسرائيل، ولكنها على عكس «الجهاد الإسلامي»، تعتبر أيضًا إدارة حاكمة وحركة اجتماعية. فعلى الرغم من كونها «استبدادية»، إلا أن «حماس» حساسة تجاه الرأي العام لسكان القطاع، والذي يدفعها إلى التعامل -ولو بشكل غير مباشر- مع إسرائيل من أجل تهدئة الأوضاع لتخفيف وطأة الظروف المعيشية الخانقة التي يحياها أهل القطاع منذ أن استولت الحركة على السلطة هناك.
ومع بداية عملية «الفجر الصادق»، أبدت «حماس» حساسية تجاه شعور الفلسطينيين بالإرهاق من احتمال حدوث مواجهة أخرى مع إسرائيل، على الأقل السادسة خلال فترة ولاية «حماس». وأظهرت العملية العسكرية أن «حماس» كانت حذرة من خسارة العديد من التدابير الاقتصادية الصغيرة ولكن المهمة للغاية التي عرضتها إسرائيل على قطاع غزة منذ المواجهة الكبرى الأخيرة في مايو 2021، بما في ذلك 14 ألف تصريح عمل إسرائيلي مما أدى إلى تعزيز اقتصاد القطاع. وهذا ما أكده أحد المسؤولين الإسرائيليين رفيعي المستوى لم يتم الكشف عن اسمه في تقرير لصحيفة «نيويورك بوست» الأمريكية منشور بتاريخ 8 أغسطس الجاري، حيث كشف عن أن السياسة الإسرائيلية الخاصة بمنح المزيد من تصاريح العمل خلال العام الماضي لعبت دورًا هامًا في إبعاد «حماس» عن هذه الجولة من القتال، لافتًا الانتباه إلى أن نتيجة هذه السياسة من شأنها أن تُشجع إسرائيل على الاعتماد على هذا النهج في المستقبل. وفي غياب التوقعات حول تغير الديناميكيات الأساسية في غزة، ناهيك عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الأوسع، فإنه من المأمول أن النجاح المتصور لهذه السياسة سيشجع إسرائيل على تخفيف المزيد من القيود في المستقبل، مما يقلل من احتمالية اندلاع العنف.
إذن، ربما كان قرار حماس بالامتناع عن المشاركة في القتال الأخير مدعومًا من قبل أغلبية الفلسطينيين في غزة الذين لم يرغبوا في تمديد القتال وتصعيده. وكان من شأن هذا التمديد أن يؤدي إلى مزيد من الخسائر في الأرواح وإلى وقف المكاسب الاقتصادية المرتبطة بتخفيف القيود الإسرائيلية مؤخرًا، والأهم من ذلك السماح لعدد أكبر من سكان غزة بالعبور إلى إسرائيل سعيًا وراء فرص عمل أكثر ربحًا.
بعد انتهاء العملية العسكرية «الفجر الصادق»، عبّرت حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» علنًا عن تضامنهما مع بعضهما البعض، ووعدتا بتوحيد قواتهما مرة أخرى في المستقبل، كما فعلتا خلال جولات سابقة من القتال في الأعوام 2008 و 2014 و 2021. وبشكل أساسي، لدى كلا التنظيمين هدف وأيديولوجية مماثلين؛ تمتد بجذورها إلى جماعة «الإخوان المسلمين» كحركة إسلامية عالمية، وتسعى إلى إنهاء إسرائيل والاستعاضة عنها بدولة فلسطينية إسلامية. وهذا ما أكّده «محمد الهندي»، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، خلال حديثه لإحدى المحطات التليفزيونية التركية بعد انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية مباشرة، حيث لا يوجد خلاف بين الحركتين، قائلاً: «لقد أصبحت علاقتنا مع حماس أكثر قوة ورسوخًا…دخلنا المعارك معًا وسندخل المعارك جنبًا إلى جنب». ومن جانبها، نشرت «حماس» بيانًا في ذلك التوقيت على موقعها عبر شبكة الانترنت، قائلةً: «إنها لا تزال متحدة ومتضامنة مع الجهاد الإسلامي، وأن مقاتلي كل الفصائل يواجهون العدوان الإسرائيلي باعتباره عدوانًا واحدًا».
ولكن، السلوك المتباين بين الحركتين أثناء الصراع يعكس أولوياتهما الحالية المختلفة، فضلاً عن الخلفيات التاريخية المختلفة نسبيًا. فتأسست «الجهاد الإسلامي» قبل أكثر من أربعة عقود، وهي أقدم وأصغر حجمًا من حركة «حماس»، وتهتم في الغالب بالمعارضة العنيفة لإسرائيل، ولا تهتم حتى بالمشاركة في الهياكل السياسية الفلسطينية. أما حركة «حماس»، فتشكلت في عام 1987، وهي حركة أكثر براغماتية نسبيًا، أي إنها حركة اجتماعية وسياسية إضافة إلى كونها متشددة. كما أنها لطالما عارضت الجهود التي تقودها «منظمة التحرير الفلسطينية»، الممثل المعترف به دوليًا للفلسطينيين، من أجل التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل في تسعينيات القرن العشرين، وشنت حملة إرهابية فتّاكة لعرقلة هذه العملية. ومع ذلك، شاركت «حماس» في الانتخابات الفلسطينية، وفازت في الانتخابات التشريعية في عام 2006، وعملت داخل حكومات الوحدة في السلطة الفلسطينية، حتى بعد انتزاع غزة من سيطرة السلطة. وفي السنوات الأخيرة، أشارت إلى استعدادها للتفاوض على هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، مع عدم الاعتراف بشرعيتها.
ومن الناحية الأيديولوجية، لا تختلف «حماس» و «الجهاد الإسلامي» كثيرًا، فكلاهما يعتقد أن إسرائيل ليس لها الحق في التواجد على أرض فلسطين، ولكن «حماس» ترى نفسها زعيمة للمجتمع الفلسطيني، وليس مجرد حركة مقاومة. ومن ناحية الدعم المالي واللوجستي، فإن كلا الحركتين تتلقيان دعمًا ماليًا ولوجستيًا من إيران، ولكن مقارباتهما المختلفة في الفترة الأخيرة تبرز كيف أن حركة «الجهاد الإسلامي» -والتي كان زعيمها «زياد النخالة» يزور طهران خلال الصراع الأخير والتقى بمسؤولين في الحرس الثوري الإيراني- باتت أكثر اقترابًا من دائرة النفوذ الإيراني من «حماس».
ومجملاً، فإن موقف «حماس» خلال الأزمة الأخيرة يعكس تحولاً من مقاومة إسرائيل والتصعيد ضدها إلى التعجيل بالوساطة التي أدت إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«الجهاد الإسلامي». فوفقًا لتقريرٍ نُشر على موقع «حماس» الإلكتروني في 8 أغسطس، أجرى «إسماعيل هنية»، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، اتصالات رسمية مع مصر وقطر، عن طريق المخابرات المصرية و «محمد بن عبد الرحمن آل ثاني»، وزير خارجية دولة قطر، كما أجرى «هنية» محادثة هاتفية مع «تور وينسلاند»، منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط.
حركة الجهاد الإسلامي:
كما هو معروف، فإن حركة «الجهاد الإسلامي» كانت فصيل المقاومة الوحيد الذي ذهب نحو التصعيد ضد إسرائيل، بعد أن اغتالت إسرائيل «الجعبري» واعتقلت «السعدي»، قياديان بارزان في الحركة، مما أدى إلى تصاعد الاشتباكات مع الجانب الإسرائيلي. من جانبه، صرّح «زياد النخالة» الأمين العام للجهاد الإسلامي، في مقابلة مع قناة الميادين اللبنانية يوم 4 أغسطس، أن «تل أبيب ستكون أحد أهداف صواريخ المقاومة، ولن تكون هناك أي خطوط حمراء في هذه المعركة والساعات القادمة ستثبت لإسرائيل أن كل قوى المقاومة واحدة وستقاتل بوحدة واحدة».
بدت حسابات «الجهاد الإسلامي» لتكثيف ضغط المواجهة ضد الإسرائيليين واضحة، نظرًا إلى الاسم الذي اختاره لهذه الجولة من التصعيد «وحدة الساحات». ورأت الحركة في الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في جنين محاولةً للقضاء على المقاومة المسلحة في الضفة الغربية. وعليه، خلُصت إلى أن اتخاذ إجراءات عاجلة ضروري لكي تثبت لإسرائيل أن مهاجمة الضفة الغربية ستكون مكلفة ويمكن أيضًا أن تفتح جبهات أخرى.
فكان السبب المباشر لتصعيد «الجهاد الإسلامي» ضد إسرائيل هو اعتقال قوات الدفاع الإسرائيلي في 1 أغسطس أحد كبار قيادات الحركة في شمال الضفة الغربية وهو «بسام السعدي». وتعهّدت الحركة، التي يقع مقرها وكل قدراتها العملياتية تقريبا في قطاع غزة، بالرد. مما أدى بدوره إلى رفع حالة التأهب في النقب الغربي لإسرائيل. كما تم تعزيز وحدات قوات الدفاع الاسرائيلية المتمركزة هناك ووضع بطاريات مضادة للصواريخ من طراز «القبة الحديدية» في حالة إستعداد للإطلاق، وتم وقف رحلات القطارات، وتم إغلاق الطرق أمام حركة المرور المدنية وتم وقف جميع الأنشطة التعليمية، وتم إصدار تعليمات للمزارعين بالابتعاد عن حقولهم.
وعلى المستوى العملياتي، وكحركة صغيرة نسبيًا، لم يكن من المتوقع أن يتحمل «الجهاد الإسلامي» أعباء القوة العسكرية القوية لإسرائيل وقدراتها التكنولوجية والاستخباراتية. وفي الواقع، يقال إن قدرات هذه الحركة المحدودة قد تراجعت أكثر خلال المواجهة الأخيرة، فقد خسر ثلاثة من كبار قياديه: قادة الكتائب الجنوبية والشمالية التابعة لها، فضلاً عن وحدتها التي تستخدم أسلحة مضادة للدبابات.
ومع ذلك، تمكّن «الجهاد الإسلامي» خلال الأيام الثلاثة نفسها من القتال من إطلاق نحو 1100 صاروخ وقذيفة أخرى ضد إسرائيل. وحتى لو سقطت أكثر من 200 من هذه القذائف داخل قطاع غزة وأسفرت عن بعض الخسائر في الأرواح بين الفلسطينيين، فإن هذا إنجاز غير بسيط بالنسبة لجماعة مقاومة صغيرة نسبيًا. ولكن أقل إثارة للدهشة هو أن نظام «القبة الحديدية» في إسرائيل كان قادرًا على اعتراض ما بين 95 و 97 في المئة من الصواريخ الموجّهة نحو مناطق مأهولة بالسكان في إسرائيل. ومع ذلك، كان التأثير النفسي لقوة النيران المنقوصة التي أطلقها «الجهاد الإسلامي» كبيرًا؛ فقد اُحتجز السكان الإسرائيليون في الجنوب كرهائن لعدة أيام، حيث استمر الجهاد الإسلامي الفلسطيني في إطلاق الصواريخ إلى أن بدأ سريان الهدنة المصرية لوقف إطلاق النار التي قبلها طرفًا الصراع.
هذا، وسلّط الهجوم الأخير الضوء على مدى خطورة غياب الرؤية والاستراتيجية والقيادة الموحدة بالنسبة للفلسطينيين. فلقد خاض «الجهاد الإسلامي» هذه المعركة وحده من دون تدخل مباشر من «حماس». وفي الوقت نفسه، لم يسأل أحد عن غياب السلطة الفلسطينية لأن غيابها أصبح مألوفًا.
وهنا انقسمت آراء المحللين حول موقف حماس من خوض المواجهة الأخيرة إلى جانب «الجهاد الإسلامي» ضد إسرائيل. فيرى الفريق الأول من المحللين أنه قد يبدو من الواضح أن «الجهاد الإسلامي» تُرك لوحده في معركته أمام إسرائيل، إلا أنه ليس هناك شك في أن الجناح العسكري لحركة حماس كان مشاركًا في الصراع، ولو بطريقة حذرة وغير معلنة. فلم يكن بإمكان «الجهاد الإسلامي» أن يشن العملية من دون ضوء أخضر من «حماس». وعلاوة على ذلك، تكشف التسريبات الميدانية والتقارير الإسرائيلية عن بصمة أمنية لـ «حماس» طيلة فترة التصعيد. ففي مؤتمر صحفي عُقد في طهران عقب وقف إطلاق النار، أصر «زياد النخالة» على أن محاولة إسرائيل لتقسيم «حماس والجهاد» لم تنجح، واصفا «حماس» بأنها «العمود الفقري للمقاومة»، مضيفًا: «نحن في تحالف مستمر معها لمواجهة العدو، وسنبقى متحدين مع جميع قوى المقاومة الأخرى».
الفريق الثاني من المحللين يقارن بين موقف «حماس» في المواجهة مع إسرائيل خلال مايو 2021، وبين موقفها خلال أغسطس 2022. ففي مايو 2021، كان قرار «حماس» بشن الهجوم ضد إسرائيل مدفوعًا إلى حد كبير بالغضب إزاء تراجع «محمود عباس»، رئيس السلطة الفلسطينية، عن وعده بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. وبالتالي، فإن قرار «حماس» بإطلاق الطلقة الافتتاحية للصواريخ باتجاه القدس -على ما يبدو ردًا على الاشتباكات في حي الشيخ جراح وعلى محاولات إسرائيل المتصورة لتغيير الوضع الراهن في جبل الهيكل (أو الحرم الشريف)- كان يهدف إلى تحدي السلطة الفلسطينية من خلال إثبات عجزها عن الدفاع عن المصالح الفلسطينية في القدس، ووضع «حماس» بدلاً من ذلك، كحارس لحقوق الفلسطينيين في الحوض المقدس. وربما كان قرار «حماس» بالامتناع عن المشاركة في القتال الأخير مدعومًا من قبل أغلبية الفلسطينيين في غزة الذين لم يرغبوا في تمديد القتال وتصعيده. وكان من شأن هذا التمديد أن يؤدي إلى مزيد من الخسائر في الأرواح وإلى وقف المكاسب الاقتصادية المرتبطة بتخفيف القيود الإسرائيلية مؤخرا، والأهم من ذلك السماح لعدد أكبر من سكان غزة بالعبور إلى إسرائيل سعيًا وراء فرص عمل أكثر ربحًا.
وعلى الرغم من الدعم العام الأوسع نطاقا لموقف حماس، ربما كان قادة الجهاد الإسلامي الفلسطيني قد حسبوا أن منظمتهم الصغيرة ستكسب بشكل كبير حتى لو أن بضع مئات فقط من الأعضاء الأكثر تطرفا إختاروا التخلي عن حماس بسبب خيانتها المتصورة والانضمام إلى الجهاد الإسلامي الفلسطيني بدلا من ذلك. وبالتالي، فإن ما قد يبدو لا معنى له في الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية قد يكون منطقيا تماما بالنسبة إلى الجهاد الإسلامي الفلسطيني داخل المشهد الداخلي الفلسطيني.
ونفس الفريق، يرى أن «الجهاد الإسلامي» ذهبت إلى إطلاق صواريخ تجاه إسرائيل، ليس لانتزاع مكاسب ذات مغزى من إسرائيل -ولا حتى للإفراج عن المسؤول الكبير في الحركة الذي اعتقلته إسرائيل قبل بضعة أيام من انطلاق المواجهات المسلّحة- بل لتقوية نفسها في مواجهة «حماس» من خلال فضح الأخيرة على أنها خانت القضية الفلسطينية بالتخلي عن الكفاح المسلح ضد إسرائيل. وقد سعى الجهاد الإسلامي الفلسطيني إلى أن يكون المنظمة الفلسطينية الوحيدة التي لا تزال ملتزمة بمحاربة الدولة اليهودية.
إسرائيل:
كان الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في الحرب الصغيرة الأخيرة ضد «الجهاد الإسلامي» هو نوعية وكمية المعلومات التي أصدرها جيش الدفاع الإسرائيلي بشأن قدراته التشغيلية والاستخباراتية. وشمل ذلك تقارير عن أداء التكنولوجيات الدقيقة الشديدة الحساسية، مع إيضاحات مفصلة لكيفية عمل هذه التكنولوجيات. كما أشارت بعض التقارير المتعلقة بالطريقة التي قُتل بها كبار قادة «الجهاد الإسلامي» بصعوبة دون وقوع أي إصابات بين المدنيين غير المتورطين وبقدر ضئيل جدًا من الضرر في الهياكل المادية المحيطة، إلى المصادر والأساليب التي تستخدمها دوائر الأمن والاستخبارات الإسرائيلية.
وقد استمر إصدار إسرائيل لتلك التقارير خلال عملية «الفجر الصادق» في إحداث تغيير مهم في سياستها الإعلامية التي تم تنفيذها تدريجيًا خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أعلنت عن قدرات تشغيلية إسرائيلية كانت تحتفظ في العقود السابقة بسرية عالية. في الشرق الأوسط الأوسع، شمل ذلك تقارير عن عمليات استخباراتية إسرائيلية داخل إيران – لا سيما تهريب الأرشيف النووي الإيراني- والإعلان عن حجم ومدى تطور الضربات الإسرائيلية في سوريا. وفي حين أن بعض هذه الإطلاقات الإعلامية قد تكون ذات دوافع سياسية، فإن الاتساق الذي حدثت معه يشير إلى نهج متغير، مما يعرض المعلومات الحساسة للخطر على أمل تعزيز الردع.
لم يقتصر الجمهور المستهدف لرسائل إسرائيل الأكثر حدة على خصوم إسرائيل مثل حماس وحزب الله وسوريا وإيران. وكان من بين الحضور على نفس القدر من الأهمية الدول العربية التي إما انضمت بالفعل إلى «إتفاقات أبراهام» أو تفكر في الانضمام إليها، وخاصة المملكة العربية السعودية وغيرها من أعضاء مجلس التعاون الخليجي. ومن المتوقع أن يؤدي ازدياد الوعي بقدرة إسرائيل القوية واستعدادها لتحمل تكاليف حماية مصالحها إلى زيادة اهتمام هذه الدول بتوثيق الروابط الأمنية مع إسرائيل.
بطبيعة الحال، كانت عملية «الفجر الصادق» عملية عسكرية محدودة للغاية ضد جماعة مسلحة صغيرة، وليس حماس أو حزب الله. ومع ذلك، سارت الأمور بسلاسة ولم يتعرض لها السكان المدنيون والعسكريون الإسرائيليون إلا بالكاد. فقد تم التخلص إلى حد كبير من قيادة «الجهاد الإسلامي» ولم يجد المجتمع الدولي إلا القليل لانتقاد إسرائيل على قيامها.
كان الهدف من اعتقال إسرائيل لـ «بسام السعدي» توجيه ضربة قاصمة للإرهاب الذي اجتاح إسرائيل من أواخر مارس إلى أوائل مايو الماضي، فضلاً عن اقتراب موعد انتخابات الكنيست في أواخر العام الجاري، فقد كانت المواجهات العسكرية مع «الجهاد الإسلامي» فرصة لـ «يائير لابيد»، رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت، على المستوى السياسي والأمني، والذي يعمل بصلابة، ويكافح من أجل إثبات مكانته كبديل عملي لرئيس الوزراء السابق «بنيامين نتنياهو» قبل انتخابات 1 نوفمبر.
وبشكل أكثر دقة، يمكن إجمال الحسابات والدوافع الإسرائيلية لشن هجوم استباقي على «الجهاد الإسلامي»، في كونها تجاوزت بكثير تحييد التهديد التكتيكي وحماية سكان ما يسمى بغلاف غزة من هجوم محتمل. بل شملت أيضًا ما يلي:
تعزيز الانقسام الفلسطيني: فلا شك أن وحدة الجبهة الفلسطينية تشكل تهديدًا استراتيجيًا لإسرائيل، وهذه الوحدة أصبحت واقعًا ملموسًا أثناء الاشتباكات التي اندلعت في 2021. ونتيجة لهذا، سعت إسرائيل منذ ذلك الوقت إلى إستعادة الفصل بين الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، فتعاملت مع كل من هذه الأطراف في عزلة.
فصل فصائل المقاومة عن بعضها: وبالتوازي مع ما سبق، تسعى إسرائيل إلى التفريق بين «حماس» و«الجهاد الإسلامي» من خلال التركيز على المكاسب التي يمكن أن تجنيها «حماس» إذا بقيت بعيدة عن المواجهة المستمرة، كما يتضح من حرصها على تجنب إثارة «حماس».
تعزيز السيرة العسكرية لـ «يائير لابيد»: بالنظر إلى المهن العسكرية والأمنية الطويلة لرؤساء الحكومة الإسرائيلية السابقين، ربما سعى «يائير لابيد»، رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت، الذي كانت خلفيته العسكرية تقتصر على العمل كمراسل لصحيفة الجيش الأسبوعية، إلى تعزيز سيرته الذاتية قبل الانتخابات في نوفمبر المقبل.
تحديث أهداف إسرائيل العسكرية: تماشيًا مع السياسة التي ينتهجها لاستخدام القوة العسكرية الساحقة بشكل دوري، أو «جز العشب» لإبقاء الجماعات المسلحة المعادية ضعيفة، فإن الجيش الإسرائيلي يتطلع بشكل مستمر إلى تحديث أهدافه في غزة، والتي قد تتضمن قدرات صاروخية، أو أنفاق، أو غير ذلك من البنية الأساسية. ولكن هذه المرة كان من الواضح أنها كانت راغبة في توجيه ضربة أكثر إيلامًا.
إرسال رسالة إلى «حزب الله» في لبنان: قد يكون تصعيد التوترات بين إسرائيل وحزب الله بشأن استغلال إسرائيل المستمر لحقول الغاز الطبيعي في كاريش، والتي يعتبرها الجانب الإسرائيلي أولوية اقتصادية عالية والتي يعتبرها لبنان هجومًا على مصالحه، عاملاً آخر. وقد يكون أيضًا وسيلة لتحييد الجبهة الفلسطينية في حالة وقوع مواجهة عسكرية على طول الجبهة الشمالية.
تسويق الأسلحة الجديدة المستخدمة في المعركة: تباهت مصادر عسكرية إسرائيلية رفيعة المستوى باستخدام سلاحين جديدين لاغتيال «الجعبري،» الذي دمرت شقته دون إلحاق أضرار كبيرة بالمبنى المجاور وسكانه الآخرين.
مجملاً، حقق هجوم إسرائيل عدة أهداف استراتيجية وتكتيكية وإن لم يكن كلها. لقد نجحت في توجيه ضربة قاسية، وإن لم تكن حاسمة بالضرورة، إلى «حركة الجهاد الإسلامي». ونجح «يائير لابيد»، رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت، في الفوز بورقة قد تزيد من فرصه في الانتخابات المقبلة. لكن فيما يتعلق بإبقاء جبهتي غزة والضفة الغربية منفصلتين وانقسام فصائل المقاومة، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق اختراق كبير. وعلى الرغم من فقدان الثقة والأضرار التي لحقت بالعلاقة بين حماس والجبهة، أوضح قادة الحركتين أنهما يواصلان التنسيق والتعاون الوثيق.
- القوى الخارجية:
إيران:
كان الموقف الإيراني واضحًا منذ بداية التصعيد بين الإسرائيليين و «الجهاد الإسلامي»، فقد أكّد «محمد سلامي»، قائد الحرس الثوري الإيراني، منذ بداية المواجهة العسكرية أن الفلسطينيين «ليسوا وحدهم» في قتالهم ضد إسرائيل. وقال الجنرال «حسين سلامي» في بيانٍ نُشر يوم 6 أغسطس إن «كل القدرات الجهادية المعادية للصهيونية موجودة اليوم في إطار تشكيل موحد يعمل على تحرير القدس واحترام حقوق الشعب الفلسطيني».
سلّطت المواجهة العسكرية بين «الجهاد الإسلامي» وإسرائيل الضوء على العلاقة بين الحركة الفلسطينية وعلاقتها مع طهران، حيث يرى محللون أن الحركة تشن حرباً بالوكالة على إسرائيل وتسعى إلى تحقيق أهداف مرتبطة بصانع القرار الإيراني. فقبل أيام قليلة من بدء التصعيد، كان «زياد النخالة»، زعيم حركة الجهاد الإسلامي، في زيارة إلى إيران عقد خلالها سلسلة من الاجتماعات مع أعضاء بارزين في الحكومة الإيرانية، حيث التقى بـ «حسين أمير عبد اللهيان»، وزير الخارجية الإيراني، و «إبراهيم رئيسي»، الرئيس الإيراني، و «حسين سلامي»، قائد الحرس الثوري الإسلامي، والذي وضح موقفه على الفور «للنخالة»، قائلاً: «نحن نرافقكم على هذا الطريق حتى النهاية – ولتعرف فلسطين والفلسطينيون أنهم ليسوا وحدهم»، مضيفًا «أن الرد الفلسطيني أظهر أن فصلاً جديدًا قد بدأ، وأن إسرائيل ستدفع ثمنًا باهظًا آخرًا للجريمة الأخيرة».
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه تحت قيادة «النخالة»، أصبح التقارب الأيديولوجي بين إيران و «الجهاد الإسلامي» يتوطد أكثر فأكثر سياسيًا وعسكريًا، حتى باتت الحركة مؤسسة تابعة بنسبة 100 في المئة لإيران، حيث تتردد أقاويل أن الحركة في فلسطين تتلقى أوامر مباشرة من الحرس الثوري الإيراني. بالإضافة إلى ذلك، فإن إيران زودت قطاع غزة بصواريخ استخدمت لشن هجمات على تل أبيب.
ومجملاً، يمكن القول إن الموقف الإيراني يذهب دومًا تجاه التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لتحقيق أغراض ومصالح جيوسياسة بعينها، من بينها ما يلي:
- درء التهديدات الإسرائيلية المستمرة للمنشآت النووية الإيرانية:
تفيد العديد من التقارير الإعلامية، أن إسرائيل تسعى نحو عمل عسكري محتمل ضد إيران. ففي أواخر العام الماضي، كشفت صحيفة «يسرائيل هيوم» عن موافقة الكنيست على ميزانية إضافية لدعم عمل الأجهزة الأمنية بنحو 3 مليارات دولار، كما أن المسؤولون الإسرائيليون يضغطون على واشنطن والقوى الغربية لصالح عدم التوقيع على اتفاق نووي مع طهران. وعلى الرغم من أن محللين يرون أن التهديدات الإسرائيلية المستمرة على إيران بعمل عمليات عسكرية هناك، للاستهلاك فقط، وهدفها هو الضغط على كل المفاوضين في فيينا، إلا أن إسرائيل لا تستطيع قصف إيران منفردة، وأمريكا لن تشترك أو تعطي الضوء الأخضر في هذا الشأن، لأن إيران سترد على أي موافقة أمريكية بضرب مصالحها في الشرق الأوسط. ولكن إيران، من ناحيتها، لم تتوقف عن توجيه ضربات استباقية لخصمها المباشر إسرائيل، خاصة عن طريق وكلائها سواء حزب الله في لبنان أو «الجهاد الإسلامي» في فلسطين.
- الاستثمار في الإرهاب ودعم الوكلاء:
لسنواتٍ، دعمت إيران حركة «حماس». ولكن بعد المواجهة العسكرية بين «حماس» والإسرائيليين في مايو 2021، والموقف المحايد للحركة خلال المواجهة الأخيرة أغسطس 2022، باتت طهران تنظر الآن لـ «حماس» كونها متساهلة للغاية مع إسرائيل. وهذا هو سبب اعتمادهم بشكل متزايد على حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين. وتتبع إيران أيضًا استراتيجية تتبعها في الشرق الأوسط وهي الحفاظ على العلاقات مع الجهات الفاعلة غير الحكومية أو «الوكلاء» مثل حزب الله اللبناني أو الحوثيين اليمنيين، أو الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران – وإذا لزم الأمر يتم توجيهها أيضًا لتصبح نشطة عسكريًا. وبهذه الطريقة، تبني إيران نوعًا من الجدار الأمنية لحماية نفسها من الهجمات الخارجية. فإذا شعرت بالتهديد، فإنها توجه شركائها إلى اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين تعتبرهم إيران المعتدين. ويمكن أن يكون لهذا المنطق دور في الصراع في غزة في الأيام القليلة الماضية. لأنه في الأشهر القليلة الماضية، شنت إسرائيل مرة أخرى مئات الهجمات ضد وجود القوات الإيرانية أو الميليشيات المرتبطة بإيران في سوريا.
- إنشاء مركز قوة شيعي تسيطر عليه إيران:
تسعى إيران إلى تحقيق هدف آخر من خلال تقديم الدعم لحركة «الجهاد الإسلامي»، إذ يُنظر إلى المنظمة الفلسطينية في طهران على أنها جسر يمكن من خلاله الجمع بين الطائفتين السنية والشيعية في الشرق الأوسط. وبالنسبة لإيران يتعلق الأمر بـالتسلل إلى المجتمعات السنية لقبول سياسات إيران وفرض أيديولوجياتها الإسلامية. والهدف من ذلك هو إنشاء مركز قوة شيعي تسيطر عليه إيران.
مصر:
يمثل أي توتر أو صراع يندلع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من القضايا ذات الحساسية الأمنية العالية لمصر، خاصةً فيما يتعلق بتأمين حدودها الشرقية. لذلك، تسعى مصر دومًا إلى عرض جهود الوساطة في حال اندلاع مواجهات عسكرية في قطاع غزة بين الإسرائيليين وحركات المقاومة الفلسطينية.
وبالفعل، أنهت جهود الوساطة المصرية ثلاثة أيام من الصراع المتجدد بين إسرائيل و «الجهاد الإسلامى» في قطاع غزة، وأكدت إسرائيل في بيان رسمي يوم 7 أغسطس أنها ستوقف القتال مع «الجهاد الإسلامي» في غزة الساعة 11:30 مساء بالتوقيت المحلي. بيد أنها هددت بالرد بالقوة على أي خرق لوقف إطلاق النار. وأعربت تل أبيب عن شكرها لمصر لجهودها في ضمان وضع نهاية للتصعيد.
ويمكن القول إن نجاح الوساطة المصرية في الوصول لهدنة في الأراضي الفلسطينية يرجع لسابق خبراتها في هذا الملف وثقة وقبول الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بها، وتأكدهما من إيجابية الدور المصري وابتعاده عن المزايدات السياسية ولعبة المصالح. وبسبب الثقل الإقليمي الذي تتمتع به مصر، فإن جهود وساطتها دومًا ما تجد قبولاً لدى الفصائل الفلسطينية، ومطالبها منهم تجد التزامًا كبيرًا، وهو ما تعلمه وتدركه إسرائيل؛ فالوساطة المصرية هدفها وقف العنف ومنع التصعيد في الأراضي الفلسطينية كهدف إنساني يسعى لحماية الفلسطينيين، ويحول دون استمرار عدم الاستقرار في المنطقة.
هذا، ولطالما تسعى مصر إلى وقف أي أزمات أو اقتتال في المنطقة بصفة عامة، وعلى حدودها الشرقية بصفة خاصة، وتسعى للسلام، لاعتبارات متعلقة بالأمن القومي العربي، واعتبارات أمنية مصرية.
وإجمالاً، يمكن القول أن مصر بعد عام 2014، باتت أشد حرصًا على خفض أي تصعيد عسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة؛ لعدة عوامل وهي:
- انشغال مصر بمحاربة المجموعات الإرهابية في شمال سيناء: انطلقت الجهود المصرية لمحاربة الإرهاب في شمال سيناء منذ حوالي عقد، ولا يزال التهديد المستمر مصدراً للقلق بالنسبة للقيادة المصرية، كما يرتب تكاليف باهظة عن الإبقاء على وجود عسكري. فبين الفينة والأخرى، يتكبد الجيش ضحايا وإصابات في صفوفه، ويصاحبه تزايد المخاوف من تسلل المتشددين والإرهابيين عبر قطاع غزة إلى مصر. ولسنوات، وُجّت اتهامات لحماس بالتواطؤ في الأنشطة الإرهابية في سيناء والتدخل في شؤون الدولة المصرية. وانطلاقًا من ذلك، مصر حريصة دومًا على قيادة جهود التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
- 2- تحييد الانقسام الفلسطيني: تستهدف إسرائيل دومًا تكريس الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية، عندما تشن عملياتها العسكرية. وهذا الأمر يبرز في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الذي بدأ في الترويج لانقسام محتمل بين الجهاد الإسلامي وحماس من ناحية، وبين حماس وحركة فتح من ناحية أخرى. وبالتالي تسعى مصر إلى صد أي محاولات إسرائيلية تعمل على شق الصف الفلسطيني وإحباط محاولات المصالحة أو تقليل فرص إقامة مؤسسات فلسطينية وطنية تسهم في استقرار الدولة الفلسطينية مستقبلاً.
- استمرار مشروعات إعادة إعمار غزة: تستهدف مصر من خلال مشروع إعادة إعمار غزة رفع القدرة المعيشية في القطاع وتحويله إلى منطقة قابلة للحياة للفلسطينيين القاطنين فيه، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية التي تستهدف البنية التحتية الخدمية والاقتصادية في القطاع. لذلك مصر خلال المواجهة العسكرية الأخيرة كانت حريصة على أهمية تحقيق الهدوء داخل قطاع غزة بشكل يسهم في دعم استكمال جهود إعادة الإعمار، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل بدء التصعيد.
- إعادة التموضع الإقليمي لمصر: يأتي الموقف الوسيط لمصر خلال المواجهة العسكرية الأخيرة امتدادًا لموقفها خلال حرب مايو 2021، فلا يزال الموقف المصري من التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين ينطلق من التغيرات الجيوستراتيجية الإقليمية التي حدثت خلال العامين الأخيرين، والتي أدت إلى إعادة تموضع الجهات الفاعلة الإقليمية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، حيث توقيع «اتفاقات أبراهام» وتزايد الحديث عن «ناتو عربي» و تعاون دفاعي وثيق مع زيارة «جو بايدن»، الرئيس الأمريكي، منتصف يوليو الماضي إلى الشرق الأوسط. هذه التحولات الجيوسياسية تدفع مصر إلى مواصلة نهج إعادة التموضع إقليميًا لحماية مصالحها الوطنية، ومقاومة الشعور بالتهديد من بعض الدول العربية الساعية إلى استبدال دور مصر وعلاقاتها مع إسرائيل. كما تحاول مصر الاستفادة دومًا من أحداث التصعيد في فلسطين لجذب الاهتمام وحشد الدعم الدولي للنزاع الدائر مع إثيوبيا حول سد النهضة. وبالتالي تأمل القاهرة في الاستفادة من دورها في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لتحسين موقفها التفاوضي في ملف سد النهضة، وتأكيد نفسها كقوة إقليمية مهمة.