من منا لم يشاهد رائعة الدراما المصرية “رأفت الهجان”؟! بل من منا لم يشاهده أكثر من مرة؟! بلا كلل.. بلا ملل، عمل فني ملهم صنع بحب فطرح عشقا في وجدان كل مصري ومصرية، عاشوا معه بكل تفاصيله، عرفوا أبطاله كأنهم جزء من أفراد العائلة، تلقفوا رسائله الموجهة من بين السطور، ولعل أشهرها ما ذكره الهجان عن “عائلة روتشيلد”.
من منا لا يتذكر “سيرينا أهاروني”، تلك المرأة التي وقفت بجوار “ديفيد شارل سمحون” منذ أن وطأت قدماه أرضا غير أرضه، كيف ننسى مشهد الصاغ “محمد رفيق”، وهو يقف مرتبكًا أمام “نبيل لمعي” مبعوث رئاسة الجمهورية مطلعًا إياه عن بطولات الهجان لصالح الثورة الجزائرية، مهما طال الزمان لن ننسى الجنرال “دان رابينوفيتش”، الذي لقبته المخابرات المصرية بالمتصابي، قصة العشق بين الهجان و”إستر بولونيسكي” ومن بعدها “حنا بلومبرج” ثم “ياهوديت موردخاي” ومن قبلهم جميعًا “ليليان فيردمان”.
شخصيات عديدة كان لها دور بارز في مسيرة “رأفت الهجان”، أولهم السيد “محسن ممتاز”، أجرأهم السيد “نديم هاشم” أو “نديم قلب الأسد”، أقربهم السيد “مصطفى عبد العظيم”، أكفأهم السيد “عزيز الجبالي”، لكن من بين كل تلك الشخصيات التي كان لها دور في تثبيت أقدام “رأفت الهجان” أو “ديفيد شارل سمحون” أو “ياكوف بنيامين حنانيا” أو “جون دارلينج” أو “ليفي كوهين” أو “أحمد العلايلي” أو “عادل مرقص سيدهم” أو “جون براد” أو “دانييل مارتان”، قليلون هم من يتذكرون “جلال شرف الدين”.
أثناء تكوين الهجان لشبكته في تل أبيب، الجنرال المتصابي أحد الأسماء المرشحة أراد طمأنة أو إقناع نفسه بأنه يؤدي دورًا وطنيًا وليس عملًا جاسوسيًا، ومن هذا المنطلق رغب في مقابلة أحد أعضاء المنظمة السرية حتى يطمئن قلبه وعقله لنواياهم الهادفة لنشر السلام في المنطقة، وحفاظًا على سرية العملية وأن تظل محصورة بين المصريين اختار السيد “عزيز الجبالي” صديقه ضابط الجيش المصري “جلال شرف الدين” ليؤدي دور الضابط الإنجليزي.
هنا لا أقف عند جلال نفسه ولن أتطرق لمقابلته العبقرية مع “دان رابينوفيتش”، بل أهتم أكثر بالوصف الذي استخدمه الجبالي أمام السيدة “هيلين ريشتر” أو فراو “سمحون” لتوضيح أسباب اختيار “جلال شرف الدين” لأداء دور الضابط الانجليزي، وصف اختصره بجملة تتصف بالسهل الممتنع “شخصيته تجمع بين نقيضين بينهما انسجام من نوع غريب، الأرستقراطية الإنجليزية وروح ابن البلد المصري الأصيل”.
ربما لم يدرك السيناريست “صلاح مرسي” أن تلك الجملة المستخدمة في وصف “جلال شرف الدين” على لسان الجبالي، لم تعد وصفًا يخص جلال فقط، بل أصبحت وصفا ينطبق على غالبية المصريين بشكل عام، لقد أصبحنا كلنا “جلال شرف الدين”، بل أني لا أستثني أحدًا… حتى بالصمت العاجز قليل الحيلة، كما قال الفنان “أحمد ذكي” بتصرف في فيلم “ضد الحكومة”.
المتتبع لردود أفعال المواطنين على القرارات والأحداث المختلفة خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة يعلم تمامًا أننا أصبحنا قادرين على رفض الشيء وعكسه، المطالبة بالفعل وعكسه، قبول التاريخ ورفضه، تمجيد الأشخاص وتحقيرهم، وهنا تحضرني مقولة الفنان “أكرم حسني” في فيلم “الكويسين” عندما قال “رماح لو اتبقى منه شنبه هيفضل يدافع عن الحق والباطل، عن الخير والشر، عن العدل والظلم”.
نموذج مدينة العلمين الجديدة
في 23 أكتوبر عام 1942 وقعت معركة “العلمين الثانية” خلال أحداث الحرب العالمية الثانية، وهي المعركة التي شهدت انتصار القوات البريطانية بقيادة “برنارد مونتجمري”، قائد الجيش الثامن البريطاني على الجيش الألماني بقيادة “إرفين رومل”، ومثلت هذه المعركة نقطة تحول في مجرى الحرب العالمية الثانية وفقدان سيطرة دول المحور على شمال أفريقيا.
منذ هذا التاريخ فإن قرابة 2680 كيلومترًا مربعًا من أراضي الساحل الشمالي الغربي لمصر زرعت بما يقارب 17 مليون لغم على حسب بيان الهيئة العامة للاستعلامات، ورغم تمركز وحدة متخصصة من سلاح المهندسين التابع للجيش بالقرب من العلمين، تقوم بعمليات مسح لكشف الألغام إلى جانب المساعدات الدولية التي قُدمت لنزع الألغام في المنطقة، مع ذلك لا زال الأمر يشكل خطرًا على السكان وعائقًا أمام التنمية واستصلاح وزراعة مساحات شاسعة من الأراضي رغم توافر المياه اللازمة، إضافة إلى تعطيل إقامة مشروعات التنمية في الساحل الشمالي وبعض مناطق مرسى مطروح.
منذ أن تفتحت عيناي على الحياة السياسية وأنا أقرأ الاستياء المذكور في الفقرة السابقة المتعلق بانتشار الألغام في الساحل الشمالي، وعدم وجود إرادة حقيقية للدولة المصرية من أجل إزالة هذه الألغام والاستفادة من تلك المنطقة الساحرة، فمنذ عام 1995 تم إزالة 1.5 مليون لغم فقط من أصل 23 مليون لغم في الصحراء الغربية وسيناء.
مقالات رأي ومثقفون يطلون علينا من برامج التوك شو وأخبار وتحليلات كلها تؤكد على ضرورة إزالة الألغام من أجل إعمار المنطقة بما يعود بالنفع على الاقتصاد المصري، نظريات تتهم الدولة المصرية بالتقصير الشديد في هذه الملف، إلى أن ظهر للنور مشروع يحقق ما كان يطالب به المصريون… مدينة العلمين الجديدة.
مدينة العلمين الجديدة على مساحة 48 ألف فدان تحولت من أكبر منطقة صحراوية داخل محافظة مرسى مطروح تحتوى على الألغام إلى مدينة تضاهى المدن العالمية، بهدوء ودون ضجة نمى للدولة المصرية إرادة حقيقية تهدف إلى التخلص من حقل ألغام الساحل الشمالي وتحقيق الاستفادة القصوى من هذه المنطقة، وهنا تتجلى طبيعة الشخصية المصرية التي تجمع بين نقيضين بينهما انسجام من نوع غريب.
نرفض الصمت المهين على وجود حقل الألغام في منطقة العلمين، ونرفض أيضا إزالة مساحة كبيرة من الألغام وتحويلها لمدينة عالمية، نطالب بضرورة تحقيق الاستفادة الاقتصادية من تلك المنطقة الشاطئية، وعندما بدأت الدولة في تحقيق ذلك، نرفض تحقيق الاستفادة الاقتصادية من مدينة العلمين الجديدة.
المقصد
في عام 2003 عرض مسلسل سوري اسمه “الشتات” وهو عبارة عن دراما سياسية تستعرض نشوء الحركة الصهيونية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية منذ عام 1812 وحتى عان 1948، مسلسل أكثر تعمقًا من مسلسل “فارس بلا جواد” يكشف كيف بدأت الحركة على يد “أمشيل روتشيلد” الذي أوكل لأولاده الخمسة السيطرة على أهم بلدان العالم في ذلك الوقت، فوقعت ألمانيا من نصيب “أتسليم روتشيلد”، النمسا من نصيب “سالمون روتشيلد”، بريطانيا من نصيب “ناتان روتشيلد”، فرنسا من نصيب “جيمز روتشيلد”، والفاتيكان من نصيب “كارل روتشيلد”، المسلسل الذي يتكون من 30 حلقة عرضت منه 18 حلقة فقط على قناة المنار، وتم منع عرض باقي الحلقات تحت ضغط أمريكي إسرائيلي أوروبي.
أشعر وأن الشعب المصري يعاني من الشتات الداخلي بفعل فاعل، ليس شعورًا بالإحباط كما صرح “عمرو موسى” منذ أيام، لكنه فقدان للهوية والبوصلة جعله متخبط الرأي، ولعل ذلك التخبط يظهر جليًا في التعاطي الشعبي مع بناء مدينة العلمين الجديدة، نموذج واضح لطبيعة الشخصية المصرية التي تجمع بين نقيضين بينهما انسجام من نوع غريب، نموذج متكرر إذا دققنا النظر، نستاء من التكدس داخل الوادي ونرفض الخروج للصحراء، نعيب على “مصطفى فهمي” تصابيه ونتنمر من ظهور “ميرفت أمين” راضية بتجاعيد العمر، نغضب من الكافيهات التي احتلت الأرصفة وأغلقت الشوارع ونرفض إغلاق مطعم البرنس لأنه احتل الرصيف وأغلق الشارع، نشكو من الفساد المستشري في كل بيئة ونرفض المشاركة في إصلاحه محافظين على سلبيتنا، نرفض تطبيق الضرب في المدارس ونرحب به في مراكز الدروس الخصوصية، نشمئز من أغاني المهرجانات وكلماتها القبيحة ونرفض منع أصحابها من الغناء، نلوم على الدولة استخدام نظرية “بص العصفورة” ثم ننجرف معها طواعية!!
إن آن لهذا المقال أن ينتهي، فلعله ينتهي بسؤال يجمع بين البساطة والصعوبة، يجمع بين نقيضين بينهما انسجام من نوع غريب … ماذا يريد المصريون؟!