م: مصطفى طوبجي
باحث فى التاريخ السياسي
“الراجل ده يقصد مين بالسفهاء؟”
واحد من أشهرالأسئلة الاستنكارية في السينما المصرية ضمن مشهد احتفظ لنفسه بمكانة خاصة بين قلوب المشاهدين، ليس بسبب الحوار إنما اعتمادا على لغة الجسد، في عام 1992 عرض فيلم “الإرهاب والكباب” وإذ بالراحل «كمال الشناوي» بصفته وزيرا للداخلية يوجه سؤاله هذا لـ«فؤاد فرغلي» مدير أمن القاهرة، يستفسر عن حقيقة دعاء «أحمد أبو عبية» إمام المسجد، لينتهي المشهد بمحاولة كاذبة من الشناوي لإقناع نفسه بأن إرهابيي مجمع التحرير هم المعنيون بالدعاء.
فيلم “الإرهاب والكباب” في اعتقادي الشخصي واحد من أهم الأفلام التي ظهر فيها ممثل يؤدي دور “وزير الداخلية”، ذلك المنصب السيادي الذي يلزم تدقيقا في اختيار الممثل كي ينجح في إقناع الجمهور، وحرصا أكبرمن صناع العمل أثناء كتابة تفاصيل الشخصية حتى يمكن تمرير الفيلم رقابيا وعرضه، لذا لم يكن هناك أفضل من اختيار فارس الرومانسية المتمكن من تغيير جلده بجدارة لأداء الدور.
وعلى حسب معلوماتي الفنية حل علينا عام 1976 حاملا معه أول ظهور صريح لمنصب وزير الداخلية، شرير السينما الأنيق الفنان «جميل راتب» طل علينا مؤديا دور “عوني حافظ” وزير الداخلية في فيلم “سنة أولى حب”، والذي تدور أحداثه في عهد ما قبل ثورة 23 يوليو، يظهر فيه الوزير مكروها من زوجته مغضوبا عليه من ابنته مهددا لزعيم المعارضة متعرضا لمحاولة اغتيال.
وما بين دور «كمال الشناوي» في فيلم “الإرهاب والكباب”، و«يوسف فوزي» في فيلم “ظاظا” عام 2006، و«خالد ذكي» في مسلسل “صاحب السعادة” عام 2014، و«محمود حميدة» في فيلم “قط وفار” عام 2015، اجتمع أربعتهم على تصريح واحد… حاولنا إطفاء لمسة من خفة الظل على صاحب المنصب الصارم، بدلا من الفكرة العامة السائدة عن ذلك المنصب المتجهم صاحبه طوال الوقت.
تاريخ وزراء الداخلية
بدء من «مصطفى رياض باشا» أول ناظر للداخلية عام 1878 في عهد الخديوي «إسماعيل باشا» انتهاء باللواء «محمود توفيق» وزير الداخلية الحالي، قليلون هم من استطاعوا حفر أسمائهم في ذاكرة المواطن المصري، سواء تم الحفر بحروف من نور أو سلاسل من نار،حتى أن تولي «جمال عبد الناصر» لمنصب وزير الداخلية لمدة أربعة أشهرعام 1952 تظل معلومة غير دارجة لا يعلمها الكثيرون.
ومن بين القليل الذين حفروا أسمائهم في الذاكرة، واحد فقط احتفظ لنفسه بمكانة خاصة بين قلوب المواطنين، وزير الداخلية الوحيد الذي انتشر معه إحساس عام بالطمأنينة، بل إنهم أحبوه وارتبطوا به عاطفيا كما لو كان نجما سينمائيا يؤدي دورا في أحد الأفلام… إنه اللواء «أحمد رشدي» الملقب بـ “قاهر المخدرات”، الوزير الوحيد الذي تقدم باستقالته ولم تتم إقالته أو تغييره ضمن تعديل وزاري، وربما هو الوحيد أيضا الذي أنطبق عليه الوصف المتكرر من كافة الممثلين… يمتلك لمسة من خفة الظل تليقبصاحب منصب صارم.
وزير داخلية الوطن
المميز في اللواء «أحمد رشدي» كوزير للداخلية عدم تحركه من منطلق أمني، بل تحرك من دافع وطني، كيف لا وهو من درب الفدائيين في قناة السويس عام 1951 لمواجهة المحتل الإنجليزي، ذلك الدافع الوطني الذي مكنه من القضاء على تجارة المخدرات في منطقة الباطنية، ذلك الدافع الوطني الذي جعله يوقف المواطنين في الشارع لضبط “الموظفين المزوغين” ومن ثم إرادة تسليمهم لوزاراتهم، ذلك الدافع الذي تمثل في انتشار كبار قيادات الوزارة في الشوارع للحفاظ على الانضباط المروري، ذلك الدافع الوطني الذي أظهر للعامة أشهر قضية فساد دون خوف من العواقب.
في فبراير عام 1986 ألقت قوات الأمن على 17 وكيل وزارة بعد توجيه تهمة تلقي رشوة من شركة ألمانية لتسهيل تمرير صفقة في وزارة التجارة والصناعة، ومازاد من خطورة الواقعة أن المتهم الرئيسي في القضية الأستاذ «عبد الخالق المحجوب» وكيل وزارة الاقتصاد سابقا،هوالأخ الشقيق للسيد «رفعت المحجوب» رئيس مجلس الشعب وقتها، وبالمناسبة حكم على عبد الخالق بالسجن 3 سنوات وغرامة 100 ألف جنيه…. عام 2009.
هاجت الصحف وماجت، انكشفت الحقائق وأعلنت، حتى عندما أشيع عن مساعدة الداخلية للمتهم الأول ليهرب كونه شقيق رئيس مجلس الشعب، اعتبر رشدي تلك الشائعة مساسا بكرامته ووجه بضرورة سرعة ضبط وإحضار المتهم، وهو ما أكد لـ “جمهورية الفساد” أن وجود اللواء «أحمد رشدي» على رأس وزارة الداخلية سينال من رؤوسهم جميعا.
بعد 22 يوم فقط من قضية الفساد الكبرى انفجرت أحداث الأمن المركزي، شائعة انتشرت بين الجنود بتمديد الخدمة العسكرية لعام رابع، شائعة خرج على أثرها عساكر الأمن المركزي من معسكراتهم كالسيل يدمر ويحرق ما يقف في طريقه، ورغم محاولات التهدئة المستمرة والتأكيد على أنها شائعة ونزول اللواء رشدي بنفسه وسط الجنود، إلا أن النار لم تعد قابلة للإخماد خاصة مع عمليات الإشعال المستمرة، ليقدم رشدي استقالته قبل أن يكمل عامه الثاني في منصبه.
المقصد
الشائعات ليست إلا سلاحا أخيرا للفساد أي كان نوعه (سياسي – أخلاقي – ديني – مالي)، لمواجهة أي تهديد لمراكز ورموز “جمهورية الفساد”، سلاح أطاح بواحد من أكفأ وزراء الداخلية وربما ينجح في الإطاحة بالحكومة كاملة، وإذا ما تفاقم الأمر… قد تطيح الشائعات بدولة بأكلمها.
المؤسف في الشائعات أنها معتمدة في المقام الأول على طبيعة النفس البشرية، تلك الطبيعة اللعينة التي تميل لتصديق كل ماهو سلبي دون بذل أي جهد أو محاولة للتحقق، وكلما زادت الشائعة سوداوية كلما انتشرت أسرع، كلما كانت مبهمة التفاصيل كلما زاد معدل التصديق، كلما ركزت على موضوع واحد كلما صدقها فئات مختلفة من المواطنين، والطريقة الوحيدة للتصدي لهذه الظاهرة تتلخص في زيادة نسبة الوعي.
لذا فإن المتابع الجيد للشأن العام المصري يلاحظ محاولات جاهدة لتسطيح كافة القضايا، حتى الإعلام الذي يصف نفسه مؤيدا وطنيا لا يهتم حقا بنشر المعرفة أو شرح القضايا المختلفة بأسلوب يهدف لزيادة الوعي، لا… فقط إثارة للقضايا الجدلية والخلافية من أجل زيادة الشحن المعنوي والعاطفي دون إكساب العقل أي معلومة مفيدة.
لقد اختطف الإعلام ومن قبله السوشيال ميديا، المواطن المصري، اختطفوه وأخذوه رهينة في محاولة للقضاء على مجتمع عاش فيه في يوم من الأيام أمثال «طه حسين»، «فرج فودة»، «عبد الوهاب المسيري»، «جمال حمدان»، «عباس العقاد»، «نجيب محفوظ»، اختطفوه ولم يكلفوا أنفسهم حتى بعرض أفكار بديلة لائقة بل كل ما فعلوه أنهم طلبوا “كباب وكفتة” ونسوا أنه في أوروبا والدول المتقدمة يطلبون مع الكباب طحينة.[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]