مقدمة: –
بادئ ذي بدء، تُعَدُّ العلاقة بين الديمُقراطية واستقرار الحُكم، والتنمية بصفة عامة أو “التنمية الاقتصادية” بصفة خاصة من العلاقات الجدليَّة والمثيرة للاهتمام للعديد من المُنظرين في علمي السياسة والاقتصاد على حد السواء. فالتقدم الاقتصادي لدولة ما يُساعد ويُعزز بشكل كبير من استقرار النظام السياسي السائد فيها، بينما تؤثر المصاعب والقلاقِل الاقتصادية بشكل سلبي في درجة قبول الشعوب لنُظم الحُكم السائدة في بلادها. ومن جانب آخر، هناك من يرى أن الاستقرار السياسي يُعَدُّ عاملًا رئيسيًا من العوامل المساعدة في تحقيق التقدم الاقتصادي، وجذب الاستثمارات الخارجية. وخلافًا لذلك، فإنه عندما تعصف المشكلات السياسية بدولة ما قد يكون ذلك مرآه عاكسة عن الأداء الاقتصادي الضعيف لهذه الدولة، أو دليل على عدم فعالية مؤسسات ذلك النظام الرسمية والغير رسمية. ونتيجةً لذلك، يُدرك خُبراء الاقتصاد وعلماء السياسة بشكلٍ متزايد ضرورة وأهمية وجود مؤسسات قوية للديمُقراطية والتنمية، حيث تتفاعل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الرسمية وغير الرسمية، مع بعضها البعض لتشكيل وتوزيع الثروة والسُلطة في مجتمع معين. كما أنه عند الإشارة إلى التنمية كعملية تضمن تطورًا للمجتمعات الإنسانية نجد أنها تتضمن في طياتها اختزالًا لجوانب متعددة ومتداخلة فيما بينها سواء كانت (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية) تتفاعل فيما بينها، بغض النظر عن المحور الذي يدور في سياقه هذا التفاعل.
وبالتالي، فإن نقطة البدء عند الحديث عن التنمية بجانبيها السياسي، والاقتصادي أو بالأحرى المتغير الأهم في تحقيق التنمية، والذي يثور بشكل خاص في تيار الدراسات الانمائية الغربية وخصوصًا “الأمريكية” والتي ترى أن المتغير الاقتصادي المستقل هو الأكثر أهميةً، في حين المتغير السياسي التابع هو الأقل أهميةً. ومن ثم، فإنه بعد إنجاز خطوات كبيرة إزاء التنمية الاقتصادية، فإنه نتيجةً لتلك الخطوات التي تتمثل في (وجود طبقة برجوازية، وتحول في البنية الطبقية، وجود مستوى تعليمي لائق، دخول مرتفعة، توسع عمراني) ستتحقق الديمُقراطية على أساس أن مثل تلك الخطوات أو الشروط تتضمن توفير البيئة المُلائمة للديمُقراطية. وهناك تيار برؤية مغايرة يذهب بأن المتغير السياسي المستقل هو الأكثر أهميةً، وأنه يستوعب المتغير الاقتصادي التابع. بعبارة أخرى، أن الديمُقراطية هي النظام المُلائم لتحقيق التنمية الاقتصادية وذلك لما تتمتع به من خصائص (كالمساءلة، الشفافية، وسهولة تدفق المعلومات). وفي هذا السياق، تُمثل التنمية الاقتصادية والتحول الديمُقراطي أهمية كبرى في أڇندة السياسة الخارجية للحكومات الغربية والمؤسسات الدولية. وبالتوازي مع ذلك، نجد أنهما يُشكلان تحديين أساسيين للدول النامية لاسيما دول أوروبا الشرقية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذا المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي “الياسمين”، أو أنها ليست ضرورية بالمرة كما في حالة النظام السياسي الصيني. وعلى المستوى النظري، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الديمُقراطية والتنمية، فإن وجود العملية الديمُقراطية وتوطيدها لا يعني ضمنًا أن التنمية الاقتصادية أمر لا مفر منه، حيث إن جمهورية الصين الشعبية، حققت تنميتها الاقتصادية على أيدي زعماء الحزب الشيوعي الصيني، فهذا التطور يأتي في الوقت الذي حاول فيه الحزب الشيوعي الصيني أن يكسر احتكار العالم الديمُقراطي للتقدم الاقتصادي. فلقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأسرع نموًا اقتصاديًا وليس أدل على ذلك من ارتفاع مستويات المعيشة فيها كل ٣٠ عامًا تقريبًا، في حين تضاعفت مستويات المعيشة في الصين كل عِقد من الزمان تقريبًا في الأعوام الأربعين الماضية. بل أكثر من ذلك، تقول النُخب الصينية إن نموذجها الذي أحكم الحزب الشيوعي الصيني تنظيمه والجهد الكبير الذي بذله لملء الموهوبين صفوف القيادة السياسية العُليا أكثر كفاءةً من الديمُقراطية وأقل عرضةً للجمود، فالقيادة السياسية الصينية تتغير مرة كل ١٠ سنوات تقريبًا. ومع ذلك، يميل الاقتصاديون إلى تفضيل انتشار الديمُقراطية من خلال النظر إليها على أنها قيمة في حد ذاتها، مرتبطة بمفهوم الحرية، ولكن هذا أكثر قبولًا على المستوى النظري منه على المستوى العملي.
كما أن العلاقة بين الديمُقراطية والتنمية الاقتصادية وفقًا للنظام السياسي الصيني هي علاقة ذات طبيعة مرنة، حيث استطاع الحزب الشيوعي الصيني باستلهامه للمرتكزات الأساسية للنموذج الغربي (الحرية، الملكية الخاصة)، وذلك بالتوازي مع الحفاظ على خصوصيته الثقافية فيما تم تسميته “الاشتراكية بخصائص صينية” أن يحافظ على استقرار النظام الاجتماعي. وقد برز ذلك بشكلٍ واضح مع الخطط الخمسية التي قامت على يد مهندس الإصلاح الاقتصادي “دينج شياو بينج” عام ١٩٧٨؛ لتتماهي وتتناغم مع ثقافة الشعب الصيني، وكذا طبيعة النظام السياسي الصيني نفسه الذي مر بموجات مضطربة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين تمثلت في رضوخه لإرادات القوى العظمى فيما عُرِفَ بقرن الإذلال الصيني الأمر نفسه الذي يُشكل دافعًا لسياسة الرئيس الحالي “شي جين بينغ” في الوقت الراهن والتي تتمثل في رؤيته للصين ٢٠٤٩. هذا بجانب تعزيز البنية التحتية كتأكيد للسيادة العالمية، وربط العالم مع الصين من خلال مشروع الحزام والطريق. أكثر من ذلك، يُمثل النموذج التنموي الرائد لجمهورية الصين الشعبية تحديًا للديمُقراطية الغربية التي تعاني من اضطرابات متعددة وتحديدًا مع ضعف إدارتها لقضايا شائكة في النظام الدولي الراهن كجائحة كوفيد-١٩ مع تعامل النظام الصيني المُتميز في السيطرة على الجائحة واحتوائها؛ بفضل التدابير الصارمة وانخفاض أعداد الإصابات والوفيات. بينما شهدت عدد من الدول الديمُقراطية كالولايات المتحدة الأمريكية والهند وإسبانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة معدلات مرتفعة وذلك وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، وجامعة ڇونز هوبكنز.