إعداد: الدكتور محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول-وجدة-المغرب
لطالما كانت منطقة البلقان بؤرة توتر لم تعرف الهدوء أبدا، ولا عجب أن توصف بأنها “برميل بارود” القارة الأوروبية، وقنبلة موقوتة تعرف مزيدا من التدخلات الروسية في بلدانها من إمكانية انفجارها، وهو احتمال تزداد إمكانية تحققه خصوصاً بعد العدوان الروسي على أوكرانيا حيث أن موسكو كإجراء انتقامي ضد أوروبا ردا على العقوبات الغربية قد تتبنى فكرة زعزعة استقرار البلقان وبعثه من تحت الرماد التي تعتبر بمثابة خط النار بين الغرب وروسيا، وفي هذا الخصوص كان لافتاً إشارة بوتين، في خطاب إعلان الحرب على أوكرانيا، إلى إقليم كوسوفو الذي وجد قبولا واسعا لدى بعض القادة، ومن بينهم رئيس صربيا.
فبينما تنشغل دول العالم ببذل جهودها لتطويق أزمة روسيا-أوكرانيا وانعكاساتها الخطيرة، أثار تحرك الجيش الصربي نحو الحدود مع شمال كوسوفو في ظل توترات تتصاعد على مدار الأيام الماضية مخاوف دولية كبيرة من اشتعال حرب جديدة في شرق أوروبا.
تشهد الخلافات الصربية الكوسوفية مؤخرا زخماً مضاعفاً تنذر باحتمال اشتعال البلقان مجددا، مع استمرار المعارك الطاحنة في شرق أوكرانيا مع دخول فصل الشتاء، بسبب دعم الرئيس بوتين صراحة لصربيا وعدم اعترافه باستقلال كوسوفو، ولانتقاده الغرب بـ «ازدواجية المعايير”، بخصوص اعترافهم باستقلال بريشتينا ورفضهم استقلال الدونباس (دونيتسك ولوغانسك).
خلفية تاريخية لأزمة البلقان
أعلنت كوسوفو استقلالها في عام 2008 لكنها لم تنضم بعد إلى الأمم المتحدة كدولة مستقلة ذات سيادة؛ فبينما تعترف بها حوالي 110 دولة، لا تعترف صربيا بكوسوفو ولا تزال تعتبرها جزءًا من أراضيها، تمامًا كما لا تزال روسيا والصين تعتبرها أن تكون صربيا مثل جزء من الاتحاد الأوروبي، خمس دول في الاتحاد الأوروبي -إسبانيا واليونان وقبرص ورومانيا وسلوفاكيا -لا تعترف باستقلال كوسوفو؛ إما بسبب المخاوف بشأن الحركات الانفصالية والأقليات المماثلة داخل حدودها، أو بسبب علاقات تاريخية وثيقة مع صربيا.
المجازر الصربية ضد كوسوفو نهاية تسعينيات القرن الماضي لا تنمحي من الذاكرة الإنسانية، حين ارتكب الجيش الصربي فظائع ضد المدنيين عام 1998، لازالت ارتداداتها لم تختف حتى الآن، قبل تدخل الطائرات الحربية لحلف “شمال الأطلسي” عام 1999 والتي أرغمت الزعيم الصربي آنذاك سلوبودان ميلوسيفيتش على سحب قواته، ووضعت كوسوفو تحت حماية “حلف شمال الأطلسي” والأمم المتحدة إلى أن أعلن استقلالها عام 2008.
محفزات التوتر شمال كوسوفو
توتر الوضع مجددا مع سعي سلطات برشتينا لتعزيز سلطتها بالمناطق الشمالية للإقليم من خلال نشر قوات أمن إضافية استعدادا للانتخابات في المدن والبلدات الشمالية التي يوجد فيها الصرب بكثافة على غرار مدينة ميترو فيتشا المقسمة عرقيا بين الألبان والصرب.
ويقيم في شمال إقليم كوسوفو حوالي 50 ألف صربي غير معترفين بسلطة الإقليم مفضلين الانضمام إلى سلطات بلغراد، ووفق بعض التقديرات كان الصرب يشكلون 10% من سكان كوسوفو قبل الحرب، في حين يقارب عدد سكان هذه الدولة حاليا نحو 1.8 مليون نسمة.
وتجدر الإشارة أن الاتفاقات السابقة بين الطرفين سمحت بتمثيل الأقلية الصربية في المؤسسات الدستورية لإقليم كوسوفو، لكن ممثلي الصرب بالمجالس المحلية قدموا استقالتهم،
وزاد الوضع احتقانا عقب اعتقال شرطي صربي سابق متهم بالضلوع في هجمات على قوات الأمن ولجنة الانتخابات، وقد وجهت للرجل تهم بالإرهاب وانتهاك النظام الدستوري، وكان هذا الشرطي من بين 600 شرطي صربي استقالوا من قوات الأمن في إطار احتجاجات على سعي الحكومة لإلزام الأقلية الصربية بالقوانين المحلية. للاعتراض على قرار لوحات الترخيص. في المقابل، نشرت سلطات كوسوفو قوات الشرطة في المناطق الشمالية ذات الأغلبية الصربية؛ مما أدى إلى تفاقم التوترات التي أصبحت الأعنف منذ عام 2004.
لكن المصالحة لم تهدئ الحالة المزاجية في الشمال، حيث عاد رئيس كوسوفو وقرر تأجيل انتخابات ديسمبر إلى أبريل 2023، والتي قاطعتها الأحزاب الصربية، ومع ذلك، تزامن القرار المتأخر مع إلقاء القبض على ضابط شرطة سابق من صرب كوسوفو يشتبه في ضلوعه في هجوم على ضابط شرطة من أصل ألباني، مما رفع التوترات القائمة إلى مستوى أعلى من التصعيد حيث رد مئات من صرب كوسوفو بإقامة حواجز آلية ثقيلة وشل الحركة واعتقال الشرطة. تعمل في ثلاثة معابر حدودية. وبينما شوهدت انفجارات وطلقات نارية في المنطقة اعلنت شرطة كوسوفو والاتحاد الأوروبي انهما تعرضا للأسلحة النارية ولم تقع اصابات.
لم يصمد اتّفاق «تجنّب المزيد من التصعيد» بين صربيا وكوسوفو بوساطة غربية طويلاً (تم الاتفاق على أن تتوقف صربيا عن إصدار لوحات ترخيص للسيارات الخاصة بمدن كوسوفو وأن تتوقف الأخيرة عن اتخاذ المزيد من الإجراءات المتعلقة بإعادة تسجيل المركبات).
تصاعد التوتر بين بلغراد وبريشتينا منذ 10 ديسمبر 2022، وأصبح “قنبلة موقوتة”. يبدو أن حكومة كوسوفو مصممة على قمع تمرد الأقلية الصربية التي تعارض استقلال كوسوفو عن صربيا. من ناحية أخرى، تبدو صربيا مصممة على الدفاع عن صرب كوسوفو، حيث حشدت قواتها على طول الحدود لمنع ما أسماه وزير الدفاع الصربي ميلوس فوسيفيتش “الإرهاب المنظم والممنهج من إدارة إقليم كوسوفو ورئيس وزراء كوسوفو، غير المعترَف بها، ألبين كورتي، وسياسته التي تتجسّد في التطهير العرقي الكامل”.
تقف قُوّة «حلف شمال الأطلسي Force Kosovo» المنتشِرة في كوسوفو المعروقة باسم كفور،موقف المتفرج على التدهور السريع لاستقرار وأمن الإقليم، حتى وصل إلى «حافّة الانزلاق إلى نزاعٍ مسلّحٍ»، وفق تحذيرات أطلقتها رئيسة الوزراء الصربية، آنا برنابيتش.
طبيعة الدور الروسي بالبلقان
بعض المحللين يربطون بين التوترات الراهنة في شمال كوسوفو والحرب الروسية في أوكرانيا، والكثير من المؤشرات تقول إن روسيا ربما لها يد فيما يحدث، وإنها تسعى إلى فتح جبهة ثانية ضد المعسكر الغربي في خاصرة أوروبا الضعيفة، ضمن منطقة البلقان.
فقد ساق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 24 فبراير 2022 مبرر دعم الأقلية الروسية المضطهدة بإقليم دونباس شرق أوكرانيا كأحد دوافع الحرب على كييف. ما أدى إلى تصاعد الشعور بالقومية الروسية السلافية مقابل القومية الأوكرانية، فضلا عن إثارة النزعات القومية والشوفينية عالميا.
الروابط الوثيقة بين روسيا وصربيا، اللتين تربطهما صلات ثقافية وهوياتية ودينية عميقة (العنصر السلافي-الكنيسة الأرثوذوكسية.)، والماضي التاريخي والثقل الحضاري، فضلا عن روابط سياسية قوية (الاتحاد السوفيتي سابقا مع يوغسلافيا الاتحادية سابقا)، والتي كان من تجلياتها مطالبة روسيا بضمان حقوق الصرب في شمال كوسوفو، وهو المطلب الذي أكده المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف.
لا شك أن عودة التوترات في كوسوفو مدفوعة أكثر بعوامل محلية وإقليمية وتراكمات سابقة بسبب الاتفاقات الهشة بين الطرفين. ورغم ذلك، اتهمت رئيسة كوسوفو روسيا بأن لها مصلحة تدميرية في المنطقة، تشمل مهاجمة كوسوفو والبوسنة والجبل الأسود عبر تغذية الانقسامات العرقية والمجتمعية بغرب البلقان، من أجل إلهاء الجانب الأوروبي وأميركا بنزاع قديم جديد.
إن قومية زعيم الكرملين تسخر جميع الأدوات المتاحة للدفاع عن الشعوب المنتمية للعرق السلافي ويتحدثون اللغة الروسية ويتبنون الثقافة والتقاليد الروسيتين ويوجدون داخل أراضي الاتحاد الروسي أو في مجاله الجغرافي بدول الجوار التي ينتشر فيها الأعراق الروسية بنسب مختلفة في دول الاتحاد السوفيتي السابق وآسيا الوسطى وشمال أوربا والقوقاز.
لذلك فإن دعم الكرملين الدبلوماسي والمالي لا زال متواصلا للزعيم القومي لصرب البوسنة “ميلوراد دوديك” الذي يدعو للانفصال الكامل لإقليم “صربسكا” عن البوسنة والهرسك، وتجدر الإشارة أنه سبق ووجهت اتهامات لروسيا وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في الجبل الأسود (المونتنغرو) في عام 2016، كجزء من جهود موسكو لمنع الجبل الأسود من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
ختاما وفي حال فشل الغرب في إيجاد حل دائم ونهائي ومقبول بين البلدين المتصارعين، سيظل احتمال خطر انفجار الوضع قائما، رغم أن ذلك يبدو أنه لن يخدم مصلحة أي من طرفي النزاع، خاصة مع تقدم كوسوفو بطلب رسمي للانضمام للاتحاد الأوروبي، وتطلع صربيا لإحراز تقدم على نفس المنوال.