إعداد: محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية -جامعة محمد الأول- المغرب
عندما يخاطب الرئيس بايدن قادة الحكومة الفدرالية الأميركية وموجهيها يوم الثلاثاء 07 فبراير 2023 يكون قد أدى واجباً دستورياً وسار على نهج تقليدي مستمر طويل الأمد دأب على اتباعه أسلافه من الرؤساء الأميركيين.
الخطاب الذي يلقى في كل عام (ما عدا أثناء العام الأول للرئيس في المنصب) يُظهر أيضًا بشكل مباشر طريقة عمل الديمقراطية الأميركية. إنها المرة الوحيدة – بخلاف مراسم تنصيب الرؤساء والجنازات الرسمية – التي يتواجد فيها جميع فروع الحكومة الفدرالية في القاعة نفسها. يمثل الرئيس السلطة التنفيذية، ويمثل أعضاء مجلسي النواب والشيوخ السلطة التشريعية، ويمثل قضاة المحكمة العليا السلطة القضائية.
ويلقي الرؤساء خطاب حالة الاتحاد The State of the Union address لأن الفقرة الأولى من القسم الثالث من المادة الثانية للدستور الأميركي تنص على “أن يقوم الرئيس من حين إلى آخر بتقديم معلومات عن حالة الاتحاد إلى الكونغرس، وأن يوصي بالنظر في تلك التدابير التي يحكم بضرورتها وسرعة تنفيذها.”
وتطور هذا المطلب الدستوري منذ ذلك الحين إلى تقليد رئاسي متمثل في خطاب الرئيس السنوي عن حالة الاتحاد والذي بات يخدم عدة أغراض. منها أن الخطاب يعرض حالة الولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي الدولي ويقترح جدول أجندة تشريعية للسنة المقبلة ويتيح للرئيس الفرصة كي يشرح للأمة رؤيته الشخصية.
تاريخ خطاب حالة الاتحاد
يعود تقليد إلقاء خطاب الرئيس عن حالة الاتحاد إلى العام 1790 عندما تلى الرئيس الأول للولايات المتحدة جورج واشنطن « رسالته السنوية » إلى الكونغرس في مدينة نيويورك التي كانت آنئذ العاصمة المؤقتة للولايات المتحدة. ثم تبعه في هذا النهج خلفه جون آدمز.
أما الرئيس الثالث للبلاد، توماس جفرسون فقد رأى أن مثل هذه الاستعراضات المظهرية لا تليق بجمهورية ديمقراطية جديدة. فبعث برسالة خطية إلى الكونغرس بدلا من المثول فيه شخصيا. ونظراً لما كان لجفرسون من تأثير كبير فقد حذا حذوه الرؤساء اللاحقون على مدى أكثر من قرن من الزمان وبعثوا إلى الكونغرس برسائل سنوية خطية.
وكانت تلك الرسائل في العقود المبكرة من قيام الجمهورية عبارة عن لوائح تضم مشاريع القوانين التي يرغب الرئيس في سنها وإقرارها، والتي كانت تشكل آنذاك انعكاساً لمجرى النزعة الفكرية والحوارية السائدة والمشاكل العملية الناجمة عن بناء الأمة الأميركية الفتية. وتناولت في الوقت ذاته الوضع الدولي ومكانة أميركا في العالم.
ولعل الرئيس أبراهام لنكولن هو الذي كتب خلال الأزمة التي هدّدت أكثر من غيرها من الأزمات مصير البلاد ووجودها، ألا وهي الحرب الأهلية، أبلغ الرسائل وأبقى الخطابات الرئاسية كلها إلى الكونغرس.
فقد كتب لنكولن في رسالته عام 1862 قائلا « إننا حين نمنح الحرية للرقيق نضمن الحرية للحر- فهما صنوان في الاحترام في ما نعطيه وما نصونه. »
طقوس خطاب حالة الاتحاد
وفي العام 1913 أحيا وودرو ويلسون الممارسة التقليدية في إلقاء الرسالة السنوية شخصياً. وكان ذلك القرار خطوة آنية لأن الولايات المتحدة كانت آنذاك قد بلغت عشية ثورة الإعلام الجماهيري التي كانت على وشك إدخال الرؤساء إلى بيوت الأميركيين عبر إذاعات الراديو أولا ثم التلفزيون لاحقا.
ومع انتخاب الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت عام 1932، كان الأميركيون قد اعتادوا الاستماع إلى الرؤساء عبر الراديو ومشاهدتهم وسماعهم في الأفلام الإخبارية في دور السينما. وقد أورد فرانكلين دي روزفلت في خطابه في 6 يناير 1941 عبارة “الحريات الأربع” – حرية التعبير، وحرية العبادة، والتحرر من العوز، والتحرر من الخوف – من أجل تبرير المزيد من تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. أما جورج دبليو بوش فقد صاغ عبارة “محور الشر” خلال خطابه عن حالة الاتحاد في العام 2002، واصفا إيران والعراق وكوريا الشمالية بأنها دول راعية للإرهاب.
وألقى الرئيس بيل كلينتون عام 1996 خطابه الذي تضمن عبارة “ولّى زمن الحكومات الكبيرة”، والتي اعتبرت إشارة ضمنية لمشروعه الانتخابي والحملة التي كان مقبلا عليها لإعادة انتخابه رئيسا للبلاد.
وبحلول العام 1945 كانت الرسالة الرئاسية السنوية قد صارت تعرف رسمياً بخطاب حالة الاتحاد. كما أصبحت عنصراً أساسيا في إذاعات التلفزة والراديو مع تزايد مبيعات أجهزة التلفزيون زيادة كبيرة في الخمسينات. وإدراكاً منه لما يتمتع به التلفزيون من قوة ونفوذ في إيصال خطاب الرئيس إلى جماهير غفيرة، غير الرئيس ليندون جونسون موعد إلقاء الخطاب التقليدي من الظهيرة إلى المساء لإتاحة مشاهدته من قبل جمهور أكبر من الناس.
ويقدر عدد الذين تابعوا خطاب الرئيس جو بايدن في العام 2022 بزهاء 38 مليون شخص، علما بأن الرقم القياسي يحتفظ به بيل كلينتون، مع 67 مليونا لخطاب 1993.
ويعود أول خطاب متلفز لحال الاتحاد الى العام 1947 مع الرئيس هاري ترومان، الا أنه واجه معضلة غير بسيطة: كان الأميركيون في حينه يعوّلون بشكل كبير على البث الإذاعي، وعدد قليل منهم فقط يملكون جهاز تلفزيون في منازلهم.
أما الرد التقليدي على الخطاب فقد نشأ عام 1966 عندما أدلى نائبان جمهوريان في الكونغرس، كان أحدهما جيرالد فورد الذي أصبح رئيساً في ما بعد، بالرد الجمهوري على خطاب الرئيس جونسون عن حالة الاتحاد.
وقد اختار الجمهوريون ممثلاً عنهم للإدلاء بردهم الرسمي على خطاب بايدن، ووقع الاختيار هذه المرة على حاكمة ولاية اركنسا سارة هاكيبي ساندرز، وهي المتحدثة السابقة باسم البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، وأول امرأة تصل إلى منصب حاكمة الولاية.
يميل خطاب الاتحاد الى اللعب على وتر الإيجابيات والشعور الجيد. وغالبا ما عكس الرؤساء هذا الأمر بترديد عبارات قد تختلف بالشكل، لكنها تعكس المضمون ذاته، ومنها على سبيل المثال ما ختم به بايدن خطاب العام الماضي “حال الاتحاد قوي لأنكم أنتم، الشعب الأميركي، أقوياء”.
لكن في العام 1975، لم يكن في حوزة جيرالد فورد الكثير من الإيجابيات ليدلي بها، اذ لم تمض فترة وجيزة على توليه الرئاسة خلفا لريتشارد نيكسون الذي أطاحت به فضيحة “ووترغيت”، ولم يستمر في البيت الأبيض سوى عامين، بعد خسارته الانتخابات أمام الديموقراطي جيمي كارتر.
كان خطاب حالة الاتحاد الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جو بايدن مفعما بالحماس، واتسم في بعض أجزائه بالرغبة في الاصطدام مع خصومه، كما أتى في مرحلة محورية من رئاسته. وجاء الخطاب في وقت يستعد فيه بايدن للإعلان عن اعتزامه الترشح لفترة رئاسية ثانية، وبينما يجد نفسه مضطرا للتعامل مع الجمهوريين الذين يسيطرون على أحد مجلسي الكونغرس للمرة الأولى.
ويتسم “خطاب حال الاتحاد” عادة بالجمود وتتخلله دقائق من التصفيق من قبل الحزب الرئاسي. لكن كان على الرئيس الديموقراطي البالغ من العمر 80 عاما هذه المرة التعامل مع انتقادات بعض البرلمانيين من اليمين المتطرف.
خطاب حالة الاتحاد كان الرئيس بايدن مركزا فيه على القضايا المحلية وموجها رسالة وحدة للأمريكيين. ففي وقت يشهد انقسامًا سياسيًا وحزبيا عميقين في الولايات المتحدة، دعا بايدن الجمهوريين إلى العمل مع حزبه الديمقراطي لإعادة بناء الاقتصاد. وبالإضافة إلى الأجندة الداخلية الأمريكية، تناول بايدن أهم القضايا الدولية الراهنة، في مقدمتها الحرب في أوكرانيا والتحدي الصيني.
الصين …توتر مستمر
خلال خطابه السنوي، حذر الرئيس الأميركي بكين ، مؤكدا إن الولايات المتحدة “ستتحرك” إذا “هددت الصين سيادتها”.
وبعد حادث المنطاد الصيني الذي حلق فوق الأراضي الأميركية قبل إسقاطه نهاية الأسبوع الماضي دعا بايدن إلى “الوحدة” بين الديمقراطيين والجمهوريين لكسب المنافسة ضد المارد الصيني.
وأكد بايدن أنه مصمم على العمل مع الصين، حيث يمكن أن يخدم ذلك المصالح الأميركية ويفيد العالم بأسره، وقال إنه أكد للرئيس الصيني شي جين بينغ بوضوح سعي بلاده إلى المنافسة وليس إلى صراع.
وللإشارة فقد تصاعدت حدة التوتر بين الصين والولايات المتحدة العام الماضي بشأن مسألة تايوان، وحقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ في شمال غربي الصين، والصراع على كسب النفوذ في منطقة الاندو باسيفيك، والقيود الأميركية المفروضة على صادرات شبه الموصلات الصينية الهادفة إلى كبح تطور الصين في هذا المجال.
الحرب الروسية الأوكرانية
غاب التركيز في الخطاب على قضية السياسة الخارجية المهمة الأخرى المستمرة منذ عام، ألا وهي الغزو الروسي لأوكرانيا، رغم ترحيب الرئيس بايدن بسفيرة أوكرانيا لدى واشنطن أوكسانا ماركاروفا “التي كانت من بين الحضور، وأشاد بدعم الحلفاء للبلاد. لكنه لم يغتنم الفرصة للمطالبة بالمزيد من المساعدات لأوكرانيا التي مزقتها الحرب. و توجه الرئيس بايدن بحديثه إلى السفيرة مؤكدا وقوف الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب أوكرانيا لصد الهجوم الروسي ضد أراضيها.مهما استغرق الأمر، قائلا: ” أمتنا تعمل من أجل مزيد من الحريات والكرامة والسلام، ليس فقط في أوروبا بل في كل مكان”.
الشرق الأوسط….الملف الغائب
على الرغم من أن الشرق الأوسط كان جزءاً مهماً من خطابات حالة الاتحاد الرئاسية في الماضي، إلا أن الاضطرابات السياسية الأخيرة في الداخل الأمريكي والتحول المستمر نحو تنافس القوى العظمى في الخارج خصوصا نحو الاندو باسيفيك والأزمة الروسية الأوكرانية، قد أدى على ما يبدو إلى إحالة القضايا الإقليمية إلى منتديات أخرى. ومؤخراً، لم يشر خطاب الرئيس بايدن في 7 فبراير 2023 إلى قضايا الشرق الأوسط على الإطلاق باستثناء الإشارات غير المباشرة إلى أسعار النفط وإشارة عابرة إلى الإرهاب.
وللعام الثاني على التوالي أغفل الرئيس الأميركي جو بايدن الإشارة إلى الملف الإيراني خلال خطابه عن حالة الاتحاد، وهي خطوة تسلط الضوء على التغييرات التي طرأت على سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران، منذ تولي الديمقراطيين إدارة البيت الأبيض في 2021.
تفادى بايدن الإشارة إلى إيران على الإطلاق على الرغم من أنه نطق 9191 كلمة، وهو رقم قياسي لخطاب حالة الاتحاد الذي استمر لنحو ساعة و13 دقيقة.
ومعلوم أنه خلال العام 2022 ، شهدت إيران احتجاجات غاضبة بعد مقتل “مهسا أميني” سقط خلالها المئات بين قتيل وجريح نتيجة القمع الحكومي، وفقا لمنظمات حقوقية. اتهمت خلالها إيران الولايات المتحدة بتأجيج الاحتجاجات في الداخل الإيراني.
وعلى الرغم من أن إدارة البيت الأبيض والرئيس بايدن أكدا في أكثر من مناسبة دعمها للاحتجاجات ووقوفهما مع الشعب الإيراني في مساعيه للحصول على حقوقه الأساسية، إلا أن تجاهل ما يجري من إيران في خطاب حالة الاتحاد أثار امتعاض وسخط مراقبين إيرانيين وآخرين مقربين من الحزب الجمهوري.
الاقتصاد والطاقة الأمريكيين على المحك
أن الاقتصاد الأميركي في وضع أفضل “من أي بلد آخر على وجه الأرض” في تحقيق النمو على الرغم من التحديات التي فرضها وباء كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا.
حدة الخلاف بين الحزبين، دفعت الرئيس بايدن لتويجه اتهام صريح للمعارضة الجمهورية بالسعي إلى “أخذ الاقتصاد رهينة” في مواجهة تهديدات برلمانيين بعدم التصويت لصالح رفع سقف الدين.
ومن الاختبارات المهمة لهذا التحدي بين الحزبين، ضغطُ البيت الأبيض لرفع سقف الديون البالغ 31.4 تريليون دولار والذي يجب رفعه في الأشهر المقبلة لتجنب التخلف عن السداد. وقال البيت الأبيض إن بايدن لن يتفاوض بشأن هذه الضرورة، إذ يريد الجمهوريون خفض الإنفاق مقابل دعمهم.
تحدث الرئيس عن نسبة البطالة القياسية، معترفا معدل بارتفاع معدل التضخم وأسعار الطاقة، واللذين أثرا بشكل سلبي على شعبيته خلال الأشهر الثمانية عشرة الماضية، بدآ في الانخفاض في الوقت الحالي. كانت محاولة منه إلى توجيه الأنظار صوب المستقبل وعرض رؤيته لما يمكن أن يقدمه للمواطنين الأمريكيين الذين يتساءلون عما تبقى في جعبة رئيس في الثمانين من عمره.
من جهة أخرى، اتهم الرئيس الأميركي شركات النفط الكبرى في البلاد باستغلال أزمة موارد الطاقة الأخيرة لتحقيق الأرباح، مطالبا بفرض بزيادة ضريبية كبيرة على عمليات إعادة شراء أسهم الشركات لتوجيهها للاستثمار أكثر في الإنتاج، داعيا بالموازاة مع ذلك، إلى فرض حد أدنى للضريبة على أصحاب المليارات قائلا: “أي ملياردير يجب ألا يدفع ضريبة تقل عن تلك التي يدفعها مدرس أو رجل إطفاء”.
مآل البيت الأمريكي بعد الخطاب
من الآن، وبعد خطاب حالة الاتحاد، وتفاقم حدة الخلاف بين الحزبين، أصبحت ترتسم معالم أزمة حادة بين الإدارة الديمقراطية لبايدن والجمهوريين الرافضين رفع السقف الائتماني للبلاد، والذي عادة ما يكون خطوة إجرائية روتينية.
وتحذر إدارة بايدن من أن تعنت الجمهوريين قد تكون له تداعيات دولية كبرى، ويدفع الولايات المتحدة للتخلف عن سداد ديونها.
ويمكن للتوتر وحالة عدم اليقين Uncertainty، إضافة إلى الشكوك المحيطة بالمستقبل السياسي والصحي لبايدن، أكبر الرؤساء سنا في تاريخ البلاد، وكيفيه تفاعل حزبه مع هذا السيناريو، أن تكون من العوامل التي تعكس بعض التشاؤم في استطلاعات الرأي، اذ أظهر واحد أجرته أخيراً شبكة ” ABC” التلفزيونية وصحيفة “Washington post”، أن 58% من الديمقراطيين والمستقلين ذوي التوجه الديمقراطي، يرون أن على الحزب تقديم مرشح آخر إلى الانتخابات الرئاسية في 2024.