إعداد : مصطفى صلاح
باحث فى العلاقات الدولية
لم تشهد سوريا قبل عام 2011 تفاعلات ذات صلة بنشاط الجماعات الإرهابية، ولكن بعدما شهدته المنطقة من أحداث في عام 2011 ساهمت في حدوث نوع من أنواع عدم الاستقرار الداخلي في دول المنطقة وهو ما نتج عنه اتجاهات متعددة للتأثير في الأمن الإقليمي.
فقد ساهمت هذه الأحداث في تصاعد وتيرة التدخلات الخارجية في أزمات المنطقة وهو الأمر الذي عمل على استمرار الأزمات وعدم القدرة على تسويتها، وأصبحت البيئة الداخلية في دول المنطقة محفزة لعودة نشاط الجماعات الإرهابية باعتبار أن هذه البيئة مناسبة للتواجد والانتشار.
والأكثر من ذلك، فبعد أن تمكنت هذه الجماعات من التواجد الميداني في دول المنطقة وخاصة سوريا، فقد تطورت الأوضاع إلى أن أصبحت هذه الجماعات تمتلك علاقات مع الدول المنخرطة في هذه الأزمات لتحقيق مصالحهما المتبادلة.
ومن ناحية أخرى، شهدت خريطة التنظيمات الإرهابية حالة من السيولة صعودًا وهبوطًا من حيث التيارات الفكرية السائدة وانتشارها الميداني في الساحة السورية، ولعل هذه الأحداث وتطوراتها ساهمت في أن تكون خريطة التنظيمات الإرهابية غير مستقرة وتشهد متغيرات عديدة بعضها بسبب الجماعات الإرهابية ذاتها وأخرى تتعلق بالأوضاع الداخلية والخارجية ذات الصلة بالأزمة.
وضمن السياق ذاته، فإن سيولة الحالة الإرهابية في سوريا ووجود اتجاهات إرهابية مختلفة ومتباينة في أفكارها ومسار حركتها أدى إلى حدوث صدامات عسكرية بينهم وهو بدوره أدى إلى إنتاج مجموعات أخرى إرهابية أو الاتجاه نحو عمليات الدمج وفق ما يعرف بالاتحاد الجهادي.
الفرضية الرئيسية
تنطلق هذه الورقة في تفسير انتشار الجماعات الإرهابية في سوريا وفق تصور أن استمرار الأزمة السورية دون تسوية منذ عام 2011 ساهم في بروز فاعلين من دون الدولة(التنظيمات الإرهابية) سواء بسبب تفاقم الأزمة داخليًا أو بسبب التدخلات الخارجية، وهذه العوامل مجتمعة ساهمت في التأثير على اتجاهات الاستقرار أو عدم الاستقرار في الأمن الإقليمي.
أولًا: السمات العامة للتنظيمات الإرهابية في سوريا
إن القضية الأكثر إثارة للنقاش في أوساط الباحثين تتركز في كيفية التعامل مع حالة عدم الاستقرار التي تشهدها الساحة السورية وما أفرزته وتفرزه من تحديات على مختلف المستويات، وبالتالي ضرورة البحث عن أفضل المسارات والسياسات للتعامل مع الخريطة المتغيرة لهذه التفاعلات، وللوصول إلى أفضل اتجاه للتعامل مع ذلك لابد من تشريح الحالة الجهادية وتوضيح مجموعة المتغيرات المحيطة بها وذلك على النحو الآتي:
1. الدعم الحكومي السوري: يرتكز هذا الاتجاه على فرضية أن انتشار الجماعات الإرهابية في سوريا تصاعد بصورة كبيرة من خلال قيام النظام السوري بدعم تواجد وانتشار الجماعات الإرهابية بصورة غير مباشرة وذلك لمواجهة الحركات الثورية المعتدلة المناهضة له وخاصة الجيش السوري الحر، وتمثلت هذه الممارسات في إطلاق سراح بعض الإرهابين من السجون والامتناع عن مهاجمة المناطق المنتشرين بداخلها بما يعزز مخاوف الدول الغربية من مخاطر تغيير النظام في سوريا.
2. الطابع المحلي للتنظيمات المتطرفة: اتجهت التنظيمات الإرهابية المنتشة في سوريا إلى الاعتماد على التجنيد المحلي، مثل اتجاه تنظيم هيئة تحرير الشام إلى إنشاء مجلس الصلح العام بالتعاون مع القبائل المحلية، بالإضافة إلى إنشاء حكومة الإنقاذ السورية وجهاز الأمن العام كخطوات ضمن استراتيجية إقامة حكم محلي في مناطق شمال غرب سوريا. وبالتالي توفر حالة هيئة تحرير الشام التي تعتمد على الأسلوب المحلي المنظور الذي يمكن من خلاله تفسير الاتجاهات المستقبلية للتنظيمات المتطرفة في سوريا.
3. استراتيجيات ميدانية مختلفة: ساهم الصراع بين التيارات والجماعات الإرهابية داخل سوريا على مناطق النفوذ في زيادة الاعتماد من جانب الدول على بعض من هذه التنظيمات في تنفيذ أهدافها خاصة بعد أن طورت هذه التنظيمات من استراتيجياتها الميدانية في اتجاه السيطرة على الموارد الاقتصادية الموجودة، وإن كان ذلك قد تحول بعد ذلك في تعزيز الاعتماد على الموارد الذاتية للتنظيم وعدم التبعية لبعض الدول الداعمة لها.
وبناء عليه، تجب الإشارة هنا إلى أن التنظيمات تنوع استراتيجيتها بين الاعتماد على مصادر قوتها أو من خلال الاستعانة بجهود الدول الداعمة لها، وهذه العلاقة التي تربط بينها وبين بعض الدول تحقق لها مجموعة من المميزات على سبيل المثال قامت تركيا بنقل هذه الجماعات بعد أن تم حصارها في سوريا إلى ليبيا وسيناء وأذربيجان.
4. التحول إلى حركات تمرد سرية: من أهم سمات التنظيمات الإرهابية بشكل عام هو اللجوء إلى اعتماد التنظيم للعمل السري في حال هزيمتها، وانتظار الفرصة لحين العودة مجددًا، وهذا النشاط يمكن رصده بعدما تم الإعلان عن القضاء على تنظيم داعش بعد معركة الباغوز ولكن التنظيم تحول إلى تصعيد عمليات الاستهداف دونما الاعتبار لأهمية التواجد والسيطرة الميدانية.
5. استراتيجيات جديدة للتكيف: عملت الجماعات المنتشرة في سوريا بأفكارها وأيديولوجياتها المختلفة إلى التركيز على العناصر المحلية في نشاطها داخل سوريا، على سبيل المثال غيرت جبهة النصرة التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة اسمها إلى جبهة فتح الشام، وهو ما سمح لها بالظهور كجماعة داخلية متمردة، وهو ما عزز من قبولها لدى الشعب السوري في المناطق الموجودة بها حتى تتمكن من إظهار نفسها بالصبغة المحلية لتعزيز تواجدها وانتشارها.
6. الوحدة الجهادية: اتجهت التنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا إلى إعطاء أولوية لما يسمى الوحدة الجهادية مع الجماعات الأخرى، وهو ما ظهر في يناير 2017 بإنشاء هيئة تحرير الشام التي ضمت حركة فتح الشام(جبهة النصرة سابقًا) وغيرها من الجماعات الإرهابية الأخرى مثل حركة نور الدين الزنكي وجيش السنة وأنصار الدين، وهو ما انعكس على خريطة التفاعلات الجهادية هناك؛ ومن ناحية أخرى أصبح تنظيم القاعدة يضم مجموعات صغيرة من التنظيمات المتطرفة مثل حراس الدين والحزب الإسلامي التركستاني.
7. الإرهاب الشيعي: استحوذت الساحة الإرهابية السورية على أنواع أخرى من الأيديولوجيات المتطرفة ولم تقتصر على الجانب السني بل انتشرت على الجانب الآخر مجموعات إرهابية شيعية، وكمثل التيارات الإرهابية السنية فقد توافرت أيضًا نفس المحفزات للانتشار هناك سواء بدعم ورعاية دول لها مثل إيران والنظام السوري نفسه، أو كرد فعل على انتشار الجماعات الإرهابية السنية، كما امتد التشابه بينهما إلى محاولة كل منهما استنساخ تجربة حزب الله اللبناني ولكن هذه المرة في سوريا.
8. الأزمات الاقتصادية ونزوح وهجرة السوريون: تشهد سوريا نزاعًا منذ نحو 11 عامًا، وأزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، وارتفاعًا كبيرًا في معدلات التضخم والأسعار وندرة في المحروقات، كما أودى النزاع بوفاة نصف مليون شخص كما هجر الملايين ودمر البنى التحتية. ولا تزال سوريا تعتبر أضخم أزمة نزوح في العالم؛ حيث اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو النزوح داخل الدولة. وقد ساهمت هذه التطورات في تعزيز وتنامي انتشار الجماعات الإرهابية.
ثانيًا: الجماعات الإرهابية في سوريا والأمن الإقليمي
ثمة مجموعة من التداعيات المختلفة الخاصة بتواجد وانتشار الجماعات الإرهابية في سوريا على الأمن الإقليمي بمستوياته المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وفيما يلي أبرز هذه التداعيات:
1. العائدون من الجهاد: يعتبر هذا التحدي من أكثر المشكلات التي تواجه عمليات ما بعد محاربة التنظيمات المتطرفة والقضاء عليها في سوريا، وقد برز التساؤل الرئيسي حول كيفية التعامل مع المعتقلين من أفراد هذه التنظيمات، وفي هذا السياق تصاعدت المخاوف من عودة هذه العناصر إلى بلدانهم خاصة وأنه لم يتم تأهيلهم للعودة إلى المجتمع مرة أخرى.
وضمن هذا السياق، برزت مجموعة من التحديات ذات الصلة بهذا الأمر من أهمها أن غالبية المعتقلين داخل السجون من مواطني سوريا والعراق وفي حال الافراج عنهم يمكن أن يساهم ذلك في إعادة بناء تنظيم داعش لنفسه في هذه المنطقة، بالإضافة إلى ذلك برزت مخاوف الدول الأخرى من عودة مواطنيها السابقين الذين انضموا للتنظيمات المتطرفة لما له من تداعيات سلبية على السلم والأمن الاجتماعي لهذه الدول.
2. التركيز على نشاط الولايات: على الرغم من هزيمة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا إلا أن هذا الأمر لا يعني هزيمة التنظيم بصورة كاملة والقضاء عليه، وهو ما ظهر من خلال تصاعد أنشطة الولايات التابعة له سواء من مناطق آسيا أو أفريقيا، فالهزيمة كانت هزيمة جغرافية محدودة في سوريا إلا أن التنظيم يتواجد بصورة كبيرة أيديولوجيا وحركيًا في كثير من مناطق العالم، وهو ما يمكن تفسيره من خلال التركيز في النشاط العملياتي لداعش وغيره من التنظيمات الإرهابية على مناطق أخرى تمثل الحاضنة الجديدة للتنظيم كما هو الحال في ولاية خراسان وولايات أفريقيا والساحل والصحراء بما يعكس القدرة على شن هجمات.
ومن هذا المنطلق يمكن القول أنه مازالت الجماعات المتطرفة تستغل الظروف والأزمات التي تمر بها سوريا للتوسع والانتشار لخلق بيئة مواتية إما لعودة الظهور أو لتخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية إقليميًا ودوليا. وأصبحت الجماعات تعمل بشكل لا مركزي وبتكتيكات واستراتيجيات جديدة بعد استهداف كبار قياداتها بما يضمن بقاء تلك التنظيمات.
3. انتشار الأعمال غير المشروعة: ويتمثل هذا التهديد في انتقال الأعمال التي تقوم بها التنظيمات المتطرفة إلى كثير من دول العالم مثل أعمال الخطف والابتزاز وفرض الضرائب وحرمان الدول من مواردها والتجارة بالبشر واستغلال موارد الدول بصورة عامة. كما أن هناك تهديد أكثر تأثيرًا يتعلق بمستقبل الدولة القومية وتماسكها ووحدة أراضيها في ظل سيطرة هذه التنظيمات على مساحات جغرافية من هذه الدول.
4. إعادة إنتاج التنظيمات المتطرفة: على الرغم من أن تنظيم داعش لا يملك منذ سقوط خلافته أي مناطق تخضع تحت سيطرته الكاملة أو مواقع يمكن تحديدها بالخرائط، إلا أن مقاتليه لا يزالون ينفذون الهجمات؛ حيث أنها تتصاعد بالتدريج، وخاصة في سوريا، التي ينتشرون في صحرائها مترامية الأطراف. وضمن هذا الإطار، أصبحت محافظة إدلب العاصمة الجديدة للإرهاب العالمي باعتبار أنها أصبحت منطقة اختباء قادة تنظيمي داعش والقاعدة.
5. إمكانية الاعتراف بالتطرف: على الرغم من إعلان هيئة تحرير الشام التي تسيطر على منطقة إدلب محاربتها المتشددين في محاولة لاعتراف المجتمع الدولي بها بعد أن قطعت رسميًا علاقاتها مع الجماعة الإرهابية العالمية، إلا أنها حافظت على أيديولوجيتها المستوحاة من تنظيم القاعدة، وهو ما جعلها مدرجة على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة.
وتسعى الهيئة إلى أن تكون بديلًا للحكم في المنطقة باعتبار أنها تقوم بتوفير الخدمات لنحو 3 ملايين سوري وتسعى إلى قبول المجتمع الدولي، خاصة وأن هذا النموذج ظهر بصورة واضحة بعد صعود طالبان إلى الحكم باعتبار أن الهيئة تهدف إلى الاعتراف بها من جانب الولايات المتحدة. وعلى الرغم من التحديات المحيطة بذلك، فإن لدى واشنطن مصلحة من تحقيق الاستقرار في منطقة إدلب والتي تسيطر عليها الهيئة لأن تغير الأوضاع هناك يمكن أن يعود بالنفع على النظام السوري، وهو ما يعني إمكانية قيام كيان مستقل في هذه المنطقة أو على الأقل استحداث نموذج حزب الله اللبناني في التأثير على مجريات الأوضاع ذات الصلة بالأزمة السورية.
في الختام: مرت الجماعات الإرهابية المتطرفة بكثير من المراحل وفق المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة بالأزمة السورية وهو ما فرض عليها اتباع استراتيجيات جديدة في اتجاه التكيف مع هذه المستجدات سواء فيما يتعلق بنمط عملياتهم أو طبيعة علاقاتهم في إطار التنافس أو التكامل والاندماج الجهادي، وهذه التطورات مجتمعة انعكست في تأثيراتها على نشاط هذه التنظيمات على المستوى الإقليمي في ظل غياب رؤية لتسوية الأزمة السورية وتنفيذ عمليات إعادة الإعمار وبناء النظام السياسي وتجاوز الانقسامات الداخلية وذلك لمواجهة التدخلات الخارجية التي ساهمت تعقيدها.