إعداد الدكتور: محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية -جامعة محمد الأول-وجدة، المملكة المغربية
في آسيا الوسطى، معقل النفوذ الروسي المثقل بالتاريخ والجغرافيا، تدشن الولايات المتحدة الأمريكية جبهة مواجهة وساحة تنافس جديدة مع موسكو، وإن كان على نحو أقل مع بيكين. لم تحظى هذه المنطقة بالاهتمام الأمريكي البالغ، لكنها أهداف أميركا ظلت في آسيا الوسطى واحدة ومتسقة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي البائد؛ حيث دعمت الاستقرار الداخلي والتعاون الإقليمي وجهود الحد من انتشار التشدد والعنف، كما دعمت -وإن بشكلٍ متقطع-الإصلاح والتحول الديمقراطي ودعم حقوق الانسان.
مركز الهزة الدبلوماسية كان أستانا عاصمة كازاخستان التي زارها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، لكن الارتدادات المرجوة والمرتقبة أمريكيا الزيارة شملت إلى جانب كازاخستان، باقي جمهوريات الاتحاد السوفيتي …أوزبكستان، قرغيزستان، تركمنستان، طاجيكستان.
جوار مأزوم مع روسيا الاتحادية
تبنت روسيا خلال رئاسة بوتين الثالثة، مدفوعة بنزوع قومي روسي لإعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي، رؤية قائمة على قوة الدولة وضمان ولاء الكنيسة الأرثوذكسية والتمسك بالقيم الثقافية العريقة، تبنت استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودورها الإقليمي والدولي، وعملت على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفيتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم حالياً ست دول، هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، ودعت إلى تشكيل اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، كإطار موازٍ ومنافس للاتحاد الأوروبي، يمثل برأيها عالماً بديلاً قائما على رفض القيم الغربية.
وفق تقارير ودراسات متعددة، فإن ظروف التاريخ والجغرافيا أجبرت جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز أن تبقى تابعة لموسكو بشكل أو بآخر حتى بعد انهيار “الاتحاد السوفييتي”، رغم خروجها من القفص الروسي الحديدي الذي ظلت تكتوي به لقرون سواء بنسخته القيصرية أو السوفييتية، وذلك لأن من تمرد على موسكو بعد انهيار “الاتحاد السوفييتي” لاقى عقابا فوريا.
كما أن الجغرافيا جعلت مصيرها في يد روسيا، فدول آسيا الوسطى والقوقاز التي تقع في قلب العالم، لا تلاصق أي بحار سوى بحر قزوين المغلق باستثناء جورجيا، والطرق التي تربطها بالعالم، لا تمر إلا عبر ثلاث قوى كبرى، وهي روسيا والصين وإيران إضافة لأفغانستان المضطربة، وهناك طريق وحيد يربط أذربيجان وأرمينيا بالبحر الأسود عبر جورجيا.
يرى دبلوماسيون وخبراء أن قادة آسيا الوسطى يجدون أنفسهم في وضع صعب بسبب الاتفاقات الأمنية مع موسكو والنفوذ الأمني والاقتصادي الكبير لروسيا.ولم تدعم أي من الجمهوريات السوفييتية الخمس، التي ينظر إليها على أنها جزء من نفوذ الكرملين، الغزو. واستقبلت كازاخستان عشرات الآلاف من الروس الفارين من الاستدعاء العسكري الخريف الماضي.
كازاخستان؛ الدولة القلب في جمهوريات الاتحاد السوفيتي البائد، تتشارك مع روسيا حدوداً تمتد على 7500 كيلومتر، ولديها علاقات جد معقدة مع موسكو؛ فقد كان ينظر إليها البلاد الأكثر حفاظا لحقوق الأقلية الروسية الكبيرة، خصوصاً بعدما ذكر الرئيس فلاديمير بوتين الدفاع عن الناطقين بالروسية المقيمين بالدول المجاورة من بين أسباب غزو أوكرانيا. وفي نهاية نوفمبر 2022، سافر رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، إلى موسكو لمقابلة بوتين، حيث أعاد تأكيد الشراكة مع روسيا. لكنه تحدث أخيراً مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحض على إنهاء الحرب عن طريق التفاوض بناء على القانون الدولي، فيما استقبلت كازاخستان عشرات آلاف من الروس الفارين من التجنيد الإجبار الذي فرضه بوتين على الشباب الروسي.ومع ذلك، امتنعت جمهوريات آسيا الوسطى الخمس، إلى جانب الهند التي سيزورها بلينكن بعد ذلك، عن التصويت يوم 24 فبراير لإدانة الغزو في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الذكرى الأولى للحرب.
وعود وعروض أمريكية
في أستانا التقى بلينكن أيضاً وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية السابقة الخمس في آسيا الوسطى، وهي أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان، إضافة إلى كازاخستان.
وبلينكن هو أرفع مسؤول أميركي يجري جولة في آسيا الوسطى منذ أن تسلم جو بايدن سدة الرئاسة في الولايات المتحدة في يناير 2020، علماً أن الجولة تأتي بعد أيام قليلة على الذكرى السنوية الأولى (22 فبراير 2022) لبدء الهجوم الروسي على أوكرانيا التي تلقت دعماً غربياً بمليارات الدولارات.
حمل بلينكن في جعبته الدبلوماسية الوعود والعروض لتلك العواصم التي ظلت رغم تفكك الاتحاد السوفيتي في فلك موسكو، اختيارا حينا واضطرارا أحيانا أخرى، بسبب الجغرافيا والشراكات الأمنية والاقتصادية.
وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية مصمّمة على تعزيز العلاقات مع كازاخستان التي تمكّنت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي من تعزيز دبلوماسية متعدّدة المحاور، وفقاً للمصطلحات الرسمية، حيث قامت بإقامة تحالفات مع شركاء مختلفين على الرغم من تأثير موسكو الكبير.ويأمل المسؤولون الأميركيون أن يتمكن بلينكن من إقناع قادة هذه الدول بأن غزو روسيا لأوكرانيا يمثل تهديدا لهم وأن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم سيادة هذه الدول. وللإشارة فإن الولايات المتحدة سعت لعقود- دون نجاح كبير يذكر- لإنهاء نفوذ موسكو في الجمهوريات السوفييتية السابقة بالمنطقة.وساعدت بعض هذه الدول، خاصة أوزبكستان وطاجيكستان، الولايات المتحدة لوجيستيا خلال حربها التي دامت 20 عاماً في أفغانستان.
أما الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة أبرز منافس لها على المدى الطويل، فتسعى هي أيضاً إلى توسيع نطاق نفوذها في هذه المنطقة المجاورة لها.وفي عام 2022، اختار الرئيس الصيني شي جينبينغ التوجه إلى كازاخستان وأوزبكستان في أول رحلة خارجية له منذ جائحة كورونا.
حسابات واشنطن
الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، تحرص على استمرار التبعية لموسكو، لكن أثر العقوبات الغربية والحرب على أوكرانيا أضعفت كثيرا الاقتصاد الروسي، وبالتالي شكل شحّا أو انقطعا في الدعم اللازم لاستمرار تلك الأنظمة، كما أن الانشغال الروسي أمنيا وعسكريا بالحرب أضعف من القبضة الروسية كثيرا على تلك الدول.بعد آسيا الوسطى سيتوجه بلينكن إلى نيودلهي للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة العشرين.
في موازاة ذلك، تسعى واشنطن إلى تجنيب آسيا الوسطى الإجراءات المتخذة ضد روسيا عبر منح إعفاء من العقوبات لتحالف خطوط أنابيب بحر قزوين الذي ينقل النفط الكازاخستاني إلى الأسواق الأوروبية عبر روسيا.
وتهدف جولة بلينكن إلى تعزيز دور الولايات المتحدة في هذه المنطقة الواقعة ضمن دائرة نفوذ الجار الروسي القوي والنفوذ الصينيالمتنامي. ولا تتوهم الولايات المتحدة بشأن احتمال أن تتخلّى هذه الجمهوريات الخمس عن شريكها التاريخي الروسي، ولا عن تأثير جارها القوي الآخر أي الصين، ولكنّها تلعب ورقة “الشريك الموثوق”، كما في أي مكان آخر في إفريقيا أو أميركا اللاتينية.
فهل تنجح واشنطن في الدخول على خط الحضور الروسي القوي وإغراءات الصين الجذابة؟
بلينكن الذي انتقل من كازاخستان إلى أوزباكستان، لا تبدو مهمته سهلة، لكن اللحظة تبدو مناسبة، فروسيا مشغولة بحربها على أوكرانيا، ودول آسيا الوسطة لا تخفي مخاوفها وهواجسها من تداعيات تلك الحرب عليها.