إعداد: منير جمال يوسف
باحث فى العلوم السياسية
تواجه مصر مثلها مثل معظم دول العالم حاليًا أزمات اقتصادية نظرًا لأزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من التحديات الاقتصادية العالمية، وهذه الأزمات ليست جديدة على الاقتصاد العالمي، فكل فترة يواجه العالم أزمة اقتصادية كالتي يواجها حاليًا فعلى سبيل المثال كان هناك أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وأزمة الديون 1982 ، بخلاف أزمة 1997، وأزمة ٢٠٠٨، ولكن استطاعت دول العالم رغم صعوبة هذه الأزمات أن تتجاوزها، حيث شهد العالم في العصر الحديث أكثر من نموذج ناجح استطاع الخروج من الفقر والعوز إلى الغنى والرفاهية، وهو ما تتناوله هذه الورقة بالتفصيل لتقي الضوء على أبرز النقاط التي يمكن لمصر الاستفادة بها من هذه التجارب وتطويرها لتخطي الأزمة، فعلى سبيل المثال معظم دول شرق آسيا تقريبًا حققت معدلات كبيرة من النمو في فترة زمنية قليلة؛ أبرز هذه الدول ما أطلق عليها النمور الآسيوية وهم 4 دول، سنغافورة، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ وتايوان، بغض النظر عن اعتبار تايوان وهونغ كونغ دولاً مستقلة “نظراً لتبعيتهم لدولة الصين”، غير أن هناك دول تسمى شبة النمور مثل الفلبين وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا، وتعتبر الهند والصين واستراليا من الدول الآسيوية التي حققت أيضًا طفرة اقتصادية، بجانب دولتين في أمريكا اللاتينية وهم تشيلي والبرازيل حققوا أيضًا نهضة كبيرة في وقت قصير، سوف نسلط الضوء على التجربة المصرية وكيف يمكنها الاستفادة من تجارب الدول الأخرى والإجراءات التي اتخذتها بالفعل، والخبرات التي يجب أن تستفيد منها.
العالم يتكون من 206 دولة مستقلة ومعترف بها دوليًا، في الحقيقة ليست كل الدول تملك نفس المستوى الاقتصادي ولا تملك نفس درجة التقدم، فكل دولة لها طبيعتها الخاصة وإمكانياتها المميزة عن الأخرى، مثل موقعها ومواردها الطبيعية البشرية وغيرها من العوامل التي تؤثر بشكل كبير على وضع الدولة الاقتصادي وناتجها القومي وديونها وغيرها من مؤشرات الرفاهية الاقتصادية، ولكن هذه التجارب تطرح عدد من الأسئلة، مثل ما العوامل التي جعلت دول أغنى من الأخرى ومتقدمة ودول أخرى فقيرة؟ وهل يجب أن تملك الدولة موارد طبيعية وبشرية ضخمة وموقع مميز على خريطة العالم حتى تحقق التقدم والرفاهية؟ أم أن التقدم الاقتصادي مرتبط بالنظام السياسي والإدارة السياسية في الدولة؟ يسعى التقرير للإجابة على هذه الأسئلة من خلال استعراض بعض النماذج من الدول التي حققت طفرة اقتصادية كبيرة في فترة زمنية ليست بالطويلة وتحليل ظروفها والإجراءات التي اتخذتها، ومدى دورها في تحقيق هذه الطفرة، ومقارنة هذه النماذج بالتجربة المصرية الحالية في التنمية، حيث أن مصر تسعى بقوة لتحقق طفرة اقتصادية وتلحق بهذه الدول، خاصة بعد خروجها بفترة عدم استقرار سياسي من 2011 وحتى ثورة 30 يوليو.
الملاحظة الأولى قبل الخوض في تفاصيل بعض النماذج والدول التي حققت رفاهية وتقدم اقتصادي هي أنها تختلف بشكل كبير عن بعضها في العديد من الخصائص فمثلا منها ما لا تتجاوز مساحتها 710 كلم مربع مثل سنغافورة ومنها ما تتعدى مساحتها 3.2 مليون كلم مربع مثل الهند، منها ما لا يتجاوز عدد سكانها 5 مليون نسمة ومنها ما يتجاوز عدد سكانها المليار نسمة، هناك دول تملك ثروات طبيعية وبشرية كبيرة ودول لا تملك ثروات طبيعية ولكنها اعتمدت على التكنلوجيا وعوامل أخرى، أيضًا هذه الدول تقع في قارات مختلفة وبالتالي تتباين في تاريخها وحضارتها ولغاتها وثقافتها، ولكن على الرغم من كل هذه الاختلافات إلا أنهم اشتركوا جميعًا في أنهم استطاعوا تحقيق نهضة اقتصادية كبيرة وطفرة على كل مستويات الدولة الصحية والتعليمية والاجتماعية وليس الاقتصادية فقط ، فلكل دولة منهم تجربتها الخاصة وفق موقعها وإمكانياتها ومواردها، فلا نستطيع أن نعمم تجربة معينة ونعتبر أنها التجربة الأمثل، فكل تجربة هي مثالية بالنسبة لظروف كل دولة.
اولاً تجربة سنغافورة: –
هي دولة جزرية أي أنها تتكون من مجموعة من الجزر، مساحتها حوالي 700 كلم مربع، عدد سكانها حوالي 5 مليون نسمة، تقع جنوب شرق آسيا وتعتبر سادس أهم مركز مالي في العالم بعد نيويورك، لندن، بكين، شنغهاي ولوس انجلوس.
التحديات: –
إذا القينا نظرة على تاريخ الدولة وتركيبتها الاجتماعية والموارد التي تملكها نجد أن سنغافورة واجهت عدد كبير من المعوقات التي كان من الممكن أن تعرقل مسيرة التنمية فيها، فهي حصلت على استقلالها 1965 وكانت دولة فقيرة جداً ليس لديها أي موارد طبيعية مثل البترول أو الغاز مثل الإمارات وقطر ولا تملك ثروة معدنية مثل بعض الدول الأفريقية ولا تملك ثروة بشرية مثل الصين واليابان، أيضًا سكانها غير متجانسين أي أنهم يتكونون من أعراق وجنسيات وأديان مختلفة حيث يمثل الصينيون 75% من السكان و 15% من الملايو و 8% هنود وإذا نظرنا للمعتقدات فالحال ليس أفضل، فأمامنا مزيج شديد التنوع منها يضم المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين والطاويين وغيرها من الأديان والطوائف.
والسؤال المهم هنا بعد استعراض هذه المعوقات ، كيف استطاعت دولة مثل سنغافورة تحقيق الطفرة الاقتصادية التي حققتها حيث أصبح إجمالي الناتج المحلي 377 مليار دولار ومتوسط دخل الفرد 72 الف دولار سنويًا ومعدل نمو 7.5 % ومعدل بطالة لا يتعدى 3.6 %، وإذا قمنا بمقارنة هذه المؤشرات بالولايات المتحدة الأمريكية أقوى اقتصاد على مستوى العالم حاليًا نجد أن متوسط دخل الفرد سنويًا في الولايات المتحدة 70 الف دولار ومعدل النمو 5.9 % ومعدل البطالة 5.5 % وإجمالي الناتج المحلي 23 تريليون دولار، أي أن سنغافورة تتفوق على الولايات المتحدة في معظم المؤشرات باستثناء الناتج المحلي الإجمالي في صالح الولايات المتحدة.
كيف استطاعت سنغافورة تجاوز الأزمة: –
اعتمدت سنغافورة في استراتيجيتها التنموية على كفاءة العنصر البشري والجدارة بشكل كامل حيث أنها لا تملك موارد طبيعية ولا تملك عدد كبير من السكان ولا مساحة كبيرة فيمكنها إقامة مشاريع ومصانع كثيرة، إذاً ما الذي فعلته؟
إدارة الموارد البشرية: –
اعتمدت بشكل كبير على اكتشاف العناصر البشرية المميزة وذات الكفاءة العالية، وكانت هذه الاستراتيجية للذين وصفوا بأنهم الآباء المؤسسين لسنغافورة مثل “لي كوان يو”، و”غو كينغ سوي”، و”إس راجاراتنام”، وهذة الكفاءة في وجهة نظرهم توجد في الأحياء الفقيرة والغنية معاً أي أنها ليست حكراً على الأغنياء فقط لذلك ليس من المستغرب أن وزيرين من أنجح وزراء سنغافورة، وهما وزير التجارة، ليم هنغ كيانغ، ووزير الصناعة، تشان تشون سينغ، ينحدران من أسر فقيرة جداً، أيضًا لا تتعجب عندما تعرف أن الدرجة الوظيفية في العمل لا تتقيد بالسن ولكن بالكفاءة أي أنه من الطبيعي جدًا أن يكون رئيسك في العمل أصغر منك سناً لأن الكفاءة هنا هي الأهم وليس السن.
البعثات التعليمية: –
حتى تطور سنغافورة كفاءة مواطنيها اعتمدت على سياسة إرسال البعثات فإحدى الإحصائيات المدهشة التي توضح ببلاغة الامتياز الذي حققته سنغافورة في نظامها التعليمي هي الإحصائية التالية، عندما تعلم أن البلد الذي يرسل أكبر عددٍ من الطلاب غير البريطانيين إلى جامعتي أكسفورد وكامبريدج، هي الصين، وذلك طبيعي لأنها أكبر دولة من ناحية عدد السكان لاحتوائها على 1.4 مليار نسمة، إلا أن المثير للدهشة هنا هو أن تحل سنغافورة في المرتبة الثانية من ناحية عدد الطلاب المرسلين لهاتين الجامعتين، مع أن عدد سكانها لا يتجاوز 5 مليون نسمة.
كل هذه السياسات جعلت سنغافورة تحقق طفرات اقتصادية عظيمة في غضون عقود قليلة، وبالطبع سياسة سنغافورة يمكن تعميمها على جميع الدول فهي سياسة عامة لا تتقيد بظروف معينة لمساحة الدولة أو عدد سكانها مثلاً أو موقعها أي أنه أي دولة تريد أن تحقق طفرة مثل التي حققتها سنغافورة يمكن أن تعتمد على هذه الاستراتيجية التي تقوم على اكتشاف العناصر ذات الكفاءة عالية والاهتمام بالتعليم، أي الاستثمار في البشر والعقول التي تستطيع فيما بعد قيادة الدولة بشكل صحيح يجعلها قادرة على تحقيق أهدافها.
ثانيًا تجربة البرازيل: –
هي دولة كبيرة وضخمة من حيث المساحة وعدد السكان، حيث إنها خامس دولة على مستوى العالم من حيث المساحة التي تبلغ مساحتها 8.5 مليون كلم مربع، وسابع أكبر دولة على مستوى العالم من حيث عدد السكان الذي يبلغ 214 مليون نسمة، وهي أكبر دولة اقتصادية في أمريكا اللاتينية، وتاسع اقتصاد على مستوى العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي لسنة 2019، بعد أن كانت سادس اقتصاد عام 2011.
التحديات:-
واجهت البرازيل مشكلات اقتصادية قبل هذه الطفرة حيث أن اقتصادها واجه العديد من التحديات أبرزها أن الدين العام الداخلي زاد ثلاث مرات تقريبًا في ثلاث سنوات فقط، وزيادة القروض فمنذ 1999 وحتى 2005 اقترضت البرازيل ما يقرب من 93 مليار دولار من الصندوق لتصبح أكثر دولة مدينة له، غير أن الصندوق فرض بعض الشروط للحصول على القروض منها خفض سعر العملة، وخفض الأنفاق العام، وغيرها من الإجراءات، الملفت للنظر في تجربة البرازيل هي أنها استطاعت أن تحقق هذا التقدم خلال 8 سنوات فقط وهو وقت قياسي هذه هي حقبة الرئيس لولا دا سيلفا الذي تولى السلطة من 2003 وحتى 2010، وبسبب النجاح الذي حققه اعيد انتخابه مره أخرى في آخر انتخابات رئاسية عام 2022.
كيف استطاعت البرازيل خلال هذه الفترة أن تقفز هذه القفزات الهائلة؟
عندما نلقي نظرة على استراتيجية البرازيل الاقتصادية التي جعلتها تحقق هذه الطفرة نجد أنها مختلفة كثيرًا عن تجربة سنغافورة، وذلك طبيعي نظرًا لاختلاف طبيعة الدولتين بشكل كبير عن بعضهم البعض من حيث المساحة وعدد السكان ومدى توافر موارد طبيعية علاوة على اختلاف القارة والثقافة بالطبع.
استغلال الموارد الطبيعية :-
فإذا نظرنا إلى الإجراءات التي اعتمدت عليها البرازيل نجد أنها في المقام الأول أهتمت باستغلال ثرواتها الطبيعية وزيادة صادراتها من خلال التصنيع وخلق قيمة مضافة إلى منتجاتها قبل تصديرها، فالبرازيل في الأساس غنية بالثروات الطبيعية مثل الحديد حيث أنها ثاني أكبر مصدر عالمي للحديد ولذلك أهتمت بإنشاء مصانع للطائرات والسيارات، أيضاً خامس أكبر مصدر للبوكست والمنجنيز على مستوى العالم، ومن أكبر المنتجين للقصدير والنيكل، وأيضاً تستخرج بعض المعادن الأخرى مثل النحاس والذهب، تعد أكبر منتج في العالم لعدد من الأحجار الكريمة.
الزراعة والثروة الحيوانية :-
بالإضافة إلى اهتمام البرازيل بالزراعة بشكل كبير حيث أنها تمتلك أراضي خصبة بشكل كبير نظراً لمرور نهر الأمازون بها أكبر نهر في العالم، فاهتمت بتصدير البن حيث أنها المنتج الأول له على مستوى العالم، وتعد مصدراً رئيسيًا لفول الصويا والسكر والقطن والتبغ، غير أنها اهتمت بالثروة الحيوانية بشكل كبير ايضًا حيث أصبحت من أكبر مصدرين اللحوم والدواجن والبيض والألبان على مستوى العالم.
التحالفات الإقتصادية :-
اعتمدت البرازيل أيضا في استراتيجيتها على الانضمام إلى تحالفات اقتصادية مهمة وكبيرة على مستوى العالم ومؤثرة إلى حد كبير مثل الميركسور، هو تحالف اقتصادي يتكون من دول أمريكا اللاتينية أهمها الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي وباراغواي أما فنزويلا وبوليفيا أعضاء غير كاملين ودولاً أخرى في أمريكا اللاتينية، أيضاً البرازيل عضو في منظمة البريكس التي تضم روسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند، وهو من أهم التحالفات الاقتصادية على مستوى العالم، حيث أنه يضم أكبر الدول على مستوى العالم من حيث المساحة وعدد السكان، أيضًا يضم دول من 3 قارات مختلفة، كلها دول لها تاريخ ومؤثرة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا على الساحة الدولية.
ثالثًا تجربة الهند:-
ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان بعد الصين، حيث تحتوي على 1.3 مليار نسمة، وسابع أكبر دولة على مستوى العالم من حيث المساحة، وخامس اقتصاد على مستوى العالم، بعد الولايات المتحدة، الصين، اليابان وألمانيا.
التحديات:-
ولكن لم تحقق الهند هذا الإنجاز بسهولة لأنها واجهت العديد من التحديات في مسيرتها كان أبرزها ضخامة عدد السكان حيث أن التنمية التي تحققها الدولة يلتهمها في المقابل كبر عدد السكان أي أنها بالرغم من أنها خامس اقتصاد على مستوى العالم إلا أنها تقع في المركز 118 عالميًا من نصيب الفرد من الناتج القومي، عكس مثلاً سنغافورة التي تقع في المركز 36 على مستوى العالم من حيث قوة الاقتصاد ولكنها تحتل المركز الأول من حيث دخل الفرد نظراً لقلة عدد سكانها ، فتحدي السكان من التحديات التي مازالت الهند تواجهه حتى الآن ، أيضًا كان هناك تحدي آخر وهو أزمة النمور الآسيوية الاقتصادية التي حدثت في 1997 ، والتي بالطبع أثرت على اقتصاد الهند في ذلك الوقت بشكل كبير بسبب الركود الذي حققته.
إجراءات التحرير الإقتصادي :-
ما الاستراتيجية التي أتبعتها؟ ما الذي جعل الهند تحتل المركز الخامس اقتصاديًا على مستوى العالم متجاوزة دول عظمى كثيرة؟ استطاعت الهند أن تتخذ استراتيجية مختلفة كثيراً عن سنغافورة ونسبياً مع البرازيل، اتخذت إجراءات التحرير الاقتصادي التي كان أبرزها تخفيض الواردات، إزالة التعريفات، تخفيض الضرائب، جذب الاستثمارات، وإشراك القطاع الخاص، وكانت معظم هذه القرارات من نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نتيجة للقروض التي كانت تحصل عليها، حيث أن تجربة الصندوق لم تنجح في البرازيل وجعلت الوضع الاقتصادي يزداد سوءً ولم يتحسن الوضع في البرازيل إلا بعد اتخاذ قرار جرئ من دا سيلفا في ذلك الوقت وهو التوقف عن القروض من الصندوق والاعتماد على استراتيجية وطنية داخلية، ولكن نجحت نصائح البنك الدولي بشكل كبير في التجربة الهندية.
الزراعة :-
اهتمت الهند أيضاً بالزراعة بشكل كبير حيث أنها في المرتبة الثانية من حيث المخرجات الزراعية ويعمل في قطاع الزراعة نسبة 42% من القوى العاملة في الهند ويساهم في نسبة تتراوح بين %17 و18% من الناتج المحلي الإجمالي في البلد، ونسبة 66 في المائة من السكان مازالوا يعيشون في المناطق الريفية وبالتالي أصبحت الهند من أهم الدول المصدرة للمحاصيل الزراعية الاستراتيجية مثل القمح والأرز والقطن والشاي والتوابل والبقول وقصب السكر والقهوة.
الصناعة: –
تشتهر الهند ببعض الصناعات الاستراتيجية أيضًا مثل الصناعات التكنولوجية التي تتميز فيها الهند بشكل كبير وصناعة الحديد والصلب والجلود والأسلحة والمعدات الكهربائية والأقمشة والمنسوجات، فاهتمام الصين بالزراعة والصناعة من أهم عوامل زيادة الصادرات بشكل كبير ونفس الوقت تقليل الواردات لتحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المحاصيل والصناعات.
التجربة المصرية:-
- الإجراءات التي قامت بها مصر:-
البنية التحتية:-
إذا نظرنا إلى ما فعلته مصر في السنوات القليلة السابقة وخاصة من 2011 وحتى 2014 نجد أنها قامت بالفعل بعمل مجموعة من الإجراءات خلال هذه الفترة، فعلى سبيل المثال، اهتمت بالبنية التحتية بشكل كبير، حيث تقدمت مصر 30 مركزًا في مؤشر البنية التحتية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والذى يقيس مدى توافر وجودة البنية التحتية للنقل البري والبحري والجوي والبنية التحتية للخدمات السياحية، حيث احتلت المركز 56 عام 2021، مقابل المركز 86 عام 2015 وتقدمت أيضاً 100 مركز فى مؤشر جودة الطرق وفق نفس المؤشر، والذى يقيس كفاءة وسلامة واتساع الطرق، لتحتل المركز 18 عام 2021، مقابل المركز 118 عام 2015، فالاهتمام بالبنية التحتية له دور كبير في جذب الاستثمارات الأجنبية وهذا يتضح من خلال ملاحظة تزايد حجم الاستثمار الأجنبي المباشر زاد من 5.2 إلى 9.1 مليار دولار.
الزراعة: –
الجانب الآخر الذي اهتمت به مصر هو الاهتمام بالزراعة عن طريق زيادة الرقعة الزراعية بشكل كبير حيث زادت مساحة الأراضي المنزرعة في مصر بنسبة 9%، لتصل إلى 9.7 مليون فدان في عام 2021، مقارنة بـ 8.9 مليون فدان في عام 2014، علاوة على مشروع الدلتا الجديدة لزراعة 2.2 مليون فدان، ستحقق هذه المشاريع الكبرى الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والأرز لتقليل فاتورة الاستيراد وتحقيق فائض من بعض المحاصيل مثل الخضراوات والفاكهة لتصديرها وتوفير العملة الصعبة.
الصناعة :-
أصدرت مصر أيضاً قرار بخصوص حظر تصدير أي مواد في شكلها الخام او كمواد أولية، أي أنه يجب إضافة قيمة مضافة عليها عن طريق دخولها في بعض الصناعات حتى يمكن تصديرها، وهذا القرار في غاية الأهمية لأن تصدير المواد بشكل خام يكون أرخص بكثير بالطبع من تصديرها في شكل صناعات وبالتالي مصر لا تستفيد منه بالشكل الأمثل علاوة على الاضطرار لاستيراد هذه المواد مصنعة بعد تصديرها خام بتكلفة أعلى بكثير بالطبع، من إيجابيات القرار أيضاً أنه يوفر فرص عمل كثيرة عن طريق المصانع التي تقام على تلك الصناعات.
الطاقة: –
تعمل مصر في الوقت الحالي على مشاريع الربط الكهربائي مع دول إفريقيا وبعض الدول العربية نظرًا لأنها استطاعت في السنوات السابقة التحول من وجود عجز 6000 ميجا وات في 2014 إلى فائض 13 ألف ميجا وات في 2022، علاوة على اكتشافات الغاز في شرق المتوسط مثل حقل نور الذي يحتوي على 30 تريليون قدم مكعب وغيره من الاكتشافات الأخرى التي ساهمت في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي مما يقلل من فاتورة استيراد الطاقة، وتحقيق فائض من الغاز حيث تعمل مصر على تصديره الى أوروبا عن طريق اليونان.
- كيف تستفيد مصر من تجارب الدول الأخرى: –
بالنسبة لمصر فهي بالطبع لم تحقق التقدم المأمول بعد، لكنها تسير في خطوات ثابتة نحو تحقيق تقدم اقتصادي ملحوظ يشعر به المواطن، وتستطيع من خلاله تحقيق الرفاهية الاقتصادية، فهذا ليس بالمستحيل لأن هناك دول بالفعل حققت هذا التقدم منها النماذج التي أشرنا اليها وغيرها، ولكن بالتأكيد كل دولة تختلف عن الأخرى في ظروفها وإمكانياتها، ولكن المؤكد أن الدول برغم اختلافها إلا أنهم جميعًا استطاعوا تحقيق هذا التقدم بشكل او بآخر، فهذا واضح من خلال استعراض الثلاث نماذج السابقة، فالحالة المصرية بالطبع تختلف عن سنغافورة والهند والبرازيل تمامًا، ولكن هذا لا يمنع إمكانية استفادة مصر من التجارب الثلاثة معًا وعمل استراتيجية فريدة تتفق مع ظروفها وإمكانياتها.
فعلى سبيل المثال يمكن أن نستفيد من سنغافورة في استراتيجيتها الخاصة بالاهتمام بالتعليم والبحث عن الكفاءات والكوادر، فسنغافورة على الرغم من قلة عدد سكانها لكنها استطاعت أن تجد وسط هذا العدد الضئيل بعض الكفاءات التي كان لها دور كبير في نهضتها فما بالك بتعداد مصر الذي يتجاوز 100 مليون مواطن، بالطبع إذا ركزت مصر على البحث عن الكوادر سوف تجد عدد كبير من الذين يستحقوا التواجد في مناصب مرموقة يستطيعوا من خلالها أن ينهضوا بمصر نهضة حقيقة.
يمكن الاستفادة من تجربة البرازيل في الاهتمام بالزراعة والصناعة بشكل كبير حيث أن مصر تملك نهر النيل وأراضي كثيرة خصبة تساعدها على تحقيق الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل وتصدير الفائض إلى الدول الإفريقية والأوروبية.
يمكن الاستفادة أيضًا من تجربة الهند من خلال إزالة بعض القيود وتخفيض الضرائب وتسهيل إجراءات الاستثمار الأجنبي ورجال الأعمال، حيث أن مصر سوق كبير ويملك قدرة شرائية كبيرة وبالتالي هو مشجع للاستثمار ولكن يجب توفير المناخ الآمن للمستثمرين لأن الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات لن تخاطر بالاستثمار في مناخ غير آمن أو يمثل خطر على استثماراتهم.
- العوائق: –
برغم الجهود التي قامت بها مصر إلا أن هناك العديد من العوامل التي تعطل أو تبطئ من سرعة التقدم لعل أبرزها وجود أزمة اقتصادية عالمية حاليًا تواجهها كل دول العالم تقريبًا بغض النظر عن قوتها الاقتصادية، بسبب توابع فيروس كورونا وبعدها الحرب الروسية الاوكرانية التي اشتعلت من عام تقريبًا ولم تنتهي حتى الآن، هناك عائق آخر وهو زيادة السكان بشكل كبير كل عام لأنها تلتهم في المقابل التنمية التي تحققها مصر وهو تحدي مشابه للذي تواجهه الهند في تجربتها، هناك تحدي آخر وهو زيادة معدلات البطالة والأمية وبالتالي زيادة نسبة الإعالة والتي تعتبر من معوقات الاقتصاد المتقدم.
- خاتمة: –
العامل الجوهري المشترك في هذه النماذج هي التضامن والتعاون الحقيقي بين الدولة والمواطنين، فإذا كان للدولة دافع اقوى لتحقيق التقدم من المواطنين فلن تنجح التجربة والعكس صحيح تمامًا أي أنه يجب أن يكون لدى المواطنين والدولة نفس الدافع القوي لتحقيق مستقبل أفضل لمصر، والعامل الآخر المهم أيضًا هو الصبر والتحمل أي ما يسمى بإجراءات التقشف والتي مرت بها كل الدول التي حققت طفرة اقتصادية بدون استثناء، فالدول التي حققت طفرات اقتصادية لم تحقق ذلك من يوم وليلة فقد استمرت عملية التنمية لعدة سنوات متتالية حتى يظهر بشكل واضح هذا التقدم والتحسن، ما بذلته مصر خلال السنوات السابقة جهد كبير جدًا في فترة زمنية قليلة، ولكن لا يجب أن نتوقف عند هذا الحد أو نستسلم بل يجب أن نبذل جهد وتضحيات أكبر حتى نحقق ما نأمله، وما يليق بمصر كدولة عظيمة لها تاريخ ومؤثرة إقليميًا بشكل كبير.