إعداد: محمد عادل عثمان
باحث فى العلوم السياسية
تشهد السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023 صراع وصدام مسلح بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع التي تحاول أن تُسيطر على البلاد والمراكز الحيوية في الدولة، وتَسبب هذا الصراع في مقتل ما لا يقل عن (500) شخص وإصابة ما لا يقل عن (4000) آخرين في مشهد قد يبدو أنه معقد وقد يدوم طويلًا، في ظل المخاوف التي يخشى منها المجتمع الدولي من أن يؤدى هذا الصراع إلى حرب أهلية في البلاد، وفي ظل هذا الوضع المضطرب على الأرض، ترتفع الدعوات بضرورة التدخل الدولي السريع والعاجل لحل هذا النزاع وأمام محاولات تأتي من هنا وهناك لِهُدن قصيرة الأمد ثبت فشلها وعدم نجاحها في إحراز أي تقدم ملموس.
تنظر الصين إلى السودان من منطلق جيوسياسي يجعلها من بين الدول التي ترى فيها الحكومات الصينية دولة يمكن أن تمثل جزء أساسي من الاستراتيجية الكبرى للصين التي تعتبر دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عوامل مساعدة يمكن للصين الاستعانة بها في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، ولذلك حافظت الصين منذ بداية علاقاتها مع السودان سياسة شبة ثابته تقوم على عدم الانحياز إلى طرف على حساب آخر والتريث في قراءة المشهد السوداني؛ إذ ظلت تحافظ على التقارب مع كافة الحكومات التي أتت في السودان دون النظر إلى خلفياتها السياسية.
تتبني الصين منذ أعوام سياسة خارجية تقوم على لعب دور الوسيط في حل المشكلات حول العالم مدفوعة بذلك رغبتها الجامحة في إزالة كافة العقبات التي تعرقل مشروعها الامبراطوري المعروف بـ” طريق الحرير الصيني”، فمنذ يونيو 2022 عملت الصين على طرح نفسها كوسيط دبلوماسي لحل أي صراعات قد تنشأ في منطقة القرن الإفريقي.
وبشكل عام تحاول هذه الورقة أن تلقى الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في تحقيق وساطة تفضي إلى وقف القتال في السودان وتقود إلى تسوية سياسية أعمق بين الجانبين، تقود في نهاية المطاف إلى الجلوس على طاولة الحوار الأممية.
اولًا_ محددات ضاغطة:
كانت البداية الأولى للعلاقات الصينية السودانية منذ اللقاء الذى جمع الرئيس السوداني الراحل ” إسماعيل الأزهري” مع رئيس الوزراء الصيني ” تشو آن لاي” في عام 1955 في مدينة باندونج بمؤتمر عدم الانحياز، حيث كان هذا اللقاء بداية الإرهاصات الأولى للعلاقات بين البلدين ، واعترفت بعد ذلك حكومة إبراهيم عبود بجمهورية الصين الشعبية في فبراير 1959 ، كما اتخذت موقف من قضية انفصال جنوب السودان منذ ستينيات القرن الماضي حيث طالبت بضرورة الحفاظ على وحدة البلاد، وقد أدت هذه السياسة إلى تمكن الصين من الحفاظ على علاقات دبلوماسية شبة ثابتة مع السودان، وأخذت تتركز بشكل أساسي في التعاون التجاري والاقتصادي حيث صدرت الصين إلى السودان الشاي وسلع أخرى بينما استوردت الصين قبل الاكتشافات البترولية المواد الخام كالجلود.
تعززت العلاقات بين الصين والسودان بشكل كبير في التسعينيات القرن الماضي بسبب التعاون في مجال النفط، حيث وقعت كيانات صينية اتفاقيات للتنقيب عن النفط مع السودان في عام 1994 حيث وصل حجم عمل الشركات الصينية في البترول السوداني ما يقارب الـ 40% ، كما اتخذت الصين موقف معادي للقررات الأمريكية الخاصة بوصف السودان كـ ” دولة راعية للإرهاب” وقام وزير خارجيتها في ذلك الوقت” تشيان تشي شن” بزيارة السودان في يناير1994 مثلت دعم سياسي صيني للحكومة السودانية.
وبحلول عام 2008 أصبحت السودان ثالث أقوى وأكبر شريك تجاري بالنسبة للصين، بعد إنجولا وجنوب إفريقيا، ولكن أدى انقسام جنوب السودان عام 2011 إلى إحداث تغيرات في طبيعة السياسة الخارجية الصينية تجاه السودان حيث أجبر هذا الانقسام الصين إلى السعي نحو إقامة علاقات متوازية مع الدولتين، فجنوب السودان باتت تمثل دولة بترولية والسودان يعتبر المنفذ البحري الذي يسمح لنفط الجنوب بالمرور بالإضافة إلى الرغبة الصينية في الحفاظ على الاستثمارات في كلًا من الدولتين .
نجحت الصين في الحفاظ على علاقات قوية مع السودان بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في عام 2019، ودعمت الصين علنًا الحكومة الانتقالية في البلاد، كما ظلت هذه العلاقات قائمة بشكل ودي، كما استمرت هذه العلاقات قائمة بين الصين والسودان حتى بعد الأحداث التي شهدتها البلاد في أكتوبر 2021 .
وهناك جملة من العوامل التي تدفع بالصين إلى الدفع نحو الوساطة والتدخل في هذه الأزمة وهي:
- لدى الصين تعاون اقتصادي مع السودان حيث وصل إجمالي الصادرات الصينية إلى السودان في عام 2022 أكثر من 2 مليار دولار، إضافة إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية مع الحكومة السودانية بما يقارب من 17 مليون دولار أمريكي عام 2022، كما تمتلك الصين الكثير من مشروعات البنيَ التحتية في السودان ولديها حصة سوقية تتعدي الـ 50% كما أن لها (130) شركة تعمل في السودان بالإضافة إلى الانتشار الواسع للعمالة الصينية في السودان .
- 2. تخشى الصين من أن يمتد الصراع ويطول أمده مما قد يعرض مصالحها خاصةً في مجال التعدين إلى الهجمات من قوات “فاجنر” الروسية، حيث تتبني هذه القوات سياسة تقوم على أساس التواجد بالقرب من أماكن الذهب والتعدين في إفريقيا[iv]، ولدى الصين اِهتمام واسع بالثروات المعدنية في السودان حيث يعمل معهد ووهان للدراسات الجيولوجية بالتعاون مع معهد الدراسات والأبحاث الجيولوجية في السودان في مجالات التدريب والأبحاث الجيولوجية والدراسات المسحية لمناطق التعدين، مما دفع الحكومة الصينية عبر نائب وزير الموارد الطبيعية الصيني إلى الإعلان عن استعداد بلاده لدفع الشركات العاملة في مجال التعدين للعمل بالسودان، مما شجع شركة (وأن باو) على توقيع اتفاق مع الحكومة السودانية في ديسمبر 2020 حول تبادل الخبرات والتنقيب عن المعادن .
- الخوف من أن يؤثر الصراع على التدفقات النفطية القادمة من جنوب السودان؛ حيث تعمل الشركات الصينية النفطية في السودان بشكل عام منذ ما يفوق الـ (30) عام، وبعد انفصال الجنوب أصبح السودان يمثل معبر أساسي لنفط جنوب السودان والتي تمر عبر بورتسودان شرقًا؛ حيث تحصل الصين على 2% من احتياجاتها النفطية من دولة جنوب السودان.
- المخاوف من أن يمتد هذا الصراع إلى دول الجوار وبخاصة القرن الإفريقي التي تمتلك الصين فيها مصالح كبرى خاصة أنها جزء من طريق الحرير الصيني.
ثانيًا_ترقب الفرصة: “انحسار العنف “
لقد جرت العادة أن الصراعات عندما تبدأ، يكاد يكون من المستحيل التوسط في حلها في المراحل المبكرة، ففي المراحل الأولى، غالبًا ما تتوقع الأطراف المتحاربة أن كل طرف بإمكانه القدرة على الحسم، وأمام قاعدة أن من سينتصر في هذا المعركة هو من سيتمكن من تحقيق مطالبه ويستمر في المشهد السياسي بالسودان يحاول طرفي النزاع ألا يكون هو الخاسر، ولكن على الرغم من ذلك إلا أن هناك دعوات من قِبلِ القوى الدولية والمنظمات الدولية والإقليمية التي تطالب بضرورة الجلوس إلى التفاوض مُبكرًا قبل تفاقم الأوضاع على الأرض، إلا أن الصدى لهذه الدعوات لا يزال محدودًا.
لم تتدخل الصين على خط الوساطة تجاه طرفي الصراع في السودان ، الأمر الذي يجعلها تراقب تطورات الأوضاع على الأرض، مع السعي نحو الحفاظ على استثماراتها ومصالحها هناك، ولكنها تعتبر في وضع جيد للوساطة بين طرفي النزاع، وهو ما أكده” ما شياولين” أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تشجيانغ الدولية، خاصة بعد نجاحها في الوساطة بين إيران والسعودية وإن كان الحكم عليه لا يزال مُبكرًا إلا أن السياسة الصينية القائمة على عدم التدخل في شؤون الدول تجعل منها وسيط مقبول في مثل هذه المشكلات، ولقد صرحت الخارجية الصينية في 16 أبريل 2023 بأنها تسعى إلى تعزيز الحوار بين طرفي الصراع وتعزز من عملية الانتقال السياسي ، حيث من الواضح أن الصين تنتظر انحسار العنف على الأرض وفقا لرؤية ” بنجامين بارتون” من جامعة نوتنغهام بماليزيا، مما يعطى لها فرصة في طرح وجهة نظرها على طرفي الصراع الذي سيكون قد انهكهم أمد القتال
ثالثًا_سيناريوهات الوساطة:
لم تقدم الصين (حتى تاريخ كتابة هذه الورقة) أي مبادرات على الأرض تحاول فيها الوساطة لحل النزاع ويرجع ذلك إلى أن الصين تدرك الطبيعة المعقدة للصراع في السودان ومدى تضارب المصالح الدولية والإقليمية هناك ، ولكن على الرغم من ذلك فإن إمكانية أن تقدم الصين على وساطة أحادية ودعوة طرفي الصراع في السودان للتفاوض تبدو ممكنة خاصة أن الصين في الآونة الأخيرة اهتمت بمعالجة الصراعات في منطقة القرن الإفريقي وطرح نفسها كقوة تسعى لخلق الاستقرار كدورها في الوساطة لإنهاء الصراع في إثيوبيا ، وبالإضافة إلى ذلك هناك عدد من السيناريوهات التي قد تتدخل من خلالها الصين للعب دور الوسيط في الأزمة السودانية وهي:
1.التعاون مع المنظمات الإقليمية في إفريقيا:
منذ اندلاع أعمال العنف في السودان، دعت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي إلى ضرورة وقف أعمال القتال والجلوس إلى التفاوض ، الأمر الذي يتلاقى مع رؤية الصين في حل هذه الأزمة حيث ترى الصين أن الحل يمكن أن يكون عبر المنظمات الإقليمية حتى لا تسمح بأن يكون هناك تدخلات أكبر قد تؤثر على مصالحها مستقبلًا، لذا من المنتظر أن تتجه الصين نحو تفعيل دور مبعوثها في القرن الإفريقي والشرق الأوسط لعرض وساطة بلاده في الأزمة ، وقد تتجه الصين نحو التعاون مع المنظمات الإقليمية كالاتحاد الإفريقي كمظلة للدول جامعة للقارة الإفريقية، “والإيجاد” التي تقدمت بدعوة لوقف القتال بين الأطراف المتصارعة عبر مباردة تهدف إلى تسهيل الحوارب ين كافة الأطراف لإيجاد حل جذري للأزمة، إلى جانب جامعة الدول العربية كمُنظَمة تجمع الدول العربية في التوصل إلى تسوية سياسية للصراع بين الطرفين حيث يمكن للصين أن تلعب دور داعم لتوجهات هذه المنظمات ، بالإضافة إلى توحيد الجهود والرؤى بينهم.
إن الإشكالية التي قد تعرقل هذا المسار أن الإتحاد الإفريقي في السنوات الأخيرة لم ينجح في حل المشكلات الإفريقية نتيجة الارتهان لبعض التأثيرات الدولية والإقليمية التي تعرقل من إداوته، إضافة إلى الخلافات في جامعة الدول العربية حول عدد من القضايا التي قد تؤثر على دورها في الكثير من القضايا العربية، ولعل أبرزها الخلاف الذي كان متواجدًا حول موقف بعض الدول العربية من عودة سوريا إلى الجامعة، بين مؤيد ومعارض ومتحفظ ، لذا ، يتوقف نجاح هذا المسار في القدرة التي يمكن أن تمارسها الصين كطرف محايد يدفع نحو تغليب مصلحة السودان على مصالح الأطراف التي قد تؤثر في قرارات المنظمات الإقليمية المعنية بهذا الصراع .
2.الوساطة على أساس الكل رابح:
يؤدى تعدد المصالح للكثير من الأطراف في السودان، خاصة بين روسيا من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى إلى إدراك الصين أن إمكانية لعب دور الوساطة بمفردها في هذا الملف لن تُجدي نفعًا ، ما يدفعها إلى عدم تأييد أي طرف في النزاع وينبع هذا التوجه الصيني من تعاملها السابق مع أزمة دارفور عام 2003 حيث كانت الصين غير مبالية بالعنف الدائر هناك ، واعتقادًا منها أن أزمة دارفور قضية محلية، إذ سعت بكين في ذلك الوقت إلى تجنب اتخاذ أي موقف سلبي قد يهدد مصالحها النفطية ، غير أن الغطاء الدبلوماسي الذي وفرته للحكومة السودانية آنذاك أثار حفيظة الدول الغربية، وهو ما جعل بكين تعيد النظر في سياستها تِجاه السودان ككل وبخاصة تِجاه قضية انفصال الجنوب، بحيث باتت الصين ترسم سياساتها في السودان بالشكل الذي لا يجلب لها عداء الولايات المتحدة والغرب، على غرار ما حدث في عام 2013 ، في تسهيل محادثات السلام بين السودان وجنوب السودان بالتعاون مع الولايات المتحدة والغرب ، نظرًا لان التحركات الصينية في إفريقيا بشكل عام تحركات اقتصادية في المقام الأول وبالتالي فإنها مصالح معرضه للضرر بطرق شتى.
يمكن للصين أن تتقدم بمبادرة مشتركة مع القوى الدولية التي لها مصالح في السودان وبخاصة من قبل الولايات المتحدة لتسوية هذا الصراع، مستندة في ذلك إلى الموقف الإيجابي من وساطتها في الأزمة الأوكرانية خاصةً بعد الزيارات التي تجريها دول أوروبية إلى الصين بهدف حَسّها على أن تلعب دور أكبر في إيجاد حل للأزمة الأوكرانية، ولعل ما يرجح أن تتبني الصين هذا التوجه أن طبيعة الصراعات التي تشهدها الشرق الأوسط غالبًا ما تكون صراعات بين مصالح متعددة تدفع بأطرافها إلى التأثير على مصالح بعضهما البعض حتى لو تطلب الأمر أن يكون هناك حرب بالوكالة كحالات سوريا وليبيا وغيرها من الصراعات التي شهدتها دول المنطقة في السنوات الأخيرة، وهو ما لا ترغب الصين في تكراره في السودان، لذلك فإن الميل إلى “قاعدة الكل رابح” يعد الخيار الأمثل للصين لكى لا تتأثر مصالحها.
وختامًا يمكن القول بإن الصين لن تتخذ تحركات سريعة للوساطة في السودان وستتبقى مراقبة للوضع الداخلي والمحاولات التي تجريها بعض القوى الدولية والإقليمية للتسوية على الأرض، وقد تتحرك الصين لتقديم مبادراتها للحل عندما تميل كفة الصراع لأي من الطرفين أو في حالة نجاح الوساطات التي تسعى لوقف إطلاق النار ثم الجلوس للتفاوض عل مستقبل السودان، وهذا يرجع إلى أن الصين تدرك التقارب في مستوى القوة لدى طرفي النزاع، حيث تتمع قوات الدعم السريع بقوة اقتصادية تجعلها قادرة على الاستمرار في المعارك .
تدرك الصين أيضًا أن أي محاولات لوساطة محتملة ستجد عرقلة من قِبل الولايات المتحدة والغرب الذي يرى أن صيت الدبلوماسية الصينية كبر بعد صفقة الرياض – طهران، لذلك فإن الحل في وقف القتال في السودان يتوقف على مدى قدرة الأطراف الدولية المؤثرة في الضغط على طرفي النزاع للجلوس إلى طاولة المفاوضات، مع إقناع كلًا منهما على تقديم تنازلات تفضي لتهدئة أوسع.